أزمات متلاحقة تمر بها تركيا في وضع إقليمي معقد، سواء مع حزب العمال الكردستاني (بي كي كي) في مواجهة مستمرة في شرق وجنوب شرق البلاد والتهديدات التي تشكلها داعش على تركيا، أو على الصعيد الخارجي حيث شكلت قضية إسقاط الطائرة الروسية شكلاً جديدًا من أشكال أزمة الجوار التي تتصاعد بالنسبة لأنقرة.
يرى المفكر الجزائري والمصلح الاجتماعي مالك بن نبي أن تراب الدولة له قيمة اجتماعية مستمدة من قيمة السكان وملاك الأرض والتراب، فحينما تكون قيمة الأمة مرتفعة وحضارتها متقدمة يكون التراب غالي القيمة، وحينما تكون الأمة متخلفة يكون التراب على قدرها من الانحطاط، يعطيك هذا القول قدرًا كافيًا من الاستيعاب لحالة الاستهجان التي قوبل بها حدث إسقاط الطائرة الروسية، في منطقة كانت وما زالت مسرحًا لانتهاك كل السيادات والأعراف، الكرامة والحقوق والحدود والسماء.
على غير هذا النمط تحرك الأتراك على اعتبار أن اختراق المجال الجوي هو جزء من الاعتداء على السيادة الوطنية التي يعتبرها فقهاء القانون الدولي من أهم خصائص وسمات الدولة، وهي من أهم الشروط الواجب توفرها في أي كيان سياسي لاكتسابه صفة دولة، قد تحتمل القضية الخلاف القانوني وهل بالفعل امتلكت أنقرة المسوغات القانونية التي تجيز لها ما فعلت، حينها يكون الفصل للقانون الدولي وجهات الاختصاص القانونية الدولية التي تتولى الفصل في مثل هكذا نزاعات مرتبطة بالسيادة الوطنية للدول وفي أي حالات تنتهك تلك السيادة، إلا أن القضية أخذت بعدًا آخر، واتجهت نحو التصعيد في اتجاهات أخرى بعيدة تمامًا عن أشكال وأدوات النزاعات القانونية والقضائية.
زادت وتيرة التصعيد بين تركيا وروسيا فطالت تداعياتها العلاقات التجارية والاقتصادية والتصعيد الإعلامي الحاد عبر خطاب سياسي استفزازي يظهر حجم الاحتقان السياسي لدى كل طرف بسبب موقف الطرف المقابل من الثورة السورية، حتى ذهبت بعض الآراء لقياس مدى قدرات كل طرف في حال وصلت الأزمة الى الصراع المسلح المباشر.
موجة أخرى من التصعيد هذه المرة مع العراق بشأن الجنود الأتراك في منطقة بعشيبة التابعة لمدينة الموصل، التي سببت أزمة سياسية مع بغداد أعلنت لأجلها جامعة الدول العربية النفير ونطقت بعد طول صمت أنها لن تقبل بالاعتداء على سيادة العراق: الدولة العربية التي تجرد مفهوم السيادة من معناه على كل أرضها وفي سمائها.
سياق الأحداث التي يتخذ منحى تصعيدي في تركيا وما حولها يدعم القراءة السياسية لوضعية تركيا المقبلة حيث تشهد مرحلة جديدة من الأزمات الخارجية والداخلية، توتير العلاقات مع دول الجوار وضرب العلاقات التجارية على الصعيد الخارجي، زعزعة الاستقرار وإثارة الرعب والفوضى وضرب السياحة على الصعيد الداخلي، وغيرها من الأزمات الممنهجة، أدواتها كثيرة وأزمنتها متقاربة.
المقاربات السياسية في معالجة العلاقات والمصالح بين تركيا من جانب وإسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية والغرب عمومًا من جانب آخر، تعطي صورة آنية عن وضعية تركيا في المنظور الإستراتيجي الإسرائيلي الأمريكي على وجه الخصوص، استقرارها مرتبط باستمرار المصالح السياسية والاقتصادية والأمنية بين تركيا والغرب التي مهما امتدت وتعمقت لا تجعل من تركيا أردوغان في نظر الغرب وإسرائيل تركيا كمال أتاتورك.
تركيا في منظور إسرائيل هي عند المحك دولة إسلامية كبيرة لا تخرج عن دائرة الأعداء للمشروع الصهيوني التوسعي في المنطقة، لما لها من ثقل سياسي ونفوذ اقتصادي وبعد حضاري في المنطقة، صعودها غير مريح بالنسبة لإسرائيل ككيان قام فيه المفهوم الأمني الإقليمي على بناء القدرات العسكرية والإمكانات الاقتصادية والهيمنة السياسية والتفوق التكنولوجي والمعلوماتي على أساس امتلاك القوة الأمنية الرادعة والمهددة لكل دول المنطقة، بما فيها تركيا، لأنها لن تقبل بوجود دولة أخرى تقاسمها أو تنافسها المصالح، وهذا يعني أن أمن إسرائيل يقتضي ضرب وتصفية كل من يهدد هذا الكيان في وجوده وبقائه واتساع رقعته ونفوذه، أو يمكن أن يشكل خطرًا على مصالحة في المنطقة.
يوضح بجلاء مسار الأزمة السورية منذ خمس سنوات من يمسك بخيوط المنطقة ويدير دفة الصراع باي اتجاه، الذي يقوم على قاعدة أساسية وهي إطالة أمد الصراع في سوريا لأطول فترة ممكنة دون أن يخرج أحد منتصرًا، كان دخول الروس على خط الأزمة السورية من أبرز مفاصل الأزمة وأكبر تحديات الثورة، وهو لم يخرج عن طاولة التنسيق والتعاون الوثيق بين موسكو وتل أبيب، وهو ذاهب باتجاه مصالح إسرائيلية كبيرة تخدم بقاء إسرائيل منفردة في المنطقة من حيث الاستقرار والهيمنة والتفوق، يسير هذا الاتجاه نحو وجود كيانات وحركات ودويلات دينية وعرقية متناقضة ومتصارعة على كل شيء وفي كل شيء.