عاش التونسيون منذ أيام على وقع الذكرى الخامسة للثورة التي اندلعت ذات شتاء قاس له حضوره الدال والرمزي في الذاكرة؛ فبرودة الطقس لم تمنع التونسيين على مر التاريخ من الخروج إلى الشارع ليكون حاضنة احتجاجاتهم وأصواتهم الهادرة انطلاقًا من تاريخ 18 يناير 1952 ثالث أهم المعارك ضد الاستعمار الفرنسي، مرورًا بثورة الخبز 3 يناير 1984، وصولاً إلى 14 يناير 2011 ثورة الحرية والكرامة، بعدما أقدم الشاب محمد البوعزيزي على إحراق نفسه احتجاجًا على تدني الظروف المعيشية.
وسرعان ما انتشرت النار في الهشيم التونسي والعربي لتطيح بعروش الطغاة، خمس سنوات مرت ومازال المسار مفتوحًا على عشرات الاحتمالات والفرضيات رغم الاستقرار السياسي النسبي بسبب هشاشة الوضع الاقتصادي والاجتماعي الذي أعاد الأمور إلى مربعها الأول.
بدأت الاحتجاجات يوم السبت 16 يناير 2016 بعد إقدام الشاب رضا اليحياوي على إنهاء حياته على عمود كهربائي احتجاجًا على إقصائه من قائمة المرشّحين للوظيفة العمومية، صورة اليحياوي سرعان ما أعادت إلى الأذهان مشهد احتراق البوعزيزي رغم اختلاف الزمان والمكان.
ثم شهدت هذه الاحتجاجات تصاعدًا مفاجئًا، ليقدم المئات من الأهالي على الاعتصام أمام مقر الولاية مطالبين بمحاسبة المعتمد الأول والوالي على تلاعبهم بالقوائم، وأعلنت وزراة الداخلية حظر التجول مساء ذلك اليوم 16 يناير 2016 بعد اشتباكات مع الأمن أدت إلى وفاة عون أمن وإصابة عدد من المحتجين، ثم توسعت رقعة الاحتجاجات لتشمل مدنًا أخرى بالقصرين على غرار تالة، ماجل بلعبّاس، فريانة، تلابت، حيدرة، وفوسانة التي شهدت تحركات شبيهة.
إلا أن فتيل التظاهرات سرعان ما انتقل إلى عدد من ولايات الجمهورية ليشمل سيدي بوزيد، سليانة، سوسة، الفحص، باجة، القيروان، وولاية الكاف، حيت خرجت مسيرات مساندة لمطالب التشغيل والعدالة الاجتماعية ورافضة للسياسة التهميش والإقصاء امتدت إلى حدود ليلة أول أمس 21 من يناير 2015 التي اتسمت بعمليات سرقة ونهب، لتعلن وزارة الداخلية أمس حظر التجول بكامل البلاد من الساعة الثامنة ليلاً إلى الخامسة صباحًا.
وتقع محافظة القصرين التي تضم 412.278 نسمة في وسط غرب تونس يحدّها من الشمال ولاية الكاف ومن الغرب ولاية تبسّة الجزائرية ومن الجنوب ولاية قفصة ومن الشرق ولايتا سيدي بوزيد وسليانة، تضم أعلى سلسلة جبلية في تونس وهي جبل الشعانبي أين تدور مواجهات مع مسلحين يتحصنون هناك.
تأتي ولاية القصرين في المرتبة الأخيرة ضمن مؤشرات قياس التنمية للولايات في تونس، وهو معدل رافقها منذ النظام السابق، ويبلغ معدل البطالة فيها نسبة 23%، بينما يبلغ المعدل الوطني نحو 15%، في حين يبلغ عدد العاطلين عن العمل 28 ألف عاطل عن العمل، من بينهم 9 آلاف شاب يحملون شهادة عليا بحسب إحصائيات المرصد الوطني للحقوق الاقتصادية والاجتماعية.
هكذا هو الوضع إذن؛ بطالة متفشية وشباب يائس يحمل همه وآماله وسخطه ربما تجاه نخب سياسية عجزت عن الاستجابة لأبسط مطالبه طيلة خمس سنوات لم تغير شيئًا في المشهد على ثقل التركة المتبقية من زمن القمع.
أما في إطار ردود الفعل الرسمية فقد أفاد الناطق الرسمي باسم رئاسة الجمهورية خالد شوكات أن الحكومة أقرت جملة من الإجراءات مساء الأربعاء 20 يناير 2016 تقضي بتشغيل 5000 معطّل سنة 2016 ضمن برامج وزارة التكوين المهني والتشغيل، إضافة إلى قرار انتداب 1410 عاطل عن العمل طبقًا للآلية 16 وآلية الحضائر المعمول بهما في تونس إلى حين انتدابهم بصفة رسمية.
أما محمد الناصر رئيس مجلس نواب الشعب فقرر دعوة رئيس الحكومة الحبيب الصيد الذي اختصر زيارته إلى سويسرا إلى جلسة عامة استثنائية للحوار حول خطة الحكومة في مجال التشغيل ومقاومة البطالة والإجراءات العاجلة في هذا الصدد، كما تحول وفد من نواب الجهة إلى ولاية القصرين للقاء المحتجين.
وزارة الداخلية من جهتها وعلى لسان الناطق الرسمي باسمها وليد الوقيني قد أكدت أنها تقر بشرعية مطالب أهالي القصرين ومختلف الجهات المنتفضة، كما أضاف أنّ التعامل الأمني في الجهة اتسم بأقصى درجات ضبط النفس، نافيًا الاستعمال المفرط للغاز المسيل للدموع لتفريق المحتجين.
وفي سياق ردود الفعل الحزبية فقد أقرت الجبهة الشعبية التي يتهمها البعض بتسييس الاحتجاجات وتأجيجها، بمشروعية هذه التحركات التي تمثل بوادر انتفاضة ثانية من أجل الشغل والكرامة، مطالبة بحلول عاجلة، أما حركة النهضة أحد أطراف الائتلاف الحاكم العاجز عن إيجاد حلول فعلية لمشاكل البلاد فقد عبرت عن مساندتها للتحركات السلمية منددة باللجوء إلى أعمال العنف والتخريب الذي يشكل خطرًا في ظل الوضع الأمني الدقيق، أما الرئيس السابق محمد المنصف المرزوقي فقد طالب بحكومة وحدة وطنية وإجراء انتخابات عاجلة.
الاتحاد العام التونسي للشغل أحد الأطراف الراعية للحوار الوطني دعا في بيان له كافة مناضليه ومناضلاته وهياكله الجهوية إلى التعبئة والتجند لدعم المجهودات – إن لزم الأمر – لحماية الممتلكات والمؤسسات من كل عمل تخريبي، مطالبًا المجتمع المدني وجميع الأحزاب الوطنية للعب دورها دعمًا لمطالب الشباب المعطّل وفي نفس الوقت تصديًا لعمليات التخريب، من جانبها طالبت الرابطة الوطنية لحقوق الإنسان باحترام حق التظاهر والاحتجاج والابتعاد عن الحل الأمني في مواجهة المظاهرات.
هكذا يبدو المشهد إذن في البلاد مثقلاً بالهواجس ومشحونًا بالترقب بين نخبة سياسية تعيش امتحانًا آخر صعبًا في قدرتها على تجاوز ضيق أفق الإيديولوجيا والحسابات الحزبية الضيقة لتقدم مشروعًا حقيقيًا للخروج من الأزمة وبين شارع غاضب يحاول أن ينأى باحتجاجاته عن العنف ويحافظ عليها سلمية وشرعية بقدر شرعية مطالب الكرامة الاجتماعية والحق في التشغيل.