بُعيد انتهاء فترة الولاية القانونية للرئيس اللبناني السابق، ميشل سليمان، في شهر مايو من العام 2014، حاولت القوى السياسية اللبنانية الممثلة في البرلمان اللبناني اختيار رئيس جديد في أكثر من 34 جلسة، إلا أن هذه القوى السياسية حتى اللحظة لم تستطيع التوافق على مرشح رئاسي يحظى بأغلبية التأييد في مجلس النواب.
تظهر مفاجآت كل يوم في قضايا الدعم والترشيح بين التيارات المتنافرة، بداية من إعلان ترشيح سليمان فرنجية إلى الرئاسة، ونهاية بدعم رئيس حزب القوات اللبنانية، سمير جعجع، للعماد ميشل عون زعيم التيار الوطني الحر ورئيس كتلة التغيير والإصلاح في عملية ترشحه لمنصب الرئاسة.
هذه المفاجأة بالطبع اعتبرها البعض نهاية للتحالف بين جعجع وزعيم تيار المستقبل سعد الحريري، حيث عبرت بعض وسائل الإعلام عن خطوة جعجع الأخيرة بوصفها “القنبلة الثقيلة” التي نزلت على تحالف قوى 14 آذار، والتي حاول جعجع التخفيف من آثارها على حلفائه السابقين، حين دعا قوى 14 آذار إلى تفهم موقفه وألا يفسر بشكل سلبي ضدها.
ربما يميل الكثيرون إلى أن سعد الحريري وتياره المستقبلي لم يقنعوا جعجع بالبقاء في صفهم حتى اللحظة الأخيرة، إذ إن جعجع يرى نفسه خاسرًا من التحالف مع تيار المستقبل لمدة 10 سنوات، وقد أظهر ذلك بشدة حينما عقد تيار المستقبل العزم على دعم سليمان فرنجية لمنصب الرئيس.
كما يرى جعجع أن عملية المراهنة على سقوط الأسد هي عملية مرهقة أثبتت فشلها، وبات واضحًا أنه اتخذ قراره بالابتعاد عن المعسكر اللبناني الذي يطالب برحيل الأسد والذي يقوده سعد الحريري برعاية سعودية، بالإضافة إلى أن الرجل أراد أن يعود إلى الساحة المسيحية في لبنان بشكل جديد من خلال دعمه عون.
حلفاء جعجع يرددون أن تيار المستقبل هو السبب الرئيسي وراء تدمير تحالف 14 آذار بسبب دعمه فرنجية دون توافق كافٍ، لكن يبدو أن جعجع وحلفائه قد قرروا قطع شعرة معاوية مع التحالف بخطوة جريئة كدعم الغريم السياسي لجعجع ميشل عون.
الجدير بالذكر أن العلاقة بين القوات اللبنانية بزعامة سمير جعجع وتيار عون لم تدخل نطاق المصالحة بعد عداء تاريخي دموي طويل، يعود إلى المعارك المسلحة الطاحنة بين التيارين عام 1989، والتي أدت إلى سقوط مئات القتلى بين الطرفين، فيما عُرف هذا الصدام المسلح يومها باسم “حرب الإلغاء”.
وهي حرب أدت إلى فرز المنطقة الشرقية بين نفوذين عسكريين، واحد للجيش وآخر للقوات اللبنانية، وبعد اتفاق الطائف وتفحل الخصومة بين الرجلين باتا معروفين بعدائهما الشديد لبعضهما البعض في الحياة السياسية اللبنانية حتى الآن.
الخطوة الأخيرة اعتبرت بمثابة رد على ترشيح الحريري لسليمان فرنجية العدو التاريخي الآخر لسمير جعجع، حيث اعتقد تيار المستقبل أن فرنجية سيكون رئيسًا مقبولاً من جميع الأطراف، لا سيما بعلاقته القوية مع التيار المتدخل في سوريا بزعامة حزب الله.
حيث تردد أن الحريري حصل على وعد بتعيينه رئيسًا للحكومة وتغيير قانون الانتخابات، ولم تبد السعودية تحفظًا على ذلك لإنهاء الأزمة العالقة بين طهران والرياض في بيروت، حيث أملت السعودية بهذه الخطوة أن تحجم عون وتمنع عنه منصب الرئاسة باعتباره الشريك السياسي لحزب الله.
اعتبار سمير جعجع حليفًا من الدرجة الثانية لتيار المستقبل حجب عنه مكاسب سياسية كثيرة في وجهة نظره، لذلك كان قرار دعم عون أملًا في دعم شريحة أوسع من الجمهور المسيحي عوضًا عن جمهور تيار المستقبل الذي يفقد فاعليته مع مرور الزمن.
حيث وضع جعجع عينه على تحالف جديد بين القوات اللبنانية والتيار الوطني الحر من أجل المقاعد المسيحية في البرلمان، وهو مكسب ليس بهين لجعجع لم يكن ليحصل عليه إذا بقى في جعبة أسهم الحريري وتياره المستقبل.
اختيار عون أيضًا من جانب جعجع كان بمبدأ أخف الضررين، حيث رأى أن فرنجية وعون كلاهما مؤيدان للأسد في سوريا، ولكنه رأى في عون ضررًا أقل بتحالفه مع حزب الله بينما ينظر جعجع لفرنجية بعين المبعوت السوري إلى قصر بعبدا.
ورغم هذا كله فقد أكدت مصادر لبنانية أن السعودية وتيار المستقبل لم يريدا التخلي عن جعجع بهذه السهولة، وبقيت محاولات ثني جعجع عن هذه الخطوة حتى اللحظات الأخيرة، عبر اتصالات من مستويات عليا في الرياض مع سمير جعجع، لكن الأخير أصر على تفجير هذه الأزمة التي أعطت حزب الله ثقة في اقتراب مرشحه ميشل عون من قصر الرئاسة.
مآلات هذه الخطوة على الصعيد الإقليمي ستكون خطيرة، حيث ستحرز إيران عبر حليفها في لبنان حزب الله هدفًا في مرمى الخصم السعودي إذا تم تعيين عون بهذه الطريقة، وهو ما سيجعل الطرف السعودي في محاولة لإعادة التموضع بحلفائه داخل الصراع اللبناني المرتبط بالجارة سوريا.
كل هذه التجاذبات تعني أن عملية تأجيل اختيار الرئيس هي مآل آخر لتصرف جعجع الأخير، ويعني أن الخريطة السياسية في لبنان من المستحيل أن تبقى على شكلها الثابت منذ عقد من الزمان بتحالفاتها، حيث إن هذا التحالف الجديد بين أكبر ممثلين للقوى السياسية المسيحية سُيلقي بظلاله على الانتخابات البرلمانية القادمة بعد الانتهاء من اختيار الرئيس الذي ربما سينتهي باختيار عون بعد عملية لي أذرع بين السعودية وإيران، وهو ما ينتظره الآن حزب الله من رضوخ لتيار المستقبل وترشيح عون.
وفي النهاية تعكس هذه الخطوة ما يُفكر به جعجع حيال منع فرنجية من الوصول إلى الرئاسة، حيث أعلن أنه مستعد للذهاب للحد الأقصى وما هو أبعد منه في التحالفات مع الخصوم لقطع الطريق على انتخاب سليمان فرنجية رئيسًا للجمهورية.