ترجمة وتحرير نون بوست
قبل خمس سنوات، سألتني صحيفة الغارديان عن تقييمي لآثار الانتفاضة التونسية على بقية العالم العربي، وتحديدًا على سوريا، وأوضحت حينها بأن سوريا “ليست بأي حال من الأحوال خارج نطاق الأزمات التي تعم العالم العربي، كالبطالة، تدني الأجور، وخنق المجتمع المدني”، ولكنني مع ذلك قلت في ذاك الوقت “على المدى القصير والمتوسط، يبدو من غير المرجح للغاية أن يواجه النظام السوري تحديًا على غرار تونس”.
هذه الآراء نُشرت ضمن الغادريان في 28 يناير 2011، في ذات اليوم الذي قام فيه المواطن السوري، حسن علي عُقلة، بإضرام النار في نفسه احتجاجًا على نظام الأسد في تقليد مشابه لتضحية محمد البوعزيزي بنفسه في تونس، وفي تلك الآونة، لم يتصدر حدث عُقلة الأخبار، ولكن في 17 فبراير كانت استجابة الشرطة السورية الوحشية على خروج تجار سوق الحريقة في دمشق، الذين تجمعوا بالآلاف للهتاف “الشعب السوري ما بينذل”، استجابة منقطعة النظير، وبعد ذلك بوقت قصير، تم إلقاء القبض على أطفال درعا وتعذيبهم لأنهم كتبوا على الحوائط شعارات مناوئة للنظام، وعندما احتج أقاربهم في يوم 18 مارس، وقتل أربعة أشخاص على الأقل جرّاء ذلك، أُطلق العنان لدوامة الجنازات والاحتجاجات وإطلاق نار.
في عام 2011، كتبت بأن الأسد شخصيًا يتمتع بشعبية جماهيرية، وهو الأمر الذي استمر حتى ألقى بخطابه في 30 مارس أمام مجلس الشعب السوري المريض، حيث علّق أغلب السوريين حكمهم على الأسد حتى تلك اللحظة، متوقعين منه الظهور للاعتذار عن حوادث القتل وللإعلان عن إصلاحات جدية، ولكن بدلًا من ذلك، هدد الأسد في خطابه، وانغمس في نظريات المؤامرة، والأسوأ، بأنه قهقه ضاحكًا لأكثر من مرة خلال خطابه الهزلي.
على المستوى الشخصي، استهنت للغاية بالآثار الكارثية لإعادة الهيكلة الليبرالية الجديدة لنظام المحسوبية الرأسمالي للأسد خلال العقد السابق، وأدركت قريبًا جدًا بأنني أخطأت بالحكم على أشياء أخرى كثيرة أيضًا؛ ففي أبريل، أبدى النظام لفتات تصالحية مع الإسلاميين والأكراد، وفي البداية اعتقدت بأن هذه المقاربات أظهرت مدى اليأس المدقع الذي يعايشه النظام، خاصة وأن حركة الاحتجاج غير الطائفية في هذه المرحلة شملت عموم سورية، ولكنني أدركت بعد ذلك كم كان تفسيري خاطئًا وقاصرًا؛ ففي السنوات التالية تمسك النظام بقراءة الثورة من خلال عدستي العرقية والطائفية، وفعلًا، ولأسباب ترجع بمعظمها لممارسات النظام بحد ذاته، تحولت العرقية والطائفية في نهاية المطاف لتطغى على المشهد الثوري السوري.
“بشار الأسد هو قائد الثورة”، قال لي أحد الشبان الدمشقيين، وتابع موضحًا: “في كل مرة يقتل أو يعذب بها شخصًا ما، يخلق 10 رجال آخرين مصممين على تدميره”.
في البداية، جعلني لجوء النظام إلى “الحل الأمني” أعتقد بأنني قد بالغت في تقدير ذكائه، ومن ثم أدركت بأنني قد قللت من أهمية النظام؛ فلكون الأخير أدرك يقينًا بأنه لا يستطيع البقاء على قيد الحياة في ظل عملية إصلاح حقيقية، عمد إلى إثارة حرب أهلية في البلاد.
عمد النظام لغاية تأجيج الحرب الأهلية إلى قمع الناشطين السلميين غير الطائفيين بوحشية دموية، حيث اعتقل، عذب، قتل، أو أخفى عشرات الآلاف من المواطنين، وفي الوقت عينه، أطلق سراح الجهاديين من السجون، ومن ثم، وردًا على العسكرة الحتمية للثورة، لجأ النظام لتطبيق سياسة الأرض المحروقة، حيث عمد جنوده لحرق المحاصيل وقتل الماشية، وتم دك الأحياء المدنية بالمدفعية، الطائرات المقاتلة، صواريخ السكود، البراميل المتفجرة، وغاز السارين، كما ساعدت سلسلة المذابح الطائفية التي ارتكبتها القوات النظامية في عام 2012 إلى تشدد المزاج العام بغير رجعة.
“أصدقاء” الشعب السوري المفترضين فشلوا في تسليح الثورة جديًا، كما أخفقوا في حماية الشعب من الذبح، وبمساعدة غير مباشرة من الأسد، تصاعد تيار الجهاديين الأجانب الذين وصلوا لشغر الفراغ الحاصل، وحتى يوليو 2014، كانت علاقة النظام بالدولة الإسلامية تحكمها معاهدة غير معلنة بعدم الاعتداء، وحتى يومنا هذا، يعمد النظام (وروسيا) عندما تنشب المعارك ما بين داعش والجيش الحر، إلى قصف الأخير عوضًا عن الأول.
كشخص مولع بإضرام النيران يتنكر في زي رجل إطفاء، يقول الأسد للعالم بأن بقاءه في السلطة هو شرط لا غنى عنه لهزيمة التيار الجهادي، والكثير من المعلقين يتفقون معه في هذا، ربما لأنهم يميلون بشكل عام لتجاهل عذابات ومحن وإنجازات الشعب السوري، لصالح التركيز على قصة الإرهاب وشطرنج حرب الوكالة؛ ونتيجة لذلك، يبدو بