يبدو أن الأمور ليست واضحة في الشرق الأوسط، هذه العبارة تبدو أقرب رؤية أو وصف لما جرى في الأيام الأخيرة، في أحد أهم الملفات الإستراتيجية التي ترسم حاليًا وجه المنطقة العربية والشرق أوسطية، وربما المشرق الإسلامي بأكمله، وهو المشروع الإيراني، بكل ما فيه من صيروراته وارتباطات.
فمنذ بضعة أيام، وقف وزراء خارجية إيران والاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، والقوى الكبرى العالمية بأكملها، لكي “يشيدوا” بإيران، و”يحتفلوا” برفع العقوبات الغربية والدولية عن طهران، بعد أن أكدت الوكالة الدولية للطاقة الذرية في تقريرها الأخير، التزام طهران ببنود الاتفاق النووي الموقع مع القوى الكبرى، في يوليو من العام 2015 الماضي.
وفي أجواء الزخرف والاحتفال، التي سادت خلال إعلان تقرير الوكالة، وبدء المواطنين الإيرانيين في الإعداد لمرحلة جديدة من العيش، بعيدًا عن التقشف الذي فرضته سنوات العقوبات الأمريكية والدولية العجاف، أعلنت الولايات المتحدة – فجأة – عن فرضها لعقوبات جديدة على بعض الشركات الإيرانية، والأشخاص، بسبب الاختبار الذي أجرته إيران مؤخرًا لصاروخ باليستي، تقول الولايات المتحدة إنه قادر على حمل أسلحة نووية.
العقوبات الجديدة تمنع 11 شركة وشخصية ذات صلة ببرنامج الصواريخ الإيراني من استخدام المصارف الأمريكية.
وقبل تحليل الموقف، وتبعاته على المصالح العربية، وخصوصًا المصالح الاقتصادية والأمنية والسياسية لدول الخليج العربي التي تخوض بعضها الآن حروبًا مفتوحة وعلنية مع إيران؛ فإنه من الأهمية تحليل القرارات الغربية الأخيرة برفع العقوبات عن إيران، بعد تقرير الوكالة الأخير.
الدكتور أوليفر ماير، وهو خبير في شؤون مراقبة التسلح لدى مؤسسة العلوم والسياسة في برلين، يقول إن رفع جميع العقوبات عن إيران، لن يتم مرة واحدة، وقال في تصريحات لموقع “دويتشه فيلِه” الألماني، إن رفع العقوبات التي كانت مفروضة على إيران بسبب برنامجها النووي، إنما هي “عملية تدريجية، وليس مرةً واحدةً”.
وأوضح في تصريحه “صحيح أن جميع العقوبات تفقد في هذا اليوم أهميتها من الناحية التطبيقية بالنسبة لإيران وشركائها التجاريين، لأن العقوبات التجارية والمالية لا تطبق بعدها، إلا أنه من المنظور القانوني البحت فإن العقوبات التي فرضتها الأمم المتحدة على إيران بشأن أنشطتها النووية هي التي تم رفعها فعليًّا، أما الاتحاد الأوروبي فلم يرفع عقوباته ضد إيران، وإنما أوقف تطبيقها، مثلما تفعل الولايات المتحدة”.
وهو وضع يجب أن يتم فهمه بمنتهى الدقة، فالاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة لم ترفع العقوبات عن إيران، وإنما أوقفتها أو جمدتها فقط، وبالتالي فإنه يمكن استئنافها “فورًا”، إذا ما حدث ما يثبت عدم التزام إيران باتفاق يوليو الماضي النووي.
ويشير ماير هنا إلى أن جميع الدول الدائمة العضوية في مجلس الأمن الدولي والتي لديها حق النقض (الفيتو)، يمكنها نسف الاتفاق النووي مع إيران؛ حيث تمت صياغة الاتفاق بشكل يسمح لهذه الدول في أي وقت بأن تتهم طهران بانتهاك بنوده، وبالتالي إعادة إحياء العقوبات المفروضة على إيران.
هذا يخلق واقعًا سياسيًّا من المهم إدراكه كذلك، ويتعلق باستمرار الأزمة بين الغرب وإيران، بكل ما يعنيه ذلك من تبعات أمنية وسياسية على المنطقة، خصوصًا بعد العقوبات الأمريكية الأخيرة، إلا أن العقوبات الأمريكية الجديدة لا تمس قدرة إيران على تصدير النفط، وهو أحد أكبر العوامل المتغيرة التي طرأت على الأوضاع في المنطقة في هذه الآونة.
إيران أعلنت أنها بصدد ضخ 500 ألف برميل من النفط إضافية يوميًّا إلى السوق العالمي، وهو ما يعني في ظل التراجعات الكبيرة في الأسعار حاليًا إلى مستويات لم تعرفها منذ العام 2003 المزيد من التراجع، وبالتالي المزيد من تفاقم الأزمات التي تعصف بالموازنات العامة لدول الخليج العربي، والدول العربية النفطية بشكل عام.
هنا ثمَّة إشارة لا بد منها، وهي أن مصرف سنغافورة المركزي، قدر تراجعات أسعار النفط بحساب معدلات التضخم، وقال إن هذه الانخفاضات تعني تراجع الأسعار لمستويات الأزمة الاقتصادية الآسيوية في نهايات التسعينات الماضية.
