إن تجدد الحديث عن عملية إسقاط الطائرة الروسية التي اخترقت الأجواء التركية بعد مضي عدة أشهر على حدوثها يعود في الأساس إلى أن العملية لا تحمل في طياتها دوافع إجرائية وحسب، بل ودوافع إستراتيجية بالغة الأهمية والدلالة؛ وقد برزت تساؤلات حينها إذا ما كانت هذه العملية هي السبب الحقيقي الذي أوصل العلاقة بين موسكو وأنقرة إلى هذا الحد من التوتر، أم أن هذا التوتر يأتي في إطار الصيرورة الحتمية لمجريات الأحداث في الشرق الأوسط، والتي تتصارع فيها إرادات قوى إقليمية ودولية لتحديد مناطق النفوذ والسيطرة، وقد جاءت عملية الطائرة فقط لكي تسرع من حدة هذا التوتر لا غير؟!
يبدو أن الحديث عن اعتبار عملية إسقاط الطائرة الروسية بأنها السبب الحقيقي الكامن وراء تدهور العلاقة بين موسكو وأنقرة فيه اختزال كبير للمفاعيل الكامنة وراء هذا التوتر الذي لم يبدأ من هذه الحادثة، ولن يتوقف عندها، فلا بدَّ لإدراك جيد لتطور الأحداث بين كل من تركيا وروسيا في الوقت الحالي أن توضع العلاقة بينهما في سياقها الجيو – إستراتيجي في منطقة الشرق الأوسط، والتي تشهد حالة سيولة عالية من التفكك وإعادة البناء، سوف يترتب عليها آثار مصيرية على مستقبل المنطقة ككل وربما مستقبل العالم، وبناء على ذلك فإن النظر إلى التوجهات العامة للسياسة الإستراتيجية لكل من موسكو وأنقرة في هذه اللحظة الراهنة يساعد بشكل كبيرة على فهم سلوك كل منهما تجاه الآخر من جهة، وتجاه المنطقة من جهة أخرى.
ولا بدَّ من الإشارة هنا أن هذه التوجهات العامة لا يمكن فهمها وفق مجريات اللحظة الراهنة فقط، فالحاضر وحده لا يسعفنا في فهم مجريات الأحداث خصوصًا في فترات التحولات الإستراتيجية، بل لا بدَّ من الرجوع قليلًا إلى الماضي للنظر إلى الأحداث التي شكلت بتراكمها “العقل الباطن” للدولة والذي تتحدد من خلاله تصورات هذه الدولة عن نفسها، وعن محيطها الخارجي، وتتصرف وفق هذه التصورات.
النتيجة التي سيخلص إليها هذا التحليل هي أن منطقة الشرق الأوسط يُعاد تشكيلها وفق الخطوط الجيو – طائفية، وهي لحظة تاريخية تحاول فيها القوى الإقليمية الكبرى وهي روسيا وإيران وتركيا تحديد مستقبل المنطقة بما يخدم ليس فقط مصالحها الجيوسياسية؛ بل وبما يتلاءم مع طبيعتها الثقافية والأيديولوجية، أي أن التأثير لن يقتصر على إعادة رسم الحدود بين الدول؛ بل سيتعداها إلى إعادة تعريف العلاقة بين الطوائف داخل المجتمع الواحد.
بالنسبة إلى روسيا وهي أكبر اللاعبين الإقليميين وأكثرهم قدرة على التحرك وفرض حالة الأمر الواقع فإن اللحظة الراهنة في المنطقة تمثل فرصة تاريخية لها لم تتكرر في التاريخ ربما منذ زمن القيصر بيتر الأكبر الذي نضج على يديه الحلم الروسي بالوصول إلى مرافئ على المياه المفتوحة، فقد بقيت روسيا لعقود طويلة معزولة في الشمال بين المياه المتجمدة، وحدود إمبراطوريات قوية وجبارة؛ في الجنوب كانت الدولة العثمانية، وفي الغرب كانت الإمبراطوريات الغربية وعلى رأسهم الإمبراطورية السويدية.
كانت فترة الانعزال الروسي غير مقتصرة على الجغرافيا بل تعداه إلى الدين والثقافة، حيث كان المجتمع الروسي مغرقًا في التقاليد، بعيدًا عن روح العصر التي كانت تتفتح في أوروبا الغربية، ولكن مع اعتلاء بيتررومانوف (أو بيتر الكبير كما أصبح يعرف) سدة الحكم أخذت روسيا مسارًا آخر في التحديث، والانعتاق من العزلة، تربى بيتر على أيادي مجموعة من الأوروبيين المرتزقة الذين جُلِبُوا للقتال في صفوف الجيش الروسي، لم يكن هؤلاء مجرد محاربون هوات، بل قادة عسكريون محترفون يجمعون بين المعرفة الحربية، والثقافة الأوروبية الحديثة، وقد كان لهم أثرًا كبيرًا على تكوين شخصية القيصر، وإكسابه روح التمرد على التقاليد والعزلة الروسية، وقد كان من أبرز ما برع به بيتر الأكبر هو عالم البحرية، ولم يكن ذلك استثناءً، فقد شهد العصر الذي نشأ فيه بيتر تفجر عالم الاكتشافات عبر البحار.
