اندلعت شرارة الثورة التونسية قبيل 5 سنوات من الآن في 17 ديسمبر من العام 2010 بعدما أضرم الشاب محمد البوعزيزي النار في جسده تعبيرًا عن غضبه من أزمة بطالته ومصادرة العربة التي تُعد مصدر رزقه الوحيد من قبل الشرطة التونسية.
خرجت الجماهير ولم تهدأ سوى في 14 من شهر يناير مطلع 2011 حينما تنحى الرئيس المخلوع، زين العابدين بن علي، مغادرًا البلاد، ومعلنًا عن نهاية حقبة سيطرة الدولة البوليسية التونسية على مقدرات الشعب التونسي.
كانت أبرز الأسباب وراء اندلاع هذه الثورة الفساد الذي استشرى في جسد الدولة التونسية، وزيادة معدلات الفقر والبطالة في ظل تدهور اقتصادي شهدته البلاد، وفي المقابل كان النظام التونسي يواجه الغليان الناتج عن هذه الظروف بسياسة القمع والإرهاب البوليسي لكل من تُسول له نفسه معارضة الحكم القائم.
في الذكرى الخامسة للثورة التونسية اندلعت تظاهرات سلمية أخرى احتجاجًا على ما يُعرف في تونس بأزمة التشغيل أو “البطالة”، والتي انطلقت من مدينة القصرين التونسية لتمتد إلى بقية المدن رافعة مطالب الحد من أزمة البطالة والتهميش الاجتماعي التي كانت من أبرز مطالب الثورة التونسية.
تلك الثورة التي تعثرت كثيرًا بُعيد تنحي بن علي دخلت في متاهات السياسة وتلاطمت مطالبها مع الحسابات السياسية مما أثر على قدرة الحكومات المتعاقبة على معالجة أزمات المواطن التونسي بشكل جذري لا سيما أزمة البطالة، وهو الأمر الذي أنتج في النهاية هذه الاحتجاجات.
ولكن ماذا يحدث بالضبط على الأرض في تونس؟
انطلقت تظاهرات عقب مقتل الشاب التونسي رضا اليحياوي في مدينة القصرين، اليحياوي كان عاطلًا رغم حصوله على مؤهل عالي، إلا أنه كانت ينتظر مجئ دوره في قائمة انتدابات الوظائف العمومية في تونس، حتى فوجئ بحذف اسمه من القوائم دون سبب واضح بطريقة تشوبها الفساد، الأمر الذي دفعه لتسلق عمودًا كهربائيًا احتجاجًا على ذلك، حتى صعقه التيار الكهربائي ولقي حتفه.
هذا الأمر استفز مشاعر أهل المدينة الذين خرجوا في تظاهرات بدأت سلمية احتجاجًا على أوضاع الشباب العاطلين عن العمل في ظل تفاقم أزمة التشغيل، حيث تتحدث بعض التقديرات أن البطالة في تونس طالت ربع القوى العاملة المستخدمة في الولايات الغربية والجنوبية، كما تحدثت تقارير صحفية أيضًا عن وصول معدلات الفقر إلى ربع السكان خاصة في الولايات الداخلية.
امتدت التظاهرات إلى العديد من المحافظات التونسية الأخرى رغم وعود الحكومة بمعالجة الأمر في مدينة القصرين التي شهدت الاضطرابات الأوسع، إلا أن حالة جديدة ظهرت في هذا التوسع للحركة الاحتجاجية وهي افتعال حالات شغب وعنف خلال التظاهرات، أدت إلى حرق بعض المقار الشرطية، واقتحام 10 مبان للمحافظات.
كما تصاعدت وتيرة العنف والشغب لتتحول إلى عمليات سرقة ونهب في بعض المدن أبرزها السطو على مصرفين وسرقة مخازن للبلديات، بعد أن عمت التظاهرات المدن التونسية وتولدت حالة من الفوضى خاصة فيما يُعرف بناحية المحافظات المهمشة.
