نجح الأكراد بعد عقود من الزمان في اجتذاب التعاطف مع قضيتهم، من باب الترويج لأكبر قومية في العالم لا تمتلك دولة، حيث يتوزع 30 مليون كردي على تركيا والعراق وإيران وسوريا.
استثمر الأكراد في أحداث المنطقة المشتعلة مؤخرًا، وقدموا أنفسهم للعالم بطريقة البديل، في ظل فشل القوى الغربية في الاعتماد على فصائل منظمة أو مجموعات ذات هدف مشترك أثناء الصراعات الدائرة في المنطقة، لاسيما في عملية الحرب على تنظيم الدولة الإسلامية “داعش”.
أداء الأكراد في الحرب مع داعش أعطى فرصة لإحياء قضيتهم واكتساب مساحة جديدة من مشاعر التعاطف الدولي مع قضيتهم، حيث يرى محللون أننا بإمكاننا الحديث عن مجيء اليوم الكردي في الشرق الأوسط، فبحسب تعبير، موتلو جيفير أوغلو، المتخصص في الشؤون الكردية، المارد خرج من القمم، والقضية الكردية الآن قضية إقليمية ودولية، ولا بد أن تعالجها القوى الدولية عاجلًا أو آجلًا.
تمتع الأكراد في العراق بالحكم الذاتي منذ حرب الخليج الأولى عام 1991، ولكن أحلام الاستقلال الكامل لم تتوقف عن مراودتهم يومًا، فاليوم مسعود بارزاني رئيس إقليم كردستان يدعو العالم بأسره للاعتراف بفشل اتفاقية سايكس بيكو التي رسمت الحدود في منطقة الشرق الأوسط وقسمت الأكراد على النحو الآني.
كما دعا البارزاني بشكل واضح قادة المجتمع الدولي للتوصل إلى اتفاق جديد يمهد الطريق لقيام دولة كردية باتت أكثر من أي وقت مضى قريبة من التحول إلى واقع في وجهة نظره، هذا الحديث الذي أدلى به بارزاني إلى صحيفة الجارديان البريطانية ليس مفاجئًا ولا يأتي بجديد، وإنما يعبر عن الحالة التي يقترب منها الأكراد في العراق تحديدًا وهي الاتجاه نحو الاستقلال الكامل.
فقد سبق وصرح رئيس وزراء كردستان العراق، نيجيرفان بارزاني، لهيئة الإذاعة البريطانية منذ عام كامل أنه “من شبه المستحيل” أن يعود العراق كما كان عليه قبل احتلال متشددين إسلاميين للموصل، في إشارة لتنظيم داعش.
واليوم يؤكد مسعود بارزاني نفس الأمر بقوله: إن المجتمع الدولي وبشكل عام بدأ يتقبل بأن العراق وسوريا سوف لن يعودا دولة موحدة من جديد، بسبب الأوضاع المضطربة على مدى العقد الماضي، ولا يمكن أن نفرض التعايش الإلزامي بين المكونات بعد الآن.
يرى الكرد أن البداية ستكون من إقليم كردستان العراق الذي اقترب بدرجة كبيرة من حسم قضية الاستقلال التام عن الحكومة المركزية في العراق، وهو ما تؤكده تصريحات كمال كركوكي، المسؤول الكبير في الحزب الديمقراطي الكردستاني بزعامة بارزاني والقائد العسكري على جبهات القتال مع داعش في كركوك، إذ لا تساوره أية شكوك بأن الاستقلال هو الهدف، وأنه أصبح في متناول اليد، سواء وافق العالم أو لم يوافق.
وأضاف كركوكي لصحيفة كريستيان ساينس مونيتور: “إذا كنا نقاتل من أجل البقاء في العراق كفيدرالية، فإني لن أقاتل داعش دقيقة واحدة، ولن أبقى في هذا الجحيم”، وتابع متسائلًا: “ما هو العراق؟ إن هذا البلد لا يسيطر على أجوائه، ولا يسيطر على أرضه أو حدوده، ولا يسيطر على نفطه ومائه، إنه عراق فاشل”.
قضية داعش في العراق مثلما أبرزت مشكلة الأكراد والدولة الكردية في العراق، فإنها ساهمت في تراجع أولوية الحديث عنها مؤقتًا، إذ إن المشروع الكردي بات مهددًا بمشروع الخلافة الجديد الذي يقوده تنظيم الدولة الإسلامية حينما اقترب من مدن الأكراد وأوشك على اجتياحها.
وهو ما حول التحدي الأكبر أمام الأكراد هو الدفاع عن أنفسهم أمام داعش في الحرب، وتأجيل مسألة إعلان الاستقلال الذي بات بديهيًا في وجهة نظرهم، بعد أن تعامل العالم واحتك معهم في الأحداث الأخيرة، لا سيما وأنه الفصيل الوحيد الذي استطاع إلحاق الهزائم بتنظيم الدولة الإسلامية “داعش” في غير معركة.
لذا حاول البارزاني في حديثه الأخير أن يُقدم نفسه للعالم كحليف قوي، حين أكد أن إقليم كردستان لم يكن يومًا مصدر تهديد لأي من جيرانه، فيما حاول أن يُثبت بالتجربة الأخيرة أن الأكراد عنصر استقرار قادم في المنطقة.
