هل سمعتم باسم هذا البطل المسلم من قبل؟ إنه الشاب المجاهد ابن الـ 24 عامًا “سليمان الحلبي” الذي قتل قائد الحملة الفرنسية على مصر “جان بابتست كليبر”.
كتب المؤرخون عن كليبر فقط، وهذا طبيعي؛ فهو بطل معركتي “مايستريك وعين شمس”، وصاحب المعارك البطولية على ضفاف أنهار النيل والراين والأردن، أما سليمان الحلبي، فلم يهتم أحد لتاريخه، لا كَتَب مذكرات ولا ترك صورًا ولا رثاه شاعر، كل ما ذكروه عنه، أنه شاب “أهوج” قتل أحد أعظم القادة الفرنسيين.
دعونا نعود قليلًا إلى تلك الحقبة من الزمن.
إنه الثاني من يونيو 1798م حيث تمكنت الحملة الفرنسية بقيادة نابليون بونابرت من السيطرة على أرض الكنانة مصر، واستمر في قيادة الحملة حتى رحيله في 22 أغسطس 1799، وتسلّم من بعده أحد القادة المقربين منه الجنرال “جان بابتست كليبر”.
يذكر التاريخ أن الفرنسيين أسرفوا في إهانة سكان القاهرة، فاعتقلوا الكثير ونصبت المشانق في الميادين، وتزايدت أساليب القمع، واشتد الضغط على الناس، حتى ذكر المؤرخون أنه قلما توجد في تاريخ الثورات فجائع تشبه ما عانته القاهرة بعد إخماد ثورتها، من قتل وتنكيل وتجويع، حيث منع المحتل الفرنسي الطعام عن سكان القاهرة.
يا الله! ما أشبه اليوم بالأمس، ما أشبه ما يعاني شباب ثورة 25 يناير من قتل وسجن وتشريد من أهل بلدهم، مقارنة بما عاناه أجدادهم من المحتل الفرنسي.
نعود إلى بطلنا سليمان الحلبي الذي صوّره كُتَاب التاريخ المزوّر بأنه شاب متعصب إرهابي، صاحب هلاوس دينية، قتل كليبر ابن حضارة العدل والإخاء والمساواة، الذي جاء لينشر العلم والعمران في أوطاننا التي عمّها الجهل والتخلف، والحقيقة عكس ذلك، فكل شعارات الثورة الفرنسية أثبتت عكس ادعائها، وقد شاهدنا فظائعها في جميع البلدان التي احتلتها، من الجزائر أم المليون والنصف مليون شهيد، إلى بلاد أفريقيا وبلاد الشام، لم تكن إلا «دجلًا من أعلى طراز» كما قال نابليون بونابرت في مذكراته.
من هو سليمان الحلبي؟
هو وجه من الوجوه التي أضاءت صفحات تاريخ الجهاد العربي ضد الهجمات الاستعمارية التي حاقت بوطننا الحبيب في فترة من فترات التاريخ، في الوقت الذي كانت تموج فيه البلاد بمساوئ الاحتلال، وقد أيقن المستعمر أنه في أوج انتصاره وأنه أخمد الأنفاس وقضى على حركة التحرير.
في ذلك الوقت قدم من سوريا سليمان الحلبي وعمره 24 عامًا، جاء من حلب إلى القدس عبر الجليل ويافا وغزة، ليدرس بالأزهر الشريف ويحفظ القرآن على يد الشيخ مصطفى أفندي.
كان للأزهر الشريف في ذلك الوقت دور بارز في إذكاء روح الثورة وقيادة المقاومة الشعبية، ولم يكن منبرًا من منابر الحكام يشرّع مجازرهم ويبرر طغيانهم.
وهكذا ولدت من بين جدران الأزهر فكرة الانتقام من الاحتلال في شخص قائد الحملة كليبر، فقد كان لا بد من عمل وطني يهزّ الحملة الفرنسية ويجعلها تشعر أن المقاومة لم تمت، رغم قتل معظم قادتها، وأن الشعب المصري لم يستسلم.
كان سليمان يعيش في جوار الأزهر الشريف، قيل إنه كان قليل الكلام، لا يعرف أحد ما يدور في رأسه، لا يختلط بأحد، لكن عندما تحوّلت القاهرة إلى متاريس، وأخذ جنود كليبر يعيثون قتلًا وفسادًا، شعر ذلك الشاب بالقهر والرغبة بالدفاع عن أهله والثأر لعذاباتهم، وجاءت فكرة الاغتيال، فالشاب الهادئ صرخ في داخله بأنه لم يعد يقوى على تحمّل هذا الوضع، فقرر أن ينتقم، ولم يفكر كثيرًا بما سيلقاه بعد ذلك.
