ترجمة وتحرير نون بوست
لم تستطع جميلة التوقف عن تكرار تلك الكلمات “لن أغادر غزة ثانية، لن أترككما وحدكما مرة أخرى، مهما يكن، ومهما حدث لعائلتي في المغرب”، وهي تحيط ولديها بذراعيها بعد عودتها لمخيم جباليا للاجئين شمال غزة، وحينها، تحولت وعودها إلى ترنيمة لا يمكن السيطرة عليها.
لقد كان ذلك في منتصف أكتوبر عام 2015 بعد أن ظلت عالقة في مدينة العريش عاصمة شمال سيناء منتظرة مع مئات الفلسطينيين العالقين أمام معبر رفح ريثما يتم فتحه ويتمكنوا من العودة إلى منازلهم.
في ظل عدم وجود نهاية متوقعة لهذا الانتظار المشؤوم، عدم كفاية الموارد المتاحة لتغطية نفقات الإقامة غير المحدودة في العريش، ومع تزايد حوادث إطلاق النار والخطر المستمر وحظر التجول ليلًا حيث كانوا جميعًا مجبرين على التواجد بشكل دائم في الفنادق، واجهت جميلة احتمالية ألّا تتمكن من العودة لأطفالها مرة أخرى في المستقبل القريب، لقد كانت والدتها في غزة أيضًا مريضة بشدة، وعقب وصولها إلى العريش مباشرة قامت بمهاتفة أختها وأخبرتها بصوت مكسور: “إذا ماتت أمي فادفنوها ولا تفكروا بي، فليسامحني الله ولتسامحني أمي”.
تسع سنوات دون انقطاع تقريبًا وغزة تحت الحصار، منهم حوالي عامين ونصف بعد الانقلاب في مصر؛ فمعبر رفح – المعبر الرئيسي لدخول وخروج غالبية الفلسطينيين من غزة – قد اكتسب سمعة سيئة باعتباره أحد بوابات الجحيم، هذه السمعة التي اكتسبها مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بدوره الحقيقي والرمزي في الحسابات السياسية القاتلة والفساد والتواطؤ والعبودية.
دور معبر رفح يتعدى مجرد كونه حاجزًا جغرافيًا أو معبرًا حدوديًا؛ فهذه البوابة أصبحت رمزًا لوحشية الأنظمة الديكتاتورية تجاه 1.8 مليون نسمة، 70% منهم من النساء والأطفال، وحوالى 50% منهم أقل من سن الـ18 عامًا ويعيش حوالى 80% منهم تحت خط الفقر.
تقوم إدارة المعبر الفاسدة أيضًا بالمطالبة بحوالي 4000 دولار (ما يعادل 32.000 جنيه مصري) من سكان غزة البائسين للسماح لهم بالوصول للعالم الخارجي، وكما هو الحال دائمًا، مع بعض الرشاوي والاتصالات يمكنك العبور، أما الذين لا يستطيعون ذلك – وهم حوالي 99.99 % من الناس- فليس أمامهم سوى سداد هذا المبلغ الباهظ.
بعد أن قام عبد الفتاح السيسي بالإطاحة بالرئيس المنتخب محمد مرسي بالقوة، تدهورت العلاقات بشدة بين مصر والفلسطينيين في غزة وحكومتهم المُقالة برئاسة حماس، وتداعيات هذا الأمر أصبحت لافتة للنظر، فهي تضرب في عمق شريان حياة هؤلاء السكان الفقراء والمحاصرين؛ فالمكائد السياسية تسعى لإبقاء معبر رفح مغلقًا معظم الوقت انتقامًا من حكومة حماس، التي ينظر إليها النظام المصري الجديد كامتداد لخصمه السياسي (جماعة الإخوان المسلمين).
