ترجمة وتحرير نون بوست
هذا المقال عبارة عن جزء من مقال مطول نشرته صحيفة الغارديان بعنوان: “لقد كنت مخطئًا”، الكتّاب العرب يراجعون مواقفهم بعد 5 سنوات من الربيع العربي – حول مراجعات بعض الكتاب للربيع العربي بعد مرور 5 سنوات، وهم: علاء عبد الفتاح، روبن ياسين كساب، أهداف سويف، مريد البرغوثي، ليلى العلمي، رجا شحادة، خالد مطاوعة، تميم البرغوثي، نوري ڤانة، وجمانة حداد، وسيعمل نون بوست على ترجمة ونشر مراجعات الكتّاب تباعًا.
علاء عبد الفتاح
كاتب ومدون مصري، يقضي محكوميته البالغة 5 سنوات في سجن طرة بالقاهرة لإدانته وفق قانون التظاهر.
الكلمات الوحيدة التي أستطيع أن أكتبها اليوم هي حول فقداني للكلمات والتعابير.
قبل خمس سنوات، في اليوم الذي تبين بأنه آخر يوم اعتيادي من حياتي، جلست في مكتبي ضمن شركة تكنولوجيا المعلومات الصغيرة في بريتوريا، وتظاهرت بأنني أعمل، في الوقت الذي كنت أكتب فيه مقالة قصيرة لصحيفة الغارديان، لقد كان مقالي حينها يتناول الأسباب التي تحذو بنا لأخذ الثورة المصرية على محمل الجد، أو على الأقل هذا ما أتذكره من المقال؛ فاليوم، لا أستطيع العودة لقراءة المادة التي كتبتها، لأنني ممنوع من الوصول إلى شبكة الإنترنت منذ أكثر من عام، تبعًا لكون السجناء في مصر ممنوعين حتى من إجراء مكالمة هاتفية، ولكنني مع ذلك لا أستطيع أن أشكو من وضعي؛ فأنا على الأقل قادر على مقابلة عائلتي لمرتين أو لثلاث مرات في الشهر، بينما لا يُسمح للسجناء السياسيين الآخرين، وهم معظمهم من الإسلاميين، بالزيارات على الإطلاق.
في ذلك اليوم، وقبل خمس سنوات، شهدت أول انخراط لي ضمن المعركة الدائرة حول سرد الثورة، وهي المعركة التي استهلكتني تمامًا على مدار السنوات الأربع التالية، ولكنني في ذاك اليوم بالذات لم أكن متأكدًا حتى من حقيقة اندلاع الثورة في مصر، وكنت أخشى أن يتلاشى الحراك تدريجيًا، رغم أنني تناولت في موضوعي التشكيل الجديد للشباب العربي.
استغرق الأمر مني يومًا كاملًا لتقبّل واقع نشوب ثورة في مصر، ولبثت ثلاثة أيام أخرى قبل أن أتمكن من العودة إلى القاهرة للانضمام إلى شباب ميدان التحرير، وحينئذ انتقلت من حالة التشكيك بعمق الانتفاضة إلى حالة القلق بشأن وصولي في وقت متأخر للغاية مما قد يفوت عليّ المشاركة في قلب الحراك.
بعد سقوط حسني مبارك، اطردت ثورتنا بالأهمية، واضطرت الدولة إلى إيجاد حلول توسطية مع الثورة، في الوقت الذي حاولت فيه احتوائها من خلال استيلائها عليها، وحينئذ ناقشنا بوضوح أسباب مواصلتنا الاحتجاج، بل لماذا انطلقنا بالاحتجاجات بالمقام الأول، وأضحينا نتساءل، هل يعد أولئك الأطفال الذين ألقوا بالحجارة على الشرطة ثوارًا أم مخربين؟ وهل ينبغي أن نعتبر السجناء الذين لقوا حتفهم في أعمال الشغب في السجون كشهداء للثورة أم لا؟ وما هو دور الجيش في نظام مبارك؟ وهل ينبغي أن يستمر نظام التعليم المجاني في الجامعات الحكومية؟ هل نحن بحاجة إلى دستور جديد؟ وإن كنا بحاجة له، فمن سيصوغه؟ وهلم جرا.