أدرك القيصر بيتر الأكبر إخراج روسيا من عزلتها يتطلب السيطرة على موانئ ذات أهمية إستراتيجية تقع على البحار المفتوحة للوصول إلى أوروبا، ففي الفترة التي اعتلى فيها بيتر الأكبر العرش لم يكن لروسيا أي منافذ بحرية غير تلك الواقعة على بحر الشمال المتجمد، كانت البحار الدافئة في الجنوب تحت سيطرة الإمبراطورية العثمانية، بينما كانت الإمبراطورية السويدية تسد الطرق الغربية باتجاه بحر البلطيق والمحيط الأطلسي، أخذ بيتر الأكبر قراره الإستراتيجي الأهم طيلة فترة ولايته والمتمثل ببناء أسطول بحري يستطيع به تحدي وهزيمة الأساطيل البحرية للإمبراطوريات التي تحيط به، وقد كان هدفه الأول الميناء التركي الواقع على بحر آزوف المطل على البحر الأسود، حيث استطاع السيطرة عليه وانتزاعه من يد الحامية التركية عام 1669م، وهنا لا بدَّ من التأكيد على نقطة في غاية الأهمية وهي أن توجه بيتر الأكبر باتجاه الجنوب لم يكن الغرض منه الوصول إلى شواطئ المتوسط والقضاء بذلك على الإمبراطورية العثمانية وإنما لاعتقاده أن أقرب الطرق إلى أوروبا يمر عبر المتوسط، وأن تحدي هيمنة أوروبا لن يتحقق من غير ضمان ملاحة حرة لأساطيلة في البحر الأبيض المتوسط.
وعندما أدرك أن الوصول إلى أوروبا عبر المتوسط متعذر للغاية نظرًا لقوة الإمبراطورية العثمانية حول وجهته من الجنوب إلى الغرب، وبدأ حربًا استمرت لمدة عشرة سنوات انتزع خلالها خليج فيلندا المطلع على بحر البلطيق ليبني عليه مدينته “سانتبطرسبرغ” لتغدو روسيا بعدها قوة أوروبية، مُحْدِثَةً اختلالًا كبيرًا في موازين القوى في القارة الأوروبية.
لم يضع الحلم الروسي بالوصول إلى المياه الدافئة، فمع أفول روسيا القيصرية ونهوض الاتحاد السوفيتي، تجدد هذا الحلم حيث استطاع الاتحاد السوفيتي السيطرة على غالبية سواحل البحر الأسود، وبحر قزوين، إلا أن مياه المتوسط بقيت عصية عليه، حيث لم تشهد منطقة شرق المتوسط والخليج العربي فراغ إمبراطوري في تاريخها الحديث؛ فمع تفكك الإمبراطورية العثمانية خضعت جميع المناطق التي كانت تابعة لها في الشرق الأوسط لاستعمار مباشر من الإمبراطوريات الغربية والذي استمر إلى الحرب العالمية الثانية، حيث برزت قوى جديدة على المسرح الدولي تمثلت بالولايات المتحدة الأمريكية التي ورثت المكانة الإمبراطورية لكل من بريطانيا العظمى وفرنسا، وقد حافظت الولايات المتحدة على سياسة إستراتيجية تقضي بإبقاء السوفيت خارج مناطق نفوذهم في الشرق الأوسط والخليج العربي.
بقيت العقيدة الأمريكية والمتمثلة بإبعاد أي قوة خارجية عن الشرق الأوسط حاضرة وبقوة في السياسة الخارجية الأمريكية حتى بعد انهيار الاتحاد السوفيتي حيث تم إعادة تعريف المخاطر وليس إلغائها، فإذا كان السوفيت هم الخطر الأول إبان الحرب الباردة، فقد أصبح خطر الجماعات الراديكالية بعد تفكك الاتحاد السوفيتي وانتشار ظاهر ما يعرف “بالإرهاب” هو المسيطر على العقلية الإستراتيجة الأمريكية، ولذلك كانت عقيدة الحفاظ على الاستقرار وليس نشر “الديمقراطية” هي المبدأ الحاكم لتعاملات أمريكا مع الأنظمة الحاكمة في المنطقة، مع استثناء بسيط وشاذ إبان الولاية الأولى للرئيس جورج بوش الابن.
