كان لا بد بعد مرور مدة ليست باليسيرة بعد هبوب رياح ما سمي بالربيع، إعادة قراءة المشهد العربي والمغربي خاصة، هذا الأخير الذي تميز عن باقي الحراكات بنضج أطرافه وسلميته وعدم إغراق البلد في الدماء والأشلاء، كما وقع في سوريا أو اليمن، حين انسحبت منه جماعة العدل والإحسان وما واكب ذلك من انتقادات تبين بعدها أنها كانت لحظة موفقة وتقديرًا سياسيًا رصينًا ورزينًا من تنظيم سلمي ينبذ العنف.
وأولى الخلاصات التي أعتقد أن كثيرين مثلي وقفوا عليها هي أن الاستبداد الذي امتد لقرون لا يمكن إسقاطه في لحظة، ثم مدى استعداد اليساريين والإسلاميين للحوار والتعاقد حول العيش المشترك وما يترتب على ذلك من تنازلات وتفاهمات ووثيقة تأسيسية ملزمة كما وقع بتونس، بارك الله التغيير الجاري بها، مع تسجيل كثير من الملاحظات والعقبات.
كان هناك تنازل كبير لحركة النهضة يمكن للمتتبع تسجيله، مع ما واكب التجربة برمتها من مطبات وألغام “الإرهاب” التي تتلقف طريق البناء وتزيد العناء، لكن على العموم تجربة تسير بخطى ثابتة لتكون المثال في المنطقة إن لم تتدخل الأيادي.
أما مصر فكان للعسكر ولازال اليد الطولى في الحياة السياسية، واستغل سذاجة الكثيرين ونقص تجربتهم، وأخطأت الحركة الإسلامية هناك حين استولت على كل شيء، وتبعها اليسار حين أخفق في تحديد خصمه بدقة، وأخفقت التجربة الانتقالية مع أول رئيس مدني منتخب، وقلتها لأصدقائي يومئذ، على خلاف التجربة المغاربية بأرض الزيتون.
أما التجربة المغربية فكانت مغايرة تمامًا، وتم الالتفاف على المطالب من جهاز تعامل بدهاء وذكاء مع الحراك ولعب على تناقضات الأطراف وتلاعب بالأسماء والأهواء، فصعد الإسلاميون ليؤسسوا المسرحية، وتحدث الناس عن دستور جديد وصلاحيات واسعة ولا شيء، الإسلاميون تم الزج بهم في انسجام تام مع الموجة العارمة التي اجتاحت المنطقة وما لهم قرار.
ما يهمني في كل هذا المرور السريع على التجارب، هو أن أسجل الملاحظات التالية:
– إن من رفعوا شعار إسقاط النظام واختصروه في أشخاص وأسماء، سرعان ما فهموا الأمور ولو بعد فوات الأوان، وعلموا أن الأمر أعقد وأكبر من مجرد رمز يسقط، بل هي منظومة كاملة من الفساد والاستبداد أو ما اصطلحوا عليه بالدولة العميقة والتغيير يتطلب أكثر من لحظة ثورية، وهو ما يتطلب وعيًا متزايدًا ضروريًا لفهم البنية التي تشكلت مع السنين، ومختلف العلاقات والتوازنات وبناء الآلية التنظيمية الضرورية والقوة اللازمة وتحضير البدائل بدل المعارضات الفارغة، التي سرعان ما تستجيب تحت مسمى “الاختراق الديمقراطي” إلى التفاوضات، وتقبل بأنصاف الحلول، ثم سرعان ما يتم حرقها كما وقع بمصر أو المغرب.
– هناك دائمًا أطراف توجد في اللعبة القديمة، تغير جلدها مع الوضع الجديد وتعود للمشهد وعبر أطراف مشاركة في الحراكات أو الثورات، مثال تونس.
– تصنيف القوى المشاركة لا يجب أن يتم على أساس يساري وآخر إسلامي، بقدر ما يكون من هو مع الاستبداد ومن هو ضده.
– الحوار هو الآلية الوحيدة القادرة على حل كل المشاكل بعيدًا عن العنف والتدخل الخارجي والأجندات والفزاعات والإخفاقات.
– إن الإسلاميين رقم يصعب تجاوزه حاليًا، فهم حاضرون بقوة ولهم امتداد جماهيري كبير، ماداموا ينبذون العنف ولهم مشروع مجتمعي واضح ويومنون بالديمقراطية والتعددية والحل السياسي، فيجب أن يفسح لهم المجال من رفاقهم اليساريين، لتتلاقح التجارب وتوضيح الرؤى والتصورات، والتواصل المكثف وتعميق المشترك بينهم بعيدًا عن التخوين والتكفير، والصراع الفارغ الذي ضيع على الأمة طاقاتها من الجانبين.
– الحماس والمراهقة والعبثية وشعارات الثورة الحمراء والصبيانية، لن تبني وطنًا ولن تؤسس لغد أحسن، بقدر ما تعيد إنتاج الصراع، وتفويت الفرص على أمة تتوق للحرية والكرامة والتي ستصلها اليوم أو غدًا ولا شك، وبالتالي فكل الشباب العربي مطالب بالتكوين والدراسة وتعميق الاطلاع والإلمام بالساحة والأحداث والمناهج والمشاريع المجتمعية وتجارب الأمم في تدبير الاختلاف والاحترام والتأسيس لثقافة المشترك، وتعلم الإنصات واتساع الأفق وبعد النظر وعدم التسرع، فالبناء ليس كالهدم، وما أسرع النزقية والحذلقة والظهور والكلام، لكن الممارسة والمراس هي المعول عليه.