الأكراد الآن أصبحوا يخططون لدولتهم المستقبلية مستغلين حالة الفوضى التي تضرب العراق، في ظل عدم ممانعة من جانب الولايات المتحدة بسبب اعتمادها الأساسي على مقاتلي البيشمركة في الحرب أمام داعش، فالمقاتلون الأكراد استولوا على مدينة كركوك التي تعد من أغنى المدن العراقية بالنفط والتي ينظرون إليها باعتبارها عاصمة بلادهم المستقبلية.
بينما يتجه الإقليم الكردي للتفكير في عملية إعادة رسم حدود الإقليم الذي يرونه مفروض عليهم من قِبل الاستعمار البريطاني والفرنسي والدولة العثمانية، كل ذلك في إطار خطوات الاستعداد لإعلان انفصال الإقليم عن الحكومة المركزية العراقية في بغداد في ظل حالة الفوضى العارمة التي تغرق فيها العراق.
هذا الإقليم الكردي العراقي هو الآن بمثابة بداية الحلم للأمة الكردية في وجهة نظر الأكراد، حيث إنه الحالة الكردية الأنضج التي تتوافر لها عناصر البقاء كالاقتصاد ومؤسسات الحكم الداخلية والحياة السياسية الداخلية والقوات العسكرية والأجهزة الأمنية.
أما بالانتقال إلى الحالة السورية على سبيل المثال فثمة أزمة جغرافية في الوضع الكردي السوري وهي السيطرة على مناطق غير متصلة جغرافيًا إلى حد كبير، ناهيك عن الحالة الكردية السورية الداخلية المتشظية التي تقودها إلى نزاعات تجعل عملية المطالبة بالاستقلال أصعب ما يكون.
بالإضافة إلى المعارضة التركية الشديدة لإقامة أي دولة كردية في الداخل السوري، وهو أمر يعتبره الأتراك خط أحمر بالنسبة لأمنهم القومي، بجانب غياب أي مقومات لإقامة دولة مستقلة كمصادر دخل أو ثروة.
إلا أن مراقبين يرون استحالة عودة الوضع السوري إلى ما كان عليه فيما يخص الأكراد، فربما يبدأ الأكراد في سوريا من حيث بدأ أكراد العراق حينما نجحوا في إقامة حكم ذاتي كونفيدرالي ومع تطور الوقت ربما يصل أكراد سوريا إلى حالة المطالبة بالدولة المستقلة، لكن المطالبة بأعلى نقطة في الهرم في الوقت الحالي هو درب من المستحيل.
واستغلال الحالة السورية السائلة في هذا التوقيت ربما يُساعد في عملية إقامة كيان كردي سوري ولكن غير مستقل بشكل تام، حيث يعتبر الآن الأكراد في سوريا هم الفصيل الوحيد الذي تتفق الولايات المتحدة وروسيا على دعمه عسكريًا دوما أي جدال في الحرب.
أما الحالة الكردية في إيران فتعد الأضعف في هذه الحلقة، إذ لم تأخذ المعارضة للحكومة الإيرانية بعدًا عسكريًا على مستوى الفعل في العراق وتركيا، بعدما نجحت إيران بإخماد التحركات الكردية الإيرانية عن طريق قتل زعيم الحزب الديمقراطي الكردستاني الإيراني عبد الرحمن قاسملو، أثناء اجتماع في فيينا مع ممثلين عن النظام الإيراني عام 1989.
بعد ذلك ظلت حملات قمع الأكراد الإيرانيين مستمرة حتى نهاية التسعينات، حينما استخدمت إيران سياسة جديدة وهي إضافة جزرة إلى العصا المستخدمة مع الأكراد حيث قامت بتعيين بعض الأكراد في مناصب حكومية وقامت بتنصيب أول محافظ كردي لمحافظة كردستان، ومنذ ذلك الوقت والمسألة الكردية في إيران تعاني من التهميش، منتظرة إحياء القضية خارجيًا لربما تستطيع أن تتحرك على إثر ذلك.
وعلى صعيد الأزمة الكردية الكبرى في تركيا فإن اشتعالها مجددًا بعد محاولات احتواء منذ صعود حزب العدالة والتنمية إلى الحكم يُهدد بتراجعات في المسار، فالأكراد في تركيا يريدون استغلال حالة الإقليم شأنهم شأن أكراد العراق وسوريا، لكن الوضع في تركيا مختلف تمامًا، حيث إن طبيعة الدولة التركية بشقيها العلماني المتطرف أو المعتدل لن تقبل بما يريده الأكراد في تركيا من انفصال أو استقلال.
لكن المؤشرات على أي حال تقول إن إقليم الشرق الأوسط يستعد لاستقبال مولود كردي جديد كامل الأهلية في العراق، وهذا يؤكد أن وضع الأكراد يختلف جذريًا عما كان عليه في العقود السابقة، إذ إن القضية الكردية تتقدم إلى الإمام في مسألة استقلال الأقاليم القطرية، فيما لا بد أن يفهم الأكراد أن الحلم الكردي الأكبر الذي يسعى لإقامة دولة كردية موحدة لا يزال بعيد المنال.