تعرضت هذه العقيدة إلى إعادة تقييم ومراجعة مع مجيء إدارة الرئيس أوباما إلى البيت الأبيض، حيث لم يعد الشرق الأوسط يحظى بذات الأهمية التي كان يحظى بها في ظل الإدارات الأمريكية السابقة، فقد تبنى الرئيس أوباما عقيدة جديدة تتمحور حول منطقة جنوب شرق آسيا (Asia the Pivot) على اعتبار أن هذه المنطقة تشكل بؤرة جذب لمحركات القوة العالمية، وتتمتع بما يقرب من 60% من التعاملات التجارية الدولية، وقد كان من أهم متطلبات تفعيل هذه العقيدة الجديدة هو تقليل نسبة الانخراط في مشاكل الشرق الأوسط عبر الانتقال من سياسة التواجد المباشر إلى سياسة موازنة القوة من وراء المحيطات (off-shore balancing) بين القوى الإقليمية الكبرى للمحافظة على المصالح الأمريكية الحيوية في المنطقة، وفي هذا السياق جاء الانسحاب الأمريكي من العراق عام 2011، ومحاولة تلطيف العلاقات مع إيران من خلال ايجاد حل منطقي لبرنامجها النووي.
بقيت إدارة أوباما محافظة على عقيدتها الجديدة بالرغم من المتغيرات الهائلة التي تعصف بمنطقة الشرق الأوسط، فمع اندلاع ثورات الربيع العربي، وما تبعها من ثورات مضادة، وحدوث تغييرات كبيرة في تركيبة النظم السياسية سواء على مستوى الدولة القطرية أم على مستوى المنطقة ككل، بقيت إدارة أوباما تتبع إستراتيجية إدارة الأزمات وليس البحث عن حلول لها، أي باتباع سياسات القيادة من فوق (Lead from Above) أو القيادة من الخلف (Lead from Behind)، وهو الذي أظهر الإدارة الأمريكية بمظهر العاجز أو المتردد في التعامل مع البيئة المتغير في المنطقة، وسمح بحدوث فراغ إستراتيجي في المنطقة ربما لأول مرة منذ قرون.
إذن وفرَّ التراخي الأمريكي في التعاطي مع متغيرات المنطقة، وعدم قدرة الدول الإقليمية على الوصول لتسويات تنهي حالة “صراع الكل ضد الكل” التي تعصف بالإقليم إلى حدوث فراغ إستراتيجي استغلته روسيا للنفاذ منه في سبيل تحقيق حلمها الإستراتيجي المتمثل بضمان وجود دائم لقواتها في منطقة شرق المتوسط بما يضمن لها حرية الملاحة من جهة، وإعادة ربط مناطق وسط آسيا مع الشرق الأوسط بما يضمن لها هيمنة على البقعة القارية التي تشكل قلب العالم الحي لتكون بذلك قادرة على تحدي النفوذ الأمريكي، ولجم التوسع الصيني الآخذ في التمدد في مناطق وسط آسيا التي لطالما اعتبرت الحديثة الخلفية لروسيا.
إن المشروع الروسي يريد إعادة تعريف المنطقة وجعلها تدار من موسكو بعد أن كانت تدار من عواصم غربية على مدى القرن المنصرم، وهذا ما يتناقض تمامًا مع الرؤية التركية التي حاولت جاهدة منذ أن استعادت عافيتها إلى إعادة الاعتبار للدولة الإقليمية في إدارة المنطقة ورسم سياساتها وترتيباتها الأمنية والاقتصادية بما يتسق مع مصالحها هي (أي الدول الإقليمية) أولًا، وقد رأت تركيا بالثورات العربية رافعة إستراتيجة مهمة تعيد المكون العربي لممارسة دوره الريادي في هذه الرؤية الإقليمية، وبالرغم من الثورات المضادة التي أدت إلى تحول غالبية دول الثورات العربية إلى دول فاشلة، فمازالت تركيا تحاول الوقوف بالمشروع الإقليمي من خلال نسج تحالفات مع دول تقاسمها المصالح ذاتها منها قطر والعربية السعودية، والحركات السياسية العربية الداعمة للثورات.
ومن هنا تتجاوز الأزمة بين تركيا وبين روسيا حادثة الطائرة لما هو أبعد بكثير، فالعلاقة بينهما لا تنحصر بتصادم طائرات بل بتصادم أجندات تتشكل من مشاريع إستراتيجية تقف على طرفي نقيض، وتمتد على الخطوط السياسية والثقافية والتاريخية، وهو تصادم طويل ستسفر نتائجة عن تحديد شكل المنطقة للمئة سنة القادمة.