ازدياد الاضطرابات دعى رئيس الحكومة التونسية، الحبيب الصيد، إلى قطع مشاركته في منتدى دافوس الاقتصادي والعودة إلى تونس، مع تأكيده في تصريحات صحفية أن البطالة مشكلة أساسية وهي من أولويات الحكومة، لكن بحسب تصريحاته “لا نملك عصا سحرية” لإنهائها في وقت قصير؛ مؤكدًا أن على تونس أن تجد نمط تنمية جديد يقوم على العدالة الاجتماعية.
تصريحات رئيس الحكومة والإجراءات المتخذة لم تكن كافية لتهدئة الشارع، وقد أعقب ذلك الأمر الإعلان من جهة البرلمان عن جلسة مسائلة عاجلة للحكومة في هذا الصدد الأيام المقبلة، في ظل انتظار اجتماع هام أيضًا لمجلس الوزراء.
من جانب القوى السياسية في تونس فلم توضح موقفها مما يحدث على الأرض بشكل صريح، ولكنها اكتفت بتأييد الحق في حرية التعبير والاحتجاج، لكن مع التحذير من إلباس هذه المطالب المشروعة لباس الفوضى والتخريب تحت مسميات مطالب مشروعة.
لماذا اتخذت التظاهرات منحى الشغب والعنف؟
صرح الحبيب الصيد رئيس الحكومة بأن الاحتجاجات الآن لم تعد سلمية في بعض المحافظات وأن الحكومة ستتحمل مسؤولياتها على كل حال، في ظل توجيهات للأمن التونسي بالتعامل بأقصى درجات ضبط النفس، وهو ما ظهر بالفعل في التعامل مع الاحتجاجات الأخيرة بحسب ما أكد ناشطون لنا من الداخل التونسي.
لكن اتساع رقعة الفوضى اضطرت الحكومة التونسية إلى إعلان حظر التجوال ليس فقط في مناطق الاضطراب ولكن في كافة المدن التونسية من الساعة 8 مساءً وحتى 5 فجرًا، في تطور جديد للأحداث.
وهو ما يطرح السؤال لماذا اتخذت التظاهرات هذا الشكل العنيف الذي أسماه البعض بالتخريبي رغم البدايات السلمية للحراك، يجيب عن هذه التساؤلات الأمين العام للاتحاد العام التونسي للشغل المكلف بشؤون الإعلام، سامي الطاهري، في تصريحات صحفية يؤكد فيها أن عناصر مشتبه في انتمائها لمجموعات إرهابية ومجموعات تهريب أخرى دخلت على خط الاحتجاجات.
وقد ظهر ذلك جليًا في أحداث السرقة والنهب التي شهدها حي التضامن في العاصمة التونسية، ويقول الطاهري أن هناك ثمة معطيات أكيدة من نشطاء في التظاهرات تؤكد أن أموالًا تعطى لبعض اللصوص من أجل تصعيد الشغب مع الأمن والقيام بعمليات اقتحام وحرق للمنشآت.
ورغم ذلك في إن الاتحاد العام التونسي للشغل يدعم حق الشباب المهمش في المطالبة بحقوقهم في التشغيل، وقد بدأ الاتحاد بالفعل في التجهيز لدعوة إلى حوار وطني حول قضية البطالة في تونس للعمل على حلها، على غرار الرباعية التونسية التي ساعدت في تخطي تونس لأزمتها السياسية.
الأحاديث عن العناصر المندسة في أوساط التظاهرات أحيانًا لا تلقى مصداقية من جانب الجمهور لا سيما وإن خرجت من الحكومات، لكن تأكيد بعض قيادات الاتحاد العام التونسي للشغل -وهي منظمة نقابية مشهود لها بالنزاهة في الأوساط التونسية-، عن وجود أموال مشبوهة من دول عربية -تحفظوا على ذكر اسمها- تدفع لتأجيج الصراع في الشارع التونسي، يجعل مصدقية هذا التفسير أعلى في أسباب جنوح التظاهرات السلمية إلى العنف.
