ترجمة وتحرير نون بوست
قبل أن يعمد ديفيد كاميرون لإطلاق العنان لنفسه هذا الأسبوع لنقد مهارات اللغة الإنجليزية التي تمتلكها النساء المسلمات في المملكة المتحدة، كان من الأفضل له أن يقوم بجولة في معرض الفنان والإمبراطورية في صالة تيت بريطانيا، الذي قدم لنا تذكيرًا مقلقًا للغاية عن ماضي البريطانيين الاستعماري.
إحدى اللوحات المعروضة ضمن المعرض (المبينة أعلاه) يبلغ حجمها حوالي متر مربع، وهي عبارة لوحة زيت على قماش تدلل على النضال والمجد العسكري التوسعي البريطاني، وتذكرنا بأن الحملات البريطانية في جميع أنحاء العالم استبطنت عمليات عنيفة ووحشية، ولكن مسحة التشويق المثيرة حول مجد الإمبراطورية كان الأمر الأكثر إثارة للقلق، حيث يمكننا ملاحظة تزيين حواف الخرائط الإمبريالية بالجواري ممتلئات الصدر وهن يحملن قرن الخصب ويقدمن طبقًا من الفواكه النادرة للفاتح البريطاني، وإحدى اللوحات في المعرض صورت أمرأة خجولة وعارية الصدر، في دلالة على الرهينة التي اتخذها جيمس كوك وحبسها في مقصورته بهدف التفاوض مع السكان الأصليين المتمردين في المحيط الهادئ، وبالمقابل تم تصوير نساء الإمبرياليين وهن يرتدين الملابس المحلية العادية، ويقفن بأمان في ظل الذكور كزوجات وبنات.
استخدم الغرب منذ فترة طويلة حياة المرأة وجسدها ضمن ساحات القتال الرئيسية لتعزيز مزاعمه بتفوق حضارة الغرب، وفي ذات الوقت، تم استخدام النساء لإخضاع بعض الأشخاص المعينين لحكم الاستعباد والوحشية والهمجية، حيث أضحى مشهد إنقاذ الرجل الأبيض للنساء الملونات يمثل طابع إثارة وتشويق الإمبراطورية البريطانية، ومن خلال هذا النمط، اختبأت الرغبات بالهيمنة خلف قناع الواجب الفاضل، ومن ذات هذا المنطلق ألقى كاميرون خطابه ضد البريطانيات المسلمات، ومن المفارقات، بأن تطوير كاميرون للهجة الخطاب حول هذا الموضوع القديم تمثل بنقده لغياب المرأة المسلمة من سوق العمل البريطاني، منتقدًا تسخيرها للعمل في المنزل وكونها منعدمة النشاط الاقتصادي.
تمثل تصريحات كاميرون افتراءً جديدًا يدخل في مجال ازدراء جهود العمل الحقيقية التي تمارسها النساء البريطانيات المسلمات في بيوتهن، فهو –كاميرون – لا يهتم إذا ما كانت المرأة المسلمة تنشغل عن سوق العمل برعاية أطفالها أو أقاربها المسنين؛ ففي بيوت المسلمين التي زرتها كان من الواضح أن النساء كن منشغلات للغاية في أعمال الطبخ ورعاية العديد من أفراد الأسرة.
العبارات الرمزية التي تظهر ثقافة “إنقاذ” الرجل الأبيض للنساء الملونات تعرضت لموجة عارمة من الانتقادات باعتبارها شكلًا من أشكال “النسوية الاستعمارية”، وهو شكل من أشكال الاستعمار الذي لاقى رواجًا هائلًا خلال غزو أفغانستان في عام 2001 مدفوعًا بتصريحات كل من لورا بوش وشيري بلير الداعية “لإنقاذ” النساء الأفغانيات، حيث تم استعمال هذه الحجة مرارًا وتكرارًا خلال فترة الاحتلال كوسيلة لتبرير التدخل العسكري، وفي ذات السياق، تنصح مذكرة سُرّبت من خلال ويكيليكس صادرة عن وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية (CIA) الحكومات الأوروبية بضرورة تصوير مدى معاناة المرأة الأفغانية لأن ذلك قد يعزز من التأييد الشعبي الضعيف لاحتلال أفغانستان، حيث جاء في المذكرة: “المبادرات التي تخلق فرصًا إعلامية للمرأة الأفغانية لتتبادل قصصها مع النساء الأوروبيات أو الفرنسيات أو الألمانيات أو غيرهن، يمكن أن تساعد على قطع دابر الشك السائد في أوروبا الغربية”.
