في هذا العالم الكبير المتسارع الضخم، لم يعد لأي إنسان أي مجال أن يكون شخصًا عاديًا، الحياة ليست وردية، وكل عاقل سيدرك أننا لم نخلق للراحة، وإذا اخترنا طريقًا مريحًا فسنحل في القاع، لن يعرفنا أحد، ولن نعرف ما هو أعلى من مستوى نظرنا، حتى إن طريقنا في الحياة لن يكون باختيارنا في معظم الوقت.
نحن الآن في آخر أجيال البشرية التي يولد بها الإنسان وحوله أكثر من مجرد أب وأم وأخوة، وطريقه الأبعد الذي يمكن أن يصل إليه هو أبعد من مكان العمل أو الدراسة، علاقاته لا متناهية من الصداقة والزمالة، نوافذ بيته تطل على باحة البلد المجاور، أصدقاؤه المقربون في النصف الثاني من الكرة الأرضية، وعلمه تجاوز حدود دفتي كتاب المدرسة أو الجامعة، وعمله الذي يكسب منه أجرًا في القارة الأخرى، ولم تعد شاشته في منزله، بل في جيبه الصغير.
هذا حال بشرية اليوم، تولد ومعها معطيات أكبر، تولد وعلى كاهلها مسؤولية نفسها منذ الصغر، أجيالها هي الأذكى على الإطلاق، يولد إنسان اليوم بأدوات وبيئة خصبة تدعوه للعمل أكثر والبناء بابتكار وبشكل أوسع، على الأقل هم من أبناء البشرية الذين أتيح لهم أن يقرأوا مقالتي هذه أو من الممكن أن يتاح لهم قراءتها على سبيل المثال.
لكن معظم البشر في هذا العالم يموتون وسيرتهم لم تتجاوز دائرة أقربائهم، وذكرهم لا يستمر لأكثر من عام أو عامين، بينما صدى آخرين مازال يصدح في الإعلام والكتب والشاشات وعلمهم يتناقل ويكتب ويدرس عبر الأجيال، هؤلاء لم يكونوا سوى أصحاب إرادة وعقل، كرسوا حياتهم من أجل هدف أو من أجل رسالة أو من أجل إجابة سؤال شغل بالهم وتفكيرهم، الكثير من أصحاب البصمات المميزة كان محركهم نحو الاستكشاف والعمل والإبداع هو الحرمان أو المعاناة أو الفضول، ولحسن الحظ أن العالم أتاح لنا أن نرى مثل هؤلاء، نماذج مبدعة جابهت ووصلت لقمم الإنجاز، قرروا ألا يختاروا طريقًا مختصرًا محصورًا، إنني أقول ذلك لأن محركنا اليوم من الممكن أن يكون ماهية عالمنا المفتوح الذي أتاح لنا كل شيء وكل الوسائل إلى حد ما، ووضع العلم بأيدينا ليوصلنا للوعي والإدراك في وقت مبكر.
وإذا أردنا وصف الوجه الآخر من عالمنا اليوم نجد فيه دمارًا وخرابًا وجوعًا حتى الموت، فعلى قدر وهج العالم تكون العتمة في الجزء الآخر، العالم هرم ومريض، أعمار قاطنيه قصيرة، وهو كما كان منذ الأزل: وحشي!
ولأنه كذلك، لا تكن على الهامش رغم ما لديك! بل لا بأس أن تكون طماعًا استغلاليًا – بشكل إيجابي – في التعلم والعمل، كثيرًا ما نسمع جملة القاع ممتلئ، وأنا أقول بل القاع قد فاض والعُمر قصير، وعالمنا اليوم يحتاج للنوع لا للكم، وهذا يترادف مع حديث رسول الله المؤمن القوي خيرُ من المؤمن الضعيف، فمن يملك المعلومة والمعرفة يحكم ويقود ويسيطر، ومن عَرَفَ: أَدْرَك، أدرك معنى الأخذ والعطاء فعرف طريقه وكافح، وأزال العثرات عن دربه بيديه وأسنانه، وجرب، فوقع، فجرب، فقدم، وتقدم، ثم ترك أثرًا طيبًا للبشرية بعد الرحيل.