كنا قد انهينا في المقالة السابقة الكلام عن تاريخ الفكر الاقتصادي في الحضارات الشرقية المتمثلة في حضارة المصريين القديمة والبابليين والحضارة الصينية، وقد عرفنا أن تلك الحضارات كانت شديدة المركزية واشتهرت بالزراعة المنظمة ولكن شح الوثائق والمعلومات حال دون معرفة الفكر الاقتصادي السائد آنذاك، المقصود من الفكر الاقتصادي هو الإنتاج والتوزيع والاستهلاك وحقوق الملكية ورأس المال والعمل والعمال والمشاكل الاقتصادية وغير ذلك.
لا نزال في الحضارات القديمة ولكن في وقت أقرب حيث الحضارة اليونانية والاقتصاد الإغريقي المعروف بالااقتصاد العائلي الذي عُرف بأنه قائم على إدارة المنزل، حيث يتولى رب المنزل مسؤولية تأمين احتياجات المنزل.
لم تظهر مشاكل اقتصادية أمام اليونانيين إلا في أثينا بعد الحصول على غنائم الحرب وازدهار التجارة، ولعل السبب يعود إلى أن الدولة الإغريقية قامت على الرق بحيث ترك العمل اليدوي للعبيد وتم النظر إلى العمل بصفة عامة _ باستثناء الزراعة _ محل احتقار من المفكرين في ذلك الوقت.
نستطيع قراءة الفكر الاقتصادي السائد في الحضارة الإغريقية آنذاك من خلال كتابات ونتاج المفكرين والفلاسفة الإغريقين من أمثال أفلاطون وأرسطو الذين جاءوا على ذكر وتفسير بعض الظواهر الاقتصادية من قبيل العبيد والملكية وطبقات المجتمع.
أفلاطون (427 – 347 قبل الميلاد)
تناول الفيلسوف الإغريقي أفلاطون في القرن الرابع قبل الميلاد بعض المشاكل الاقتصادية في كتاب “الجمهوية” وكتاب “القوانين” حيث يرى أن نشأة الدولة ترجع إلى اعتبارات اقتصادية فحاجات الإنسان متعددة ولابد من اجتماع الأفراد في جماعة سياسية حتى يمكن إشباع هذه الحاجات، وقد وضع أفلاطون حجما أمثل لتشكيل الدولة بحيث يمكن إشباع الحاجات على أتم وجه وهو 5040 مواطنًا.
في كتاب الجمهوية قسّم أفلاطون المجتمع في مدينة مثالية قائمة على تقسيم العمل والاختصاصات بين طبقات المجتمع إلى طبقة الحكام التي تشمل الفلاسفة والحكماء الذين يخضعون لتربية خاصة والنبلاء لنسلهم الشريف والمحاربون لشجاعتهم، هذه الطبقة لا يحق لها التملك والميراث حتى تتوافر لديهم الرغبة في الاستمرار في أداء الخدمة العامةلأن من أسباب انحراف البشر حب الملكية الفردية والرغبة في التوريث، أما الطبقة الأخرى فهي طبقة المحكومين التي تتضمن العمال اليدويين والزراعيين والصناع والحرفيين التي لها الحق في الملكية الفردية لأنهم يهدفون لتحقيق الربح بعكس الطبقة الحاكمة التي ينبغي أن تهدف إلى خدمة العامة وتحقيق الصالح العام.
بينما الرق يعتبرهم أفلاطون أنهم عنصر دائم في الحضارة الإنسانية لايمكن الاستغناء عنهم وأفضلهم الأجانب المُستولى عليهم في الحروب.
عُرف عن أفلاطون تحبيذه لفكرة الشيوعية في الفكر الاقتصادي بالنسبة لطبقة الحكام في مدينته المثالية.
كلمة الشيوعية في اللغة أتت من معنى المشاع بمعنى وضع الملكية عامة لكل الشعب وأن يعمل الفرد على قدر طاقته وأن يأخذ على قدر حاجته، أفلاطون اعتمد هذه النظرية لكي يبعد عن طبقات المجتمع الدنيا التناحر فيما بينها في ملكية العقار، وطبعا هذا كان أساس لأفكار الشيوعية التي شكلت حركة ثورية قادها كارل ماركس وفريدريك أنجلز وفلاديمير لينين منذ ماضِ قريب.