وهو نفس الشئ الذي أكده وزير الداخلية التونسي الجديد في تصريحاته عن رغبة بعض الأطراف في توريط الجهاز الأمني في صراع جديد مع الشعب من خلال هذه الأحداث.
الإمارات تستغل الأحداث إن لم تفتعلها
قصة التدخل الإماراتي في تونس ليست وليدة اليوم، وإنما بدأت منذ الأول بعد الإطاحة بنظام بن علي، وبدء صعود حركة النهضة الإسلامية التونسية كشريك في حكم البلاد، بداية من الحصول على الأغلبية في المجلس التأسيسي وتشكيل الحكومة التونسية، والبرلمان الذي حظى حزب نداء تونس بأغلبيته في الانتخابات، نهاية بصعود الباجي قايد السبسي رئيسًا للبلاد بدعم إماراتي.
المتابعون للشأن التونسي يؤكدون وضع الإمارات خطة لمواجهة نفوذ حركة النهضة الإسلامية في تونس بالاستعانة بأطراف داخلية وخارجية عدة، وهي ضمن خطة أوسع لمواجهة ثورات الربيع العربي وما أفرزته من حكومات الإسلام السياسي.
جدير بالذكر أن الإمارات نفسها هي من دعمت الباجي قايد السبسي أمام منصف المرزوقي ليصل إلى منصب الرئاسة، لكن لم تكتمل الخطة الإماراتية لاستئصال النهضة من المشهد تمامًا، في ظل تنازلات الحركة التي قلبت الرأي العام التنظيمي المؤيد بداخلها بتهمة الانبطاح والتفريط في حقوقها.
لكن كانت لقيادة الحركة رأي آخر وهو اتخاذ “تكتيك التراجع للخلف” لتفويت الفرصة على الأطراف الداخلية الممولة من الإمارات لتكرار سيناريو انقلاب مصر، بعدما رفضت الحركة تولي زمام المبادرة في الحكم، إلى أن اتهمت بتركها لفلول النظام السابق، ولكن الحركة رفعت شعار التوافق الكامل حتى آخر لحظة في المشهد متجاهلة كل هذه المزيدات.
مصادر داخلية بالحركة أكدت لنون بوست علمهم الكامل بالمخططات الإماراتية التي تحاك في الداخل التونسي، وقد ظهرت بصورة جلية في التظاهرات الأخيرة، بعدما قرروا استبدال السبسي حليفهم القديم بآخر جديد يعمل على أجندة إماراتية كاملة.
فبعد أن فوتت حركة النهضة التونسية على الجميع فرصة استئصالها من المشهد، وتراجعت قدرة السبسي على ذلك بسياسة الأمر الواقع، لجأت الإمارات إلى توجيه رسائل واضحة للسبسي بعد امتناعه أو عدم قدرته المضي قدمًا في عملية استئصال النهضة، ربما كان أهم هذه الرسائل استهداف حافلة الأمن الرئاسي، في رسالة مفادها أن شبح الإرهاب والتفجيرات ليس ببعيد عن شخصك.
في ظل تأكيدات من مصادر داخلية تونسية رفضت الإفصاح عن هويتها لنون بوست تفيد تورط الإمارات في سلاسل العمليات الإرهابية التي تضرب تونس، لإفشاء حالة من الفوضى في البلاد تُمكنها من استكمال مخططها، وقد استشهدت هذه المصادر بعملية اغتيال السياسي شكري بلعيد التي تُشير دلائل عدة بأن الإمارات تقف خلفها، مما فتح بوابة الاغتيالات السياسية في تونس.