في تلك الفترة، كتبت وكتبت وكتبت، وكانت معظم كتاباتي باللغة العربية، وكنت أنشرها غالبًا على وسائل الاعلام الاجتماعية، رغم أنني أحيانًا كنت أكتب للصحف الوطنية.
كنت أتحدث بشكل أساسي مع زملائي من الثوار، وحينها أضحت لهجتي تحذيرية بشكل متزايد، وكانت المحاور الرئيسية التي تناولتها في كتاباتي تتحدث عن مدى هشاشة اللحظة الثورية وعن وضعنا المحفوف بالمخاطر، ورغم ذلك لم أستطع الانسلاخ أو التخلص من شعوري الفائض بالأمل وبالإمكانية، فبصرف النظر عن النكسات التي واجهناها، واصلت أحلامنا بالتحليق والتسامي.
الناس كانت تتداول الأحاديث عن حاجز الخوف، ولكن بالنسبة لي، فقد كنت أشعر بأن ما يقف في وجهي هو حاجز اليأس، وبمجرد تحطيم هذا الحاجز، لم تستطع سياسات التخويف ولا الإرهاب، ولا المذابح أو السجون أن تعيد الأمر إلى ما كان عليه سابقًا؛ وفي خضم الثورة المصرية، أقدمت على القيام بجميع تلك الأشياء السخيفة التي يفعلها الثوار مفرطوا التفاؤل، حيث انتقلت إلى مصر بشكل دائم، أنجبت طفلًا، أسست عملًا صغيرًا، شاركت في سلسلة من المبادرات التقدمية التي تهدف إلى تحقيق ديمقراطية أكثر شعبية وتشاركية ولامركزية، كسرت جميع القوانين الصارمة وتجاوزت جميع المحرمات التي عفا عليها الزمان، ودخلت السجن مبتسمًا وخرجت منه وأنا أشعر بنشوة المنتصر.
في عام 2013 بدأنا نخسر معركتنا الفكرية لصالح الاستقطاب السام ما بين الدولة العسكرية شبه العلمانية المتطرفة والشكل الطائفي العنيف والشرس للإسلام، ومجمل ما أتذكره حول تلك الحقبة يتلخص بدويِّ صوتي وأنا أصرخ: “إنه طاعون سيفتك بكلا الطرفين”، كم كان من الصعب ذاك الشعور الذي خاجلني حينما تحولت التحذيرات التي أطلقها حول النار التي ستحرق الجميع لتصبح وكأنها نبوءة كاذبة للآلهة كاساندرا صمّ الجميع آذانهم دونها، ومع الطوفان الذي جاب الشوارع بالمسيرات التي رفعت صورًا لرجال الشرطة بدلًا من صور الضحايا، وبالتزامن مع الهتافات المناهضة للشيعة التي ركبت موجة الاعتصامات، بالتوازي مع ازدهار المؤامرات القبطية، فقدت كلماتي قوتها، ولكن صوتي لم ينخفض، حتى ولو لم يكن يلقى آذانًا صاغية سوى من حفنة بسيطة من الأشخاص.
بعد ذلك، قررت الدولة وضع حد للصراع من خلال ارتكاب الجريمة الأولى ضد الإنسانية في تاريخ الجمهورية المصرية، وبعد مجزرة رابعة، عادت حواجز الخوف واليأس للتجذر في طريقنا، وبتنا نخوض معركة فكرية أخرى لإقناع غير الإسلاميين بتقبل وقوع المجزرة في المقام الأول، ولرفض العنف المرتكب باسمهم فيما بعد.
بعد ثلاثة أشهر من المجزرة، تم إدخالي مجددًا إلى السجن، وحينها تحولت مقالاتي لتلامس طورًا جديدًا وغريبًا، حيث دعوت الثوار للاعتراف بالهزيمة، وللتخلي عن التفاؤل الذي أصبح خطرًا من خلال التشجيع على شق الصف بالانضمام إلى أحد الجانبين، إما معسكر النصر العسكري، أو معسكر الإصرار غير الشعبي وغير العملي الذي يصر على تغيير النظام بالكامل، وحينها، كان ما نحتاجه حقًا هو حشد جميع قوانا لنتمكن من الدفاع عن أساسيات حقوق الإنسان.
لقد أقريت بالهزيمة لأننا ضيّعنا مضمون اللغة الثورية من ذواتنا، وحل محلها مزيج خطير من لغة القومية، الأصولية، الجمعية، ولغة ما بعد الاستعمارية التي اعتنقها جانبي الصراع واستخدماها لتعميم نظريات المؤامرة الملتوية ولنشر الذعر.
في أوائل عام 2014 استمر نهج عدم تقبل الطرح الذي يسعى لتحفيز الثوار للمشاركة في حملات حقوق الإنسان المقتصرة على إلغاء قانون التظاهر وإطلاق سراح السجناء السياسيين؛ فمعظم الأشخاص كانوا لا يزالون يعتقدون بأن الثورة تفوز، وأضحت بيضة القبان في تحديد الفائز تتمثل بزوال أو انتصار جماعة الإخوان المسلمين، كما قوبلت فكرة تحول حالة الطوارئ لتصبح الحالة الاعتيادية الجديدة للدولة برفض من قِبل الغالبية.
اليوم يبدو بأننا ظفرنا بتلك المعركة النهائية؛ ففي الوقت الذي لا زالت فيه الدولة تتمتع بالتأييد، إلا أن أعداد المؤيدين تتقلص بسرعة، خاصة بين الشباب، ومعظم الأشخاص لم يعودوا يناقشون طبيعة أحداث صيف عام 2013، كما فقدَ نقاش الانقلاب مقابل الثورة كامل بريقه؛ فحتى أنصار السيسي لا يعتقدون بأن الازدهار سيسود الدولة قريبًا، ويبقى من الصعب قياس وتقييم المشاعر بين مؤيدي الإسلاميين؛ فالتعاطف مع محنتهم يتزايد حتمًا، ولكن الثقة في قدرتهم على تنظيم جبهة موحدة وفعالة لمواجهة النظام تبقى في أدنى حدودها، وهنا يسود اليأس.
قضيت معظم عام 2014 في غياهب السجن، ومع ذلك كان لدي الكثير من الكلام لأقوله، لقد تضاءل جمهوري واضحمل، رسالتي لم تعد رسالة أمل، ولكن مع ذلك شعرت بأنه من المهم أن نذكر الناس بأنه حتى بعد الاعتراف بالهزيمة لا يزال بوسعنا أن نقاوم، وعودتنا إلى هوامش الحرب ذاتها التي كنا نخوضها ضد نظام مبارك، كان أمرًا مقبولًا طالما أننا نواصل الكفاح من أجل حقوق الإنسان الأساسية.
ولكن بحلول أوائل 2015، وبعد سماعي للعقوبة التي أُنزلت عليّ، لم يتبق لدي شيء لأقوله لأي جمهور، ولم يعد بإمكاني أن أكتب سوى الرسائل الشخصية، وحينئذ تلاشت الثورة، بل ومصر نفسها، ببطء من تلك الرسائل، وبحلول خريف 2015 نضبت حتى كلماتي الشخصية؛ فأنا لم أكتب رسالة منذ أشهر، ولم أكتب مقالًا منذ أكثر من عام، ليس لدي ما أقوله: لا أمل، لا أحلام، لا مخاوف، لا تحذيرات، لا رؤى؛ لا شيء، لا شيء على الإطلاق، أحاول أن أتذكر ما كتبته لصحيفة الغارديان قبل خمس سنوات في آخر يوم اعتيادي من حياتي، أحاول أن أتخيل الذين قرأوا تلك المادة والأثر الذي تركته على نفوسهم، أحاول أن أتذكر كيف كان يبدو الأمر حينما بدا الغد لنا مليئًا بإمكانيات التغيير، وبدت كلماتي وكأن لها القدرة على التأثير، وما كان سيبدو عليه ذلك الغد.
لا أستطيع تذكر كل ذلك حقًا، فاليوم يبدو الغد كالأمس تمامًا، وكجميع الأيام التي سبقته وكالأيام التي ستأتي، لم يعد لدي أي تأثير على أي شيء.
ولكن الأمر الأوحد الذي أتذكره، الأمر الوحيد الذي أعلمه، بأن ذاك الشعور بإمكانية التغيير كان حقيقيًا، من المحتمل أننا كنا ساذجين لنعتقد بأن حلمنا قد يتحقق، ولكن ليس من الغباء أن نعتقد بأن التأسيس لعالم آخر هو أمر ممكن، لقد كان أمرًا ممكنًا حقًا، أو على الأقل هذا ما أتذكره شخصيًا.
المصدر: الغارديان