أرسطو (384- 322قبل الميلاد)
أرسطو ناقض أفلاطون في أفكاره ورأى أنه من الممكن تحقيق التوافق بين المصلحة الفردية والمصلحة العامة وأن الدافع الشخصي هو من أقوى الدوافع لتحقيق المصحلة العامة، وقد شكلت هذه الأفكار البذرة الأولى لأفكار آدم سميث فيما بعد في كتابه ثروة الأمم عام 1776 ميلادي الذي نادى فيه بإطلاق الحرية الفردية لتحقيق الانسجام بين المصلحة الفردية والمصلحة العامة فيما سماه باليد الخفية.
ظهر عند أرسطو أفكار اقتصادية من قبيل محاولته تفسير بعض الظواهر الاقتصادية حيث فرّق بين قيمة الاستعمال التي تعتمد على قيمة منفعة الشيء بالنسبة للشخص، وقيمة المبادلة التي يتم فيها تحديد معدل التبادل بين السلع بعضها مع بعض. واعتبر الأثمان القائمة على الاحتكار غير أخلاقية فهي أثمان غير عادلة.
ودرس أرسطو الاستغلال بصورة بسيطة تبعا للزمن الذي كان يعيش فيه فقد فرق بين الثراء الطبيعي والغير طبيعي، حيث اعتبر استخدام العبيد ثراءً طبيعيا بينما اعتبر التجارة ثراءً غير طبيعي، كما اعتبر سعر الفائدة والكسب منها ثراء غير طبيعي وقال إن النقود غير منتجة في ذاتها لذك اعتبر الفوائد مرذولة وتعتبر من قبيل الثراء الغير طبيعي، والجدير بالذكر هنا أن هذا يتوافق مع نفس المبررات التي حُرمت الفائدة لأجلها في الإسلام.
كما فرّق أيضًا بين الأموال التي تهلك بالاستعمال والأموال التي لا تهلك بالاستعمال؛ حيث رأى أن النقود تهلك عند التصرف فيها أي عند استعمالها في شراء السلع والخدمات، في حين أنها لا تهلك بالاستعمال إذا أُخذت وتم احتساب سعر فائدة عليها.
روما
حضارة روما انبثقت من مجتمع زراعي في بداية القرن العاشر قبل الميلاد ومع الوقت أصبحت من أكبر امبراطوريات العالم القديم، ضمت الامبراطورية الرومانية الشرقية وعاصمتها القسطنطينية اليونان وآسيا الصغرى وسوريا ومصر.
الحروب والغزوات جعلت العبيد متوفرين بكثرة حيث قدر العبيد بحوالي 20% من سكان الامبراطورية و40% في مدينة روما وحدها.
من حيث الثقافة الفلسفية فقد تميزت الثقافة الرومانية بالضحالة، اعتمدت في البداية على الاقتصاد العائلي ومن ثم تحولت إلى الاقتصاد الزراعي المغلق ومن ثم إلى اقتصاد استعماري امبراطوري. وظهرت في ذلك العصر ظواهر اقتصادية من قبيل التضخم الشديد في القرنين الثالث والخامس بعد الميلاد، كما أدى الإلمام بتنظيم الزراعة بمشاكل جديدة مثل الاستغلال الكبير والاستغلال الصغير، ولكن لم تظهر أفكار تعالج هذه المشاكل في ذلك الوقت سوى بعض الإشارات المقتضبة من إيجاد أدوات ووسائل في مجال الزراعة وأثر تنظيم الأسواق على التضخم، واستنكار أسعار الفائدة ومعارضة صور الاستغلال الكبير للأرض وأثره على توافر المواد الغذائية. الجدير بالذكر أن روما وضعت نظام عملة متطور باستخدام النحاس والبرونز وتم تداولها في جميع أنحاء الامبراطورية. ولكن بالمجمل فإنه لا يوجد نظرية اقتصادية عند الرومان عن المشاكل الاقتصادية التي عانوا منها في ذاك الزمان كالتضخم والاستغلال.
في المقالة القادمة سنتكلم عن الفكر الاقتصادي السائد في العصور الوسطى أي الفترة التي لحقت سقوط الإمبراطورية الرومانية وحتى عصر النهضة والإصلاح الديني وسقوط القسطنطينية.