هذه العمليات الإرهابية كانت أيضًا تستهدف بالأساس إنهاك الأمن التونسي وإثبات فشله في ظل الحكومة الحالية التي لا توالي الإمارات بشكل كامل، بالإضافة إلى استمرار محاولات الإمارات العبث بالجيش التونسي واستدراجه للساحة السياسية لتكرار الحالة المصرية في النهاية.
كل هذه المعلومات الواردة على لسان مصادر تونسية داخلية، تأكدت من خلال حصول نون بوست عن طريق مصادر أخرى على معلومات تُشير إلى اجتماع لمحمد دحلان القيادي السابق بحركة فتح والمستشار الأمني لولي عهد أبوظبي بمجموعة من السياسيين ورجال الأعمال التونسيين خلال الاسابيع الماضي في منطقة البحيرة بقلب العاصمة التونسية تحت غطاء لقاءات اقتصادية وتجارية.
إلا أن مصادر نون بوست تؤكد أن الاجتماع لا ينفصل عن خطة الإمارات لتفجير الوضع التونسي الداخلي، ومن أبرز ملامح هذه الخطة الإماراتية هي تفجير حزب نداء تونس من الداخل الذي يقف كداعم رئيسي للرئيس الحالي السبسي بعد قبوله التحالف مع حركة النهضة، وقد تمت هذه الخطوة عن طريق جناح محسن مرزوق بالإنشقاق الذي حدث.
هذا الجناح الذي على ما يبدو سيكون فرس رهان الإمارات في الفترة المقبلة بدلًا عن السبسي الذي قررت الإمارات أن تتركه بتحالفه مع النهضة لمواجهة الاضطرابات التي ستحدث في البلاد الفترة المقبلة، حيث أصبح من المتدوال والمعروف ولاء محسن مرزوق الكامل للإمارات بعد أن تحولت مواقفه في الفترات الماضية بشكل غريب، بعدما كان يقيم في العاصمة القطرية الدوحة ويتبنى وجهة نظر القطريين في المنطقة، تبدلت مواقفه إلى الجانب الإماراتي الذي يناصب العداء الآن للثورات العربية.
هذا الشقاق بين السبسي والإمارات واحتمالية استبداله أكدها حديث صحفي مقرب من السبسي يُدعى، سفيان بن فرحات، حيث أكد أن الإمارات حاولت الدفع بالسبسي للاستيلاء على السلطة حتى قبيل الانتخابات البرلمانية وتحويل تونس تجاه النموذج المصري، لكن الأمر لم يتم بالصورة التي أرادتها الإمارات لذلك بدأت عملية السخط عليه من الجانب الإماراتي.
وعليه فإن البعض يرى الدور الإماراتي يبرز في تونس في هذه الأحداث، من خلال خلية يُديرها محمد دحلان صاحب الدور المشبوه في ملفات المنطقة، في الوقت الذي يرى بعض المراقبين أن حركة النهضة التونسية والسبسي يقعان الآن في أخطاء مكررة أبرزها عدم مصارحة الشعب التونسي بما يدور في كواليس الأحداث، وهو ما ينذر بخطر شديد إذا ما تطورت الأحداث في الاتجاه التي تدفع الإمارات البلاد إليه.
هذه التحولات العنيفة التي أصابت الحركة الاحتجاجية الأخيرة تُشير إلى ضلوع الإماراتيين وحلفائهم في تونس بشكل واضح في عملية إشاعة الفوضى لإظهار عجز الحكومة الحالية، ومن ثم فتح الباب لما يُمسى “بثورة جديدة” على غرار أحداث الثلاثين من يونيو في مصر التي أطاح الجيش فيها بالرئيس المصري السابق محمد مرسي.
لكن المفارقة في هذه الأحداث أن الإمارات تستهدف حليفها القديم السبسي بجانب تواجد حركة النهضة في المشهد السياسي، الذي لا يروق لحكام الإمارات بهذه الصورة، رغم أنهم أحد الأسباب الرئيسية في صناعته على هذا النمط.