في عام 2014 وخلال السنة الأولى من سنوات السيسي الرئاسية الأربع، ظلت الحدود مغلقة لمدة 241 يومًا مع الحد من تكرار فتح الحدود واستكمال حملة تدمير أنفاق غزة، المهرب الوحيد الباقي للمفلسطينيين المحاصرين، هذا الإغلاق شبه الدائم جعل اقتصاد غزة الهش يجثو على ركبتيه، وعمّق الخراب الذي لحق بسكان القطاع.
كأن تسع سنوات من الحصار الإسرائيلي والهجوم الإسرائيلي المروع في صيف 2014 لم يكونا كافيين لعقابهم، فقد أنطفأ آخر ما تبقى من الأمل لدى سكان غزة من أجل حياة كريمة، وفيما يتعلق بالمعابر الحدودية، كان عام 2015 أسوأ الأعوام الخمسة، حيث أغُلقت الحدود في العام الماضي لأكثر من 300 يوم.
قامت أستاذة علم الاجتماع الإسرائيلية، إيفا لويز، مؤخرًا، بالمقارنة بين ظروف الشعب الفلسطيني الحالية وبين ظروف العبودية؛ فهذه الظروف، كما قالت، تطرح أحد أهم التساؤلات الأخلاقية في عصرنا الحالي، فهي تشبه في بعض النواحي، تلك العبودية التى أدت لانقسام الولايات المتحدة في القرن الـ19، وحجة لويز حول ذلك كانت بسيطة وصادمة في آن واحد، وتنطبق بسهولة على الوضع في غزة؛ حيث كتبت في مقالتها: “إذا قام شخص أو مجموعة أشخاص بوضع آليات معينة للحد من حرية وحياة شخص آخر، فهذا الشخص من الناحية التقنية ليس عبدًا لكنه يخضع لشروط العبودية”.
وقالت أيضًا: “عندما يعيش حوالى 70% من السكان االفلسطينيين في ظروف تجعل حريتهم، كرامتهم، سلامتهم الجسدية، قدرتهم على العمل، قدرتهم على اقتناء الممتلكات، وقدرتهم على الزواج والتخطيط للمستقبل بشكل عام، خاضعة لإرادة أسيادهم من الإسرائيليين، فهذه الظروف لا يمكن أن نطلق عليها سوى اسمها الصحيح (ظروف العبودية)”.
في ضوء هذا الطرح، وبالنظر للحصار الذي تفرضه إسرائيل على معابر غزة البرية مع حظر السفر جوًا وبحرًا من وإلى هذا القطاع الصغير، تقوم مصر بإغلاق المنفذ الوحيد الباقي لغالبية سكان غزة مما يحرمهم من معظم حقوقهم الأساسية والإنسانية، إن لم يكن جميعها؛ فحرمان الفلسطينيين من حرية الحركة داخل وخارج غزة أو قدرتهم على لم شمل عائلاتهم أو السفر للعمل والدراسة أو التخطيط لحياتهم، تتشارك فيه مصر مع إسرائيل في فرض ظروف العبودية.
ومع ذلك، فكلا البلدان يحتاجان لطرف ثالث يقوم بالتغطية على أفعالهما القذرة ويبرر حصارهما المطلق الذي أحكماه على سكان غزة، ويقوم بهذه المهمة السلطة الفلسطينية برئاسة محمود عباس.
عمومًا، وخلال العقد الماضي، أثبتت السلطة الفلسطينية مشاركتها في تلك الكارثة المؤسفة؛ حيث أظهرت أنها غير قادرة على تحمل المسؤولية وأنها لا تهتم بتخفيف معاناة الفسلطينيين، وعندما يتعلق الأمر بغزة على الأخص، فهي تظهر افتقارها التام للأخلاق؛ فإغلاق معبر رفح كشف عن انحطاط السلطة الفلسطينية وقياداتها التابعين لاتفاق أوسلو.
