منذ أيام أحيى التونسيون الذكرى الخامسة لاندلاع الثورة، هذا لا ينفي أن الثورة – يومًا بعد يوم – تخوض تمحيصًا عظيمًا حيث يكشف طريقها عن وعورته وعن عمق التحديات التي تواجهها في سبيل تحقيق أهم المطالب التي أشعلت شرارتها الأولى “شغل – حرية – كرامة وطنية”.
إن المدن الداخلية ومدن الجنوب التونسي هي الأكثر معاناةً جراء التهميش الذي طالها عهد الرئيس المخلوع بسبب سياسة المركزية التي لعبت دورًا مهمًا في تمركز أغلب الخدمات الصحية والثقافية والمؤسسات الجامعية في العاصمة وفي المدن الساحلية.
منذ أسابيع أدى شح المعدات الصحية وعدم توفير أطباء اختصاص في مستشفيات مدينتي الجنوب التونسي “تطاوين” و”ڨبلي” إلى وفاة ثلاث نساء على فراش الولادة، واليوم تشهد مدينة الوسط التونسي “القصرين” احتجاجات شبابية يعود سببها المباشر القريب إلى مقتل الشاب رضا اليحياوي إثر تعرضه لصعقة كهربائية بعد تسلقه لعمود كهربائي محتجًا على تلاعب السلطات الجهوية بقائمة المنتدبين وحذف اسمه منها، أما أسبابها غير المباشرة فكثيرة لعل أهمها تضخم عدد الشباب العاطلين عن العمل وضعف الدخل لدى غالبية العائلات وضيق فرص تشغيل الشباب في المدينة، فهذه الأخيرة فقيرة للمشاريع التنموية والصناعية والخدماتية التي من شأنها استيعاب اليد الشغيلة من الشباب وتوفير موارد رزق لأرباب العائلات.
التحديات التي تواجه من يمسكون بزمام الدولة اليوم كبيرة، ميراث ثقيل من الفساد المستشري في كل المجالات، ونظام مخلوع لم تُخلع جذوره من الإدارات ومن كثير من الهياكل الوطنية، وإعلام حكومي لم يرتق إلى الحرفية والشفافية حيث يرسم صورة كثيرًا ما تشوه الواقع وترمي إلى تجييش مشاعر الغضب لدى الشعب دون الارتقاء بفهمه وإنارة وعيه، هذه التحديات رغم صعوبتها لا تلغي شرعية مطالب الشعب الذي يفتقد الكثير منه متطلبات العيش الكريم.
لعل تلون الساحة السياسية التونسية أيضًا قد لعب دورًا تعطيليًا للمضي سريعًا في تحقيق المطالب التي تلمس الواقع المعيشي للشعب، فقد عبرت كثير من الأطراف عن رفضها لأخرى وتعنتها في القبول بمشاركتها تحمل أعباء إدارة البلاد؛ حيث عبرت مثلاً الجبهة الشعبية التي تضم مجموعة من الأحزاب اليسارية والقومية في أكثر من مناسبة لتشكيل الحكومات المتتالية بعد أول انتخابات بعد الثورة – عن رفضها المشاركة في حكومة يكون فيها حزب حركة النهضة الذي يصنف حزبًا إسلاميًا.
إن توتر الساحة السياسية الذي تشهده تونس رغم إقامة مصالحة وطنية سياسية نجحت في إنقاذ البلاد من شروره المستطيرة إلا أنه يعطل دوران عجلة الإصلاحات الكبرى التي من شأنها أن تقدم حلولاً جذرية لمشاكل عميقة يعاني منها الواقع التونسي لعل أهمها التعليم والصحة وآليات التشغيل.
إن الفئة الشعبية المفقرة اليوم في تونس لم تعد تقوى على الصبر على الوعود السياسية لأنها تدفع يومًا بعد يوم ثمنًا باهظًا، فهي من تفقد أبناءها في حرب الإرهاب أو التطرف أو الهجرة غير القانونية، إن هذه الفئة اليوم بحاجة إلى إرادة سياسية تحتضن مطالبها الشرعية وتتبناها تبن صادق يترجم إلى خطوات تمهد الطريق نحو إصلاحات حقيقية.
إن الحث على وجود هذه الإرادة السياسية الصادقة لا يعني المزايدة على شتى القوى السياسية الوطنية التي تسعى أن تكون مغيرة مصلحة للواقع، إن الذي ينحاز لمطالب الشعب الغاضب من الواقع المهترئ، لا ينبغي أن يكون بالضرورة لاعنًا لكل أهل السياسة ومشهرًا بأنانيتهم وضيق رؤاهم، فالقوى السياسية الوطنية بحاجة أيضًا لحاضنة شعيية تؤمن بها فتشد على يدها في طريق الإصلاح الوعر وتقدم لها النقد البناء متى زلت عن طريق المصلحة العامة.
تونس اليوم تخوض امتحانًا عسيرًا في مواجهة ظروفها الداخلية من مطالب اجتماعية مشروعة ومستعجلة التحقيق، وفي مواجهة المتابعة الخارجية التي تنظر إلى تجربة تونس بترقب شديد كونها من فجرت شرارة الثورة في العديد من بلدان المنطقة العربية.