في 14 يونيو 1800م، كان كليبر يسير في ممرات قصر محمد بك الألفي الذي كان يجهّزه ليكون مقر القيادة الفرنسية، وكان يصاحبه في جولته التفقدية المهندس جان بروتان الذي لاحظ شابًا نحيفًا قبيح الهيئة، يرتدي عمة خضراء يمشي وراء كليبر، لكنه لم يلتف له فقد ظنه أحد عمال القصر، وعندما اقترب سليمان من الجنرال فجأة، أخرج سكينًا صغيرًا ثم طعنه أربع طعنات قاتلة في بطنه وذراعه وخده الأيمن، ولاذ بالفرار، إلى أن اعتقله الفرنسيون بعد يومين مختبئًا في حديقة مجاورة.
سلمت يمينك أيها البطل، وسلمت يمين حفيدك الشهيد البطل “مهند الحلبي” الذي سار على دربك وتعلم في مدرستك وأشعل انتفاضة السكاكين في فلسطين المحتلة، وسلمت يمين أبنائك من أبطال انتفاضة القدس الذين لا يملكون إلا شجعاتهم وسكاكينهم لينازلوا بها المحتل الغاصب.
نعود إلى سليمان، لنقرأ في مذكرات أحد مؤرخي الحملة الفرنسية وهو يصف ما حدث خلال هذين اليومين فيقول: “اندفعنا إلى الخارج، وقتلنا بسيوفنا وخناجرنا جميع من صادفناهم من الرجال والنساء والأطفال”، وبعدما اصطبغت شوارع القاهرة بالدماء عثر الفرنسيون على الحلبي وقدموه للمحاكمة.
أمر الفرنسيون حينها بتشكيل محكمة عليا مكوّنة من قيادات الجيش الفرنسي، وفي أثناء المحاكمة قال الشاب سليمان: “جئت إلى مصر لأجاهد في سبيل الله، ثم صمت. فأصدرت المحكمة حكمًا قاسيًا عليه نصّ على: “حرق يده اليمني، وبعد ذلك “يتخوزق”، ويبقى على الخازوق حتى تفترس جثته الجوارح.
وبالفعل، وفي يوم الأربعاء 17 يونيو 1800 بدأ تنفيذ الحكم بعد دفن جثة كليبر، وقد تم الإعدام بإحراق يد سليمان الحلبي اليمنى التي أمسكت بالخنجر الذي أودى بحياة كليبر، ثم إعدم عقب ذلك بالخازوق.
هكذا كان إعدام سليمان الحلبي بمنتهى الوحشية، على الرغم من تمسك الفرنسيين أثناء المحاكمة بالإجراءات القضائية الحديثة، واهتمامهم بإبراز التزامهم بمظاهر الحضارة الأوروبية، لكن ما تم من إجراءات كان بعيدًا كل البعد عن الحضارة والإنسانية.
يجمع المؤرخون على أن مقتل كليبر هو الذي عجّل بإنهاء الحملة الفرنسية على مصر، وبذلك فإن هذا البطل قد فعل بشكل فردي ما يعجز جيش كامل عن فعله، وعند رحيل الاحتلال الفرنسي عن مصر عام 1801م، تم نقل رفات سليمان الحلبي في صندوق إلى فرنسا، وجمجمته معروضة اليوم في متحف الإنسان في قصر “شايو” في باريس إلى جانب جمجمة “ديكارت” فيلسوف فرنسا الأكبر، وقد كتب تحت الجمجمة الأولى “جمجمة العبقري ديكارت” وتحت الثانية “جمجمة المجرم سليمان الحلبي”.
إنه الحقد الاستعماري البغيض الذي وصف سليمان الحلبي بالإجرام، ذلك البطل الذي انتفض ليدافع عن أمته ضد الغزاة، والمجرم الحقيقي هم القوات الفرنسية الغازية التي هدمت ونهبت وقتلت وأشعلت الحرائق في المناطق التي وقعت تحت سيطرتها في مصر.
رحم الله الشهيد البطل سليمان الحلبي، مشعل ثورات السكاكين الأول، ومطلق شرارة تحرير مصر من الغزاة.