في مقابلة أجرتها صحيفة الأخبار حول معبر رفح، صدم عباس غالبية سكان غزة بدعمه لجهود الجيش المصري، فقد فشل في التشكيك في هذا الحصار الخانق الذي يظهر أثره على حياة الإنسان وصحته، أو في الاحتجاج على الآثار الكارثية التي يفرضها هذا الحصار على الإنسان والبيئة جرّاء قيام مصر ببناء قناة من مياه البحر بطول الحدود مع غزة لمنع بناء الأنفاق وتدمير اقتصاد الأنفاق، وبدلًا من ذلك، فقد أعرب عباس عن تفهمه لاحتياجات مصر الأمنية وأوضح تفهمه لخطوة تدمير منازل الفلسطينيين التي تقع على طول الشريط الحدودي للمعبر وقال بأنه لا يستطيع تحدي أو تغيير تلك السياسات، وعلاو ة على ذلكـ استغل عباس هذه الفرصة لمهاجمة حماس واتهامها بأنها تأخذ الأوامر من القيادات الدولية لجماعة الإخوان المسلمين.
أما فيما يتعلق بتخفيف الحصار عن غزة، فيبدو بأن السلطة الفلسطينية لا تسعى فقط للانتقام من منافستها “حماس”، بل تسعى أيضًا لعقاب الأشخاص الذين أتو بها إلى السلطة في انتخابات 2006، ومن المقاومة التي تتحدى باستمرار “مهزلة أوسلو”.
ومع إحكام الحصار على أهل غزة والدفع بهم نحو شفير الهاوية، تسعى السلطة الفلسطينية لتحريض السكان على التمرد، ليس ضد ظروف العبودية المفروضة من قِبَل مصر وإسرائيل، بل ضد حكومة حماس المنتخبة في غزة، علمًا وأنه في واقع الأمر، تم انتخاب حماس في انتخابات عام 2006 لتحكم غزة والضفة الغربية.
وتماشيًا مع رؤيتها السياسية الضيقة وتواطئها مع قوات الاحتلال ومع مصر، تسعى السلطة الفلسطينية لتعميق الانقسام بين الفلسطينيين والالتفاف حول تطلعات الشعب الفلسطيني، في ذات الوقت الذي يقدم فيه المسؤلون عن تطبيق الحصار يومًا بعد يوم مبررات واهية لإغلاق المعبر، مرة بسبب الوضع الأمني في سيناء، وأخرى بسبب غياب الحرس الرئاسي للسلطة الفلسطينية، والمبرر الأسوأ هو المخاطر التي تواجهها بسبب الانقسام الفلسطيني الداخلي.
هذا الإغلاق شبه المحكم لمعبر رفح بواسطة السلطة المصرية، سبب آلامًا ومآسٍ لعدد غير محدود من العائلات والأشخاص، حيث أدى ذلك إلى حرمانهم من الرعاية الطبية وكلف المئات حياتهم وبصرهم وصحتهم وأطرافهم وقدرة أجسادهم على الحركة، بينما خسر الكثيرون تأشيرات سفرهم للخارج وحقوق الإقامة في بلدان أخرى وتم إجبارهم على التنازل عن منحهم الدراسية وتصاريح العمل وأي فرص أخرى تلوح أمامهم لبناء حياة كريمة.
والأهم من ذلك، أدى هذا الحصار الفاشي لقيام مئات الآلاف بالتخلي عن أحلامهم وطموحاتهم لمستقبل أفضل، حيث قال أحد الشباب من غزة معبّرًا عن أمنياته في عام 2016: “أملي أن يبقى الأمل”، جملة بسيطة لكنها مثيرة للقلق بشدة حيث تشير إلى مستويات جديدة من زيادة الضغط.
أخيرًا، وفي ظل انعدام إمكانية الخروج من غزة، أضحى كل شيء ممكنًا، ولم نعد نستطيع التنبؤ بأي شيء، فردود الفعل قد تنفجر في أي وقت، وبأي شكل وبأي اتجاه، ولا أحد في مأمن من ذلك.
المصدر: ميدل إيست آي