تبدأ الحكاية مع الحصار عام 1743 حينما قرر حاكم إيران الملقب بنادر شاه، الحرب على الدولة العثمانية بحجة عدم قبول الأخيرة بالاعتراف بالمذهب الإثني عشري كمذهب من المذاهب الإسلامية الرسمية؛ الأمر الذي دفع جيوش الشاه للزحف إلى العراق وحصار واقتحام المدن العراقية حتى وصل الأمر لحصار مدينة الموصل بعد استباحة كركوك وأربيل.
استمر حصار الموصل من قِبل جيش نادر شاه لمدة 40 يومًا، تم دك المدينة المحاطة بقلعة باشطابية الشهيرة بالمدافع وتجويع أكبر الولايات العثمانية شمال العراق وسوريا آنذاك، ولكن أهالي المدينة قرروا الصمود بعد مجموعة تحصينات قام بها الأهالي بقيادة والي الموصل حسين باشا الجليلي لأن السلطان العثماني لم يكن بحال اقتصادي وسياسي يسمح بإرسال المعونات أو المقاتلين للولايات، واستمرت المعركة حتى تسلل أحد رجال والي الموصل لمعسكر نادر شاه وغرس خنجر في وسادته محملًا برسالة من والي الموصل ليدرك نادر في الصباح أن المدينة لن تهزم فتم الاتفاق على الصلح والانسحاب بجيشه مسجلًا نصرًا تاريخيًا ما يزال أهالي مدينة الموصل يتفاخرون به.
بعد أقل من قرنين من الحصار تتكرر المأساة ولكن بشكل مختلف حين تضرب المجاعة المدينة خلال الحرب العالمية الأولى التي شاركت الدولة العثمانية فيها تحديدًا في عام 1917، فلم ينزل المطر في مناطق ما تسمى بالجزيرة (المناطق المحصورة ما بين دجلة والفرات) وكانت الموصل أكبر تلك المدن المتأثرة بالمجاعة؛ فبلغت الأمور بالناس أن بدأت بأكل القطط والكلاب ووصل الأمر لجريمة أكل لحوم البشر التي هزت كيان الدولة العثمانية آنذاك!
آكل لحوم البشر المجرم عبود أبو القلية
ملخص حادثة أكل لحوم البشر والتي تنتهي عندما أقدم أحد الأشخاص ليتناول في السوق شيئًا من اللحم المطبوخ مع البسمنة على نار هادئة المسماة بالعامية (القلية) فلاحظ في فمه شيئًا صلبًا فلفظه وتفحصه فإذا هو سلامية لإصبع صغير وهي عظمة لا توجد في الدواب، فشك في الأمر وأبلغ الشرطة.
ألقت الشرطة القبض على عبّود وزوجته خجّاوة وتمت مداهمة بيتهم، وأثناء التفتيش اُكتشف بئر ملئ بالرؤوس البشرية لأطفال صغار كما وجد رأس لأعرابي بضفائر وعضام لبقايا بشرية.
أثناء التحقيق اعترف عبود وزوجته بذبحهما لهؤلاء الأطفال، حيث نشر حوار بين الحاكم وزوجة عبود في إحدى المجلات التركية آنذاك على النحو التالي:
الحاكم: كيف أقدمتما على هذا العمل؟
المرأة: جعنا واحتملنا الجوع إلى حد لا يطاق وقت الحصار، فاتفقنا أخيرًاعلى أكل الهررة، وهكذا كان، وبقينا نصطادها ونأكلها إلى أن نفدت، فبدأنا نأكل الكلاب ونفدت أيضًا وكان لحمها أطيب وأشهى من لحم الهررة، فجربنا أكل لحوم البشر.
الحاكم: بمن بدأتما أولاً؟
المرأة: بامرأة عجوز خنقناها وطبخناها في قدر كبير، إلا أننا قضينا كل تلك الليلة نتقيأ لأن لحمها كان دسمًا، ثم ذبحنا ولدًا صغيرًا فوجدنا لحمه في غاية اللذة والجودة.
الحاكم: وكيف كنتم تصطادون الأولاد؟
المرأة: بواسطة ابننا، كان يأتي كل يوم بواحد بحيلة اللعب معه، فنخنقه ونأكله وندفن عظامه في هوة عميقة حفرناها داخل بيتنا.
الحاكم: كم ولدًا أكلتما؟
المرأة: لا أذكر تمامًا ولكن يمكن إحصاءهم من عدد جماجمهم.
وحكم عليهما بالإعدام في ساحة باب الطوب وسط مدينة الموصل، وفي يوم الاعدام مر عبود وزوجته بين حشود من المتفرجين الساخطين وهم يشتموه ويلعنوه، لم يبد الندم على عبود رغم ذلك، فقد كان يرد على الشتيمة بمثلها معتقد أنه لم يذنب وأن الحكومة هي من دفعته إلى هذا العمل بتجويعه دون الالتفات لما يعاني.