وعودة إلى تبعات دخول إيران إلى سوق النفط العالمي، فإننا هنا نشير فقط إلى أن الأسعار الحالية – من دون حساب تأثير دخول إيران السوق النفطي مجددًا – أدت إلى فقدان كل من سُلطنة عمان والجزائر والكويت لأكثر من 50% من عائداتها النفطية، وهذه العائدات النفطية بدورها تساوي ما بين 90:80% من مصادر الدخل القومي لبعض هذه الدول، بينما تعاني المملكة العربية السعودية من عجز في الموازنة، حوالي مائة مليار دولار.
ولا تُعتبر موازنات الدول الخليجية والعربية النفطية هي الضحية الوحيدة للتطورات الراهنة على مستوى الملف الإيراني، حيث إن القطاع المالي بدوره تضرر تضرُّرًا بليغًا، ففي اليوم التالي لإعلان رفع العقوبات عن إيران، ووسط التراجعات المستمرة لأسعار النفط، تراجعت أسواق المال الخليجية بمستويات تجاوزت الـ 7%، بما في ذلك سوق الأسهم القطرية والتي تراجعت بنحو 18% منذ مطلع العام بفعل أزمات القطاع النفطي.
وبالرغم من تضرر إيران كمنتج للنفط من هذه الأوضاع، إلا أن إيران لا تملك إلا أن تعتمد سياسة نفطية هجومية لو صحَّ التعبير، فإيران بفعل عقود من الأزمات والعقوبات، تعاني من معدلات تخضم وصلت إلى مستوى 39%، وبطالة 17%، وفقر بنسبة 20% من السكان، بالإضافة إلى معدلات نمو سلبية بلغت 1.7% بالناقص، بحسب إحصائيات العام 2013.
ولكي تعوض طهران ما فاتها سريعًا؛ فإنها سوف تكون بحاجة إلى معدلات إنتاج يومية تكاد تقترب من معدلات إنتاج السعودية أو روسيا (ما بين تسعة إلى عشرة ملايين برميل يوميًّا)، بأسعار أساس حوالي 100 دولار للبرميل، وكلها أمور لا تسمح بها لا إمكانيات إيران الإنتاجية والتكريرية، ولا تسمح بها حالة السوق في الوقت الراهن؛ حيث وصل سعر الخام المكسيكي الثقيل، إلى 13 دولارًا للبرميل، وتوقعات بوصول خام برنت وخام تكساس الخفيف إلى مستوى العشرين دولار، فيما سعر برميل المياه المعدنية يصل إلى حوالي 40 دولارًا للبرميل! البرميل = 159 لترًا.
جاء القرار الأمريكي الأخير بفرض عقوبات على إيران بسبب برنامجها الصاروخي، لكي يطيل أمد الأزمة وعدم الاستقرار في المنطقة، وهو يبدو وضعًا – للغرابة – مثاليًّا بالنسبة للنظام الإيراني، الذي لا يبدو مستريحًا في الوقت الراهن لفكرة “إيران الطَّيِّعة” لمجرد الاندماج في المجتمع الدولي؛ حيث إن الأزمة الأخيرة مع الولايات المتحدة على خلفية العقوبات “الصاروخية” التي فرضتها الأخيرة، تسمح لإيران بالاستمرار في حالة التعبئة في الإقليم، على الأقل لحين استكمال باقي أركان مخطط “إيران 2020” الإستراتيجي الذي يتضمن الكثير من السيطرة على المزيد من العواصم العربية، كما يسمح ذلك للنظام الإيراني بإخفاء الكثير من المشكلات التي تعانيها في الداخل، أمام الرأي العام الإيراني.
في المقابل كذلك، لا يبدو أن الوضع ملائم للسعوديين على وجه الخصوص، والرياض تشجع على أي إجراء من شأنه الإضرار بإيران، حتى ولو لمجرد الإضرار، ومن ثَمَّ أتت العقوبات الأمريكية الأخيرة على هوى السعوديين بدورهم، وفي كل الأحوال، فإن هكذا أوضاع تقول بأن فكرة عودة الاستقرار إلى الإقليم قريبًا، هي عبارة عن ضرب من الخيال.
وتبدو الصورة أكثر تعقيدًا لو أضفنا إلى ذلك مخاوف طرحتها بعض الأوساط الغربية، من أن يتم بعد نهاية الولاية الرئاسية الثانية للرئيس الأمريكي باراك أباما، نسف الاتفاق من جانب إدارة جديدة للولايات المتحدة، خصوصًا لو جاء رئيس جمهوري، سيعمل مع كونجرس غالبيته جمهوريين؛ فإننا سوف نجد علامة أخرى على عدم الاستقرار.
فخلال التصويت الذي جرى في مجلس النواب الأمريكي قبل نحو أسبوعين من “الاحتفال” بتقرير الوكالة الدولية للطاقة الذرية، فإن الجمهوريين حاولوا فرض عقوبات على قائمة تتضمن أسماء محددة لمواطنين إيرانيين وشركات إيرانية، وبالتالي تعقيد مسألة تطبيق الاتفاق الدولي بشأن البرنامج النووي الإيراني.
ويفسر مراقبون أن عدم نجاح الجمهوريين في ذلك يعود – فقط – إلى أن الكثير من النواب لم يشاركوا في عملية التصويت، وذلك كان في حسابات الإدارة الأمريكية، التي استجابت لذلك، ربما بشكل غير مباشر، بفرض العقوبات الأخيرة على البرامج الصاروخية الإيرانية.
وفي الأخير، تبقى علامة مهمة للغاية، وهي: أين العرب من كل هذا الذي يجري؟!.. لا أحد يعلم.