ترجمة وتحرير نون بوست
الشعار الذي أطلقه المنتدى الاقتصادي العالمي (دافوس) المتمثل بعبارة “الالتزام بتحسين وضع العالم”، يفسح المجال أمام بزوغ بعض الأحاديث المحرجة للغاية بالنظر إلى أن وضع العالم لا يتحسن، بل إنه يزداد في الواقع سوءًا بشكل ملحوظ.
في العام الماضي، اتسم منتدى دافوس، الحدث الاقتصادي العالمي السنوي، بصبغة الخوف، ولكنه هذا العام يكتسي بشعور يتسامى عن الخوف يتجلى بتحول مخاوف عام 2015 لتضحي حقيقة واقعة في عام 2016.
الأسواق العالمية التي تشهد تدهورًا ملحوظًا هي إحدى جوانب التدهور العالمي؛ فأسواق أسهم المملكة المتحدة واليابان، على سبيل المثال، تشهد رسميًا اتجاهات انخفاضية مع هبوطها بنسبة تنوف عن 20% عن أعلى مستوى لها، وهذا الواقع يبدو ورديًا وإيجابيًا مقارنة بما يحدث في أسواق أسهم بلدان أخرى كالبرازيل والصين، كما يشهد العالم في هذا العام تضاعف أزمة اللاجئين الأوروبية، والتي تعد في جزء منها عَرَضًا لأزمة أوسع من الكراهية المتطرفة المصبوبة تجاه متطرفي داعش وبوكو حرام وأمثالهم، فضلًا عن أن السياسة بشكل عام تشهد انحيازًا مطردًا نحو الاستقطاب والتطرف، وهذا الاتجاه لم يعد مقتصرًا على البلدان التي ضربتها الأزمة الاقتصادية المتوازية مع ارتفاع معدلات البطالة كاليونان واسبانيا، بل امتدت لتشمل صعود الجبهة الوطنية في فرنسا، واحتمالية تصويت بريطانيا لمغادرة الاتحاد الأوروبي هذا العام، كما سيشهد دافوس بالتأكيد أحد المواضيع السياسية الأكثر شيوعًا هذا العام، إنه دونالد ترامب.
يمكن وصف ترامب، الذي سيحضر اليوم بين صفوف المؤتمرين، بأنه أبعد سياسي غربي عن توجهات دافوس، فهو لا يؤمن بمبادئ ومنطلقات المؤتمر، وفي الواقع، لا يحوز ترامب أية وجهات نظر تسعى لتحسين وضع العالم؛ فأقصى ما يرومه الأخير هو جعل أمريكا دولة عظمى مرة أخرى، وخطته لتحقيق ذلك تتمحور حول مبادئ صفرية المحصلة؛ ففي عالم ترامب، جميع العروض هي عبارة عن مفاوضات تهدف لإلحاق أكبر قدر من التكلفة والخسارة للشعب القاطن بمواجهة أمريكا، وبهذه الطريقة، من وجهة نظر ترامب، يمكن لأميركا أن تفوز وتصبح عظيمة مرة أخرى؛ أي، وبالمختصر، فوز أميركا لا يمكن أن يتحقق إلا من خلال جعل جميع العالم يخسر.
بالمجمل، لا يمكننا إنكار أهمية دافوس من حيث قدرته على جمع أكثر الشخصيات نفوذًا في العالم لعقد سلسلة من الاجتماعات السرية، والخالية عمومًا من اتساق المضمون مع أهداف المؤتمر المعلنة، ولكنها مع ذلك، تتماهى بشكل فعّال مع البرنامج الرسمي للمنتدى؛ فمحادثات دافوس، وبالذات السرية منها، غالبًا ما تكون رائعة وثاقبة ومربحة أيضًا، بالنظر إلى أن العديد من الدراسات أوضحت بأن الأشخاص الأكثر اتصالًا مع الآخرين يميلون ليكونون الأكثر نجاحًا أيضًا، ومن هذا المنطلق، تأتي الأحاديث العامة والعلنية في منتدى دافوس لتركز على منطلقات فكرية سامية، تتجلى حلولها بطلاسم يطلقها المؤتمرون حول الحاجة لتحسين ظروف العمل والمعيشة لجميع سكان العالم البالغ تعدادهم 7.4 مليار شخصًا في شتى أنواع المجالات، كالتعليم، الأمن، الصحة، تغير المناخ، والاقتصاد العالمي ككل، علمًا بأن تلك المناقشات العلنية تحمل في طياتها تأثيرًا بالغ الأهمية، لأنها تسبغ العظمة على المؤتمر، وتزوّد المؤتمرين بالذرائع اللازمة لخروجهم وهم يربّتون على ظهور بعضهم البعض بغبطة، وليسرفوا الوقت والمال عامًا تلو الآخر على حل المشاكل المستعصية بطرق تافهة.
ولكن إذا انتقلنا للحديث حقًا عن الحلول الفكرية الملائمة للوضع الحالي، يبدو من الجلي بأن أباطرة هذا العام في منتدى دافوس يحوزون حلولًا بالكاد يمكنها أن تستر عوراتهم؛ فالمصرفيون وصناع القرار لم يعودوا بحاجة ليتكبدوا عناء تزوير الوضع الراهن، وهم على استعداد متزايد ليعترفوا جهرًا بألّا فكرة لديهم عمّا يحدث وبأن أفكارهم نضبت حيال الحلول التي يتوجب عليهم القيام بها حيال الوضع الراهن؛ فمستويات أسعار النفط قاربت حدودًا لم يكن أحد قادرًا على التنبؤ بها قبل بضعة أشهر، ولا أحد أيضًا يستطيع التنبؤ بمدى استمرارية أزمة انخفاض النفط، وهذا الواقع يحقن كميات هائلة من انعدم اليقينية حول التوقعات العالمية، خاصة وأن أسعار النفط تمتلك تأثيرات مباشرة على كافة مناحي العالم تقريبًا، كالحروب في الشرق الأوسط، السياسة في فنزويلا، الإرهاب في نيجيريا، واحتمالية حدوث أزمة ائتمان عالمية وهلم جرا، علمًا بأن أسعار النفط هي إحدى المتغيرات العديدة التي تخضع لانعدام اليقينية وانعدام الحلول في سياق المنتدى لهذا العام.
هذا المستوى الحتمي من انعدم اليقينية يفسح المجال أمامنا لنستجلي بعض أشكال الهراء الأعمى الذي يطلقه بعض المؤتمرون في دافوس عامًا إثر عام؛ فإذا تحدث شخص ما بشكل حالم حول المستقبل الوردي للطاقة المستدامة وعجائب شحن السيارات من مصادر الطاقة المتجددة كالرياح والشمس، عادة ما ينصاع الجمهور بسهولة وسلاسة للغرق في بحور الخيالية العمياء ليومئوا برؤوسهم موافقين على أفكاره طوال الحديث، وتبقى حدود نقد تلك الأفكار الطائشة محدودة للغاية في ظل مدى انشغال الجدول اليومي للمنتدى، ولكن وعلى أرض الواقع، وإذا أخذنا بعين الاعتبار السعر المتداول لبرميل النفط البالغ حوالي 27 دولارًا للبرميل، وفي ظل إدارك الجميع لافتقار العلم للوسيلة الملائمة لخلق طاقة مستدامة، سواء من الرياح أو من الشمس، قادرة على أن تولد الطاقة بهذا السعر البخس، سيباشر حتى أكثر أفراد الجمهور انصياعًا لأفكار المستقبل الوردي بالتساؤل عمّا إذا الشخص الذي يتفوه بهذه الكلمات قد أعاد التفكير بها قبل أن ينطقها من على منبر المؤتمر.
الأمر الآخر الذي يتجلى نقصه بوضوح داخل المؤتمر هو النقاشات حول العملة الرقمية بيتكوين (Bitcoin)، وهي عملة مشفرة مخصصة للاستخدام الإلكتروني فقط، والتي تعد اليوم جزءًا أساسيًا من العالم بعد بزوغ ثورة الروبوتات، وعلى هذا النحو، فإن هذه العملة الرقمية تفرض ذاتها بشكل حتمي على كافة مناحي التكنولوجيا، وبشكل خاص ضمن أي منصة ترتبط بالتمويل أو بعالم إنترنت الأشياء، ولكن رغم كل هذه الأهمية التي تحوزها، يتجاهل مؤتمرو دافوس ذكر بيتكوين، معتبرين إياها بأنها بدعة محطمة في أحسن الأحوال، إن لم تكن قد اندثرت بالفعل!
إذن، وفقًا لما تقدم، يمكن نعت هذا العام من منتدى دافوس بأنه “عام الإنكار”؛ ففي هذه السنة أضحى الانفصام ما بين الخطاب والواقع أكثر وضوحًا من أي وقت مضى، وذلك على الرغم من أن مؤسس المنتدى الاقتصادي العالمي، كلاوس شواب، الذي يعد شخصًا بلوتقراطيًا متسلطًا تمامًا كغيره من الرجال الأغنياء والأقوياء، قد جاء بفكرة مبتكرة لجمع العالم سويًا لخدمة السلام والرخاء العالميين، ونقلها من عالم الأفكار إلى التطبيق، ولاقت هذه الفكرة رواجًا وقبولًا حتى من قِبل النقاد اليساريين الذين أضحوا يصفون دافوس بأنه “المكان الذي يجري ضمنه، على نحو متزايد، اتخاذ القرارات العالمية، وبأنه نموذج للحكم العالمي الافتراضي”.
ولكن مع ذلك فإن الحقيقة تقول بأنه، وباستثناء عدد قليل من المبادرات في مجال الصحة العامة، فإن نموذج دافوس المتمثل “بمبادرات كبار حملة الأسهم المتعددين” و”إعادة صياغة العالم” قد فشل تمامًا في تحقيق أهدافه المعلنة؛ فاصطناع الكلام المفخم يتعاظم اليوم أكثر من أي وقت مضى، ولكن هذه العبارات الطنانة لم تسفر عن جمع العالم جنبًا إلى جنب، بل بدلًا من ذلك، يبدو العالم منقسمًا على ذاته، كما أصبح القادة المتعددين للمنتدى الاقتصادي العالمي مجرد متفرجين عاجزين عن تحقيق ما يلزم للرقي بتطلعات مؤسس دافوس، الذي لا يمتلك في الوقت الراهن أي خيار ليقوم به سوى عقد المؤتمر كل عام رغم الفشل الذي يعتريه.
المصدر: فيوجين