عبود وزوجته خلال إعدامهم في ساحة باب الطوب وسط مدينة الموصل
عبود وزوجته خجّاوة
كيف انتهت مجاعة الموصل؟
انتهت قصة مجاعة الموصل بدخول الاحتلال البريطاني للمدينة محملًا بالتمور من الجنوب العراقي، منهين بذلك فصل من أقبح الفصول التي مرت بها البشرية من مأسٍ حتى تم تبرير أكل لقطط والكلاب وصولًا للحوم الأطفال البشرية، واستبشر الناس فرحين بالإنجليز رغم معرفتهم أنه احتلال لكن احتلال يحمل التمر ويسد الجوع! ورغم العقل الجمعي الذي تحمله المدينة حول مقاومة الإنكليز لكن الجوع كان أقسى من الصمود.
تأثيرات الحصار والمجاعة على الحياة الاجتماعية لسكان الموصل
حصار الموصل وماله من تأثير على المدينة في موضوع حفر السراديب والأنفاق وطمر المكتنزات استمر لقرون من الزمن، ولكن المجاعة كان لها الأثر البالغ على المدينة فدخل الأمر في تكوين شخصية الموصلي ليكون حذر ومستعد لمواجهة المجاعة وأي أمر مستعجل بتخطيط طويل مسبق.
لذلك تجد في كل بيت موصلي حتى المتعففين مايسمى ببيت المأونة ويلفض بالعامية (بيت الموْني) ليخزن فيه الحبوب والزيوت والطعام المجفف تحسبًا للطارئ، حتى في سنوات الرخاء في سبعينات القرن الماضي حافظ الموصليون على تلك الطبائع التخزينية فقد أصبحت جزءًا منهم لذلك كانوا الأكثر قدرة على تحمل فترة الحصار الأمريكي في تسعينات القرن الماضي على العراق، وقد وصل الأمر لتفاصيل حياة الموصلي بشكل أعمق فلا تجد موصلي يخرج بسيارته ولا يحمل معه عجلة احتياط وبعض أدوات التصليح وعلبة مياه وغيرها من التفاصيل التي تدل على الحرص المبالغ فيه، وكل من يعاشر شخص موصلي سيجد ذلك الحرص والتنظيم المبالغ فيه في كثير من الأحيان الذي قد يكون مصدر للمدح والذم بحسب الزاوية التي تتابع فيها الأمور.
القصص المؤلمة أمثال قصة المجرم عبود وزوجته تسربت عبر الأجيال لتكون جزءًا من أهازيج الأمهات للأطفال لتخويفهم من اللعب خارج المنزل وتحذيرهم من الخطف، وغيرها من أحاديث وقصص المجاعة والحصار والحرب التي كنت أستمتع في طفولتي بالإنصات لجدتي – رحمها الله – وهي ترويها، كان أبرزها عندما فرض العثمانيون على جدي إطعام عدد من الجنود قسرًا لأنه من أعيان ومقتدري المدينة، ولأن الدولة العثمانية لا تمتلك ما تطعم به جنودها في ذلك الوقت في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين.
حصار الموصل المتجدد وقصص الجوع الحالية
تلك التأثيرات لم تكد تنتهي حتى تجد لها مبرر يعيدها ويوقد جذوتها من جديد، فلم تمض على مجاعة 1917 قرن حتى تم حصار المدينة بشكل جديد لتجوع مرة ثانية بين مطرقة الحكومة العراقية متمثلة بقطع الرواتب والمساعدات وبين سندان داعش الذي يذبح ويقتل من يحاول الخروج من المدينة.
حكايات متجددة عاينتها بنفسي من أشخاص تمكنوا من الهرب من المدينة بأعجوبة ومخاطرة كبيرة، تتحدث عن جوع يدب بالمدينة بصمت؛ فذلك أستاذ الإعدادية الموظف في وزارة التربية العراقية لم يستلم راتبه منذ ما يقترب من عام وهو يبيع في أحد أسواق المدينة الشعبية كأس به حبات من الرمان المجهز للأكل يحمله على رأسه ليبيعه بقيمة 20 سنتًا أو ما يعادل 250 دينارًا عراقيًا أو نصف ليرة تركية ليسد جوع أطفاله التي حرمتهم الدولة العراقية من حقهم وتتعنت داعش أن يخرجوا إلى مدينة ثانية يجدوا فيها العيش الكريم.
تتكرر المأساة مع عائلة ثانية لا تمتلك معيل فتجمع الخبز اليابس وعندما يتذمر الأطفال يوضع لهم في الماء بعض أصباغ العصائر الملونة لينقع فيها الخبز ويؤكل.
إلى اليوم لم تصل الموصل للمرحلة التي تجعل منهم يأكلون القطط والكلاب ويظهر فيهم عبود وخجّاوة، ولكن سير الأحداث لا يبشر بخير، فنحن ننحدر بقوة، بين من لا يهمها حتى لو قتل من في المدينة جميعًا مادام شعارها يطبق “باقية وتتمدد”، وقوة ثانية تعتبر الموصل مذنبة بذنب للأسف لم ترتكبه وعليها أن تدفع الثمن، وتجاهل دولي تام، فهل نصل إلى مجاعة جديدة تنتهي بتمر الاحتلال البريطاني؟ أم يكون لحكومة بغداد والمجتمع الدولي رأي آخر؟