ولكن بنظرة أكثر قربًا، يتوضح لنا بأن هؤلاء المدافعين المتحمسين عن حقوق المرأة في أفغانستان أسقطوا من اعتباراتهم التاريخ الذي يشهد بأنه في ثمانينات القرن المنصرم كان المجاهدون الأفغان المدعومون غربيًا يقوضون فرص المرأة في التعليم والعمل والصحة، وحينها كانت أفغانستان جبهة مركزية في الحرب الباردة، وهذا ما يبرر اعتبار حقوق المرأة مسألة غير ذات صلة حينذاك من وجهة النظر الغربية، ولكن محنة المرأة الأفغانية تم تطويعها واستخدامها لإثبات مزاعم التفوق الحضاري الغربي، والقول بأن أفكار الحريات وحقوق الإنسان هي حكر على الغرب، الذي سيعمل على فرضها بالقوة، إن كان ذلك لازمًا.
مسألة الإجبار على التحرر والحرية هي إحدى المفارقات العبثية، ومن موقعها كمراقبة منذ فترة طويلة للحركات الشعبية للنساء المسلمات، علّقت عالمة الأنثروبولوجيا بجامعة هارفارد، ليلى أبو لغد، على هذه المسألة بقولها: “إنقاذ النساء المسلمات هي مقاربة تتجاهل التشابكات المعقدة التي ننخرط بها جميعًا، وتخلق استقطابًا يصور الحقوق النسوية وكأنها حكر على الغرب فقط”.
“تطوير أساليب تمكين المرأة وكيفية تعريف الحرية، هي عملية يجب أن تنشأ من عمق ثقافة المجتمع”، قالت أبو لغد في كتابها “هل المرأة المسلمة بحاجة للإنقاذ؟”، والقلق الذي أبداه كاميرون حول ممارسات الفصل ما بين الجنسين لدى المسلمين توحي بأن عليه أن يقرأ بتمعن نسخة من هذا الكتاب.
قد تبدو الأوهام الإمبريالية للعصر الفيكتوري بعيدة عن مضامين مداخلة كاميرون، ولكن كلاهما جزء من ذات التقليد الذي يزعم التفوق الغربي، ومن خلال هذا التاريخ يمكننا أن نستوعب على نحو أفضل ما كان يرمي إليه كاميرون خلف تصريحه حول النساء المسلمات في بريطانيا وضعف معرفتهم باللغة الإنجليزية.
أولًا، دعونا نتفق على أمر جلي وواضح، كاميرون ليس مهتمًا بشكل خاص بضخ الأموال لدعم تدريس اللغة الإنجليزية للمهاجرين، كما أنه لا يهتم فيما إذا كانت معرفة النساء المسلمات البريطانيات باللغة الإنجليزية معدومة تمامًا، علمًا أن هؤلاء لا يشكلن سوى 0.3% من السكان، لأنه لو كان مهتمًا، لم يكن ليقطع مبلغ 400 مليون جنيه إسترليني من تمويل تعليم اللغة الإنجليزية في السنوات الخمس الماضية، كما أن مقاربته بإعادة توظيف 20 مليون جنيه إسترليني في هذا المجال هي مجرد استرضاء تافه.
مداخلة كاميرون حول النساء المسلمات هذا الأسبوع لم تكن تمثل سياسة عقلانية، كما أنها لا تمثل استجابة فعالة ضد التطرف، بل كانت مجموعة من المواقف المصممة لمعالجة المشاكل السياسية الملحة حول الهوية البريطانية، والتي تهيمن على جدول الأعمال السياسي للمحافظين، هذه المشاكل التي تتمحور حول سؤالي: من هم البريطانيون بالضبط، وإذا أوجدنا إجابة على ذلك، كيف لنا أن نوضحها؟
خلال السنة الماضية، مزّق حزب المحافظين نفسه إربًا في محاولة لإيجاد الحلول لهذه القضية، واقترب حزب الاستقلال من منافسة حزب المحافظين أكثر من أي وقت مضى، وفي خضم ذلك، سعى كاميرون لإطلاق ملاحظات بلاغية توحي وكأن لديه جوابًا على تلك المسائل المستعصية، وبغية ذلك، نقّب في مربع دعامة المُثل التاريخية واتبّع القاعدة القديمة التي تقول: “حاول شيطنة البعض كوسيلة لتحديد وإعلاء شأن نفسك، احشد الجمع من حولك من خلال التركيز على طائفة مستبعدة، واستخدم الحيل القديمة لطرح إنقاذ النساء الملونات”.
الأسلوب الذي أطلق من خلاله كاميرون تعليقاته الشاملة يحمل بعض التشابه اللافت مع اللوحات الكبرى في معرض تيت، حيث حملت عباراته نوعًا من النقد الذاتي المشوب بالتواضع المزيف، ويتوضح ذلك من خلال تصريحه: “نحن نتلقى الكثير من اللوم على ذلك”، وهذا التواضع يحاول طمس الحواف الوحشية للخطر الداهم، المتمثل بتفرقة الأزواج عن بعضهم إذا كانت مهاراتهم باللغة الإنجليزية ليست جيدة بما فيه الكفاية، وهو الحل الذي أطلقه كاميرون من خلال خطابه، كما حملت تصريحاته تشابهًا بالرجل الأبيض الذي يحمّل نفسه عبء الإنقاذ، ويتوضح ذلك من خلال قوله: “نحن نتحمل واجب العمل”، فضلًا عن أن عبارات كاميرون البطولية حول “التفكير الواضح”، “الحقائق الصعبة”، و”جدول الأعمال الواضح والإيجابي”، تحمل بحد ذاتها تشابهًا مع المستعمرين المتغطرسين المعلقين على جدران تيت.
يتواجه رئيس الوزارء البريطاني اليوم بمشاكل حقيقية وعصية؛ فالهيمنة الغربية التي استمرت لقرنين ونصف القرن من الزمان تتداعى بشكل متسارع، كما شهدت السنوات الـ15 الماضية سلسلة من الإخفاقات العسكرية المذهلة، والأمر الأسوأ من ذلك كله، يتمثل بسعي الحكومات الغربية جاهدة لإثبات كفاءتها وفعاليتها للاستجابة لتطرف أقلية صغيرة من الإرهابيين المتشددين والعنيفين الذين يستغلون بعنفهم عمًدا التوترات الكامنة خلف التعددية الثقافية بغية تصعيد الصراع الداخلي.
التعددية الثقافية ليست خيارًا سلبيًا، كما نستطيع أن نستبطن من تصريحات كاميرون؛ فبدون تحقيق دعم على المستوى الشعبي والقاعدي، قد تتحول مجتمعات المهاجرين لتتقوقع على ذاتها، وحينها ستعمل مشاكل الفقر المتوطن على مضاعفة تأثير هذه الانعزالية، ومن هذا المنطلق، فإن النجاح في جهود دمج مجتمع المهاجرين يتطلب عملًا جادًا وحثيثًا لبناء العلاقات والثقة وتنمية المجتمعات، وهو العمل المضني الذي تمت المباشرة به سابقًا ولكنه تضرر بشدة جرّاء نقص التمويل، كما أن الوصول لتوفير فرص للمرأة هو أمر لازم ومطلوب، ولكن نجاح هذه المقاربات يكمن في تفاصيل تنفيذها والنية المبطنة خلفها؛ فالجهود المضنية التي مارستها السلطات المحلية في محاولة تطوير تعددية ثقافية ناجحة، تم تقويضها وإحباطها من خلال مواقف بعض السياسيين في وستمنستر، شبيهة بفحواها بموقف كاميرون.
أخيرًا، فإن أكثر الأمور إحباطًا يتمثل بعجز القادة السياسيين عن الانحراف عن البرنامج الذي وضعه أمامهم تنظيم الدولة الإسلامية؛ فتصريحات كاميرون التي تعود بدلالاتها لعهد الإمبراطورية البريطانية، تصب تمامًا في صالح نموذج صراع الحضارات الذي يستخدمه تنظيم داعش لتزكية الصراعات؛ فلا يوجد مسألة تثير سخط العائلات المسلمة أكثر من استهداف أمهاتهم وجداتهم، حيث سيتم اعتبار هذه التصريحات على أنها تهديد واقتحام غير مبرر في الحياة العائلية الخاصة.
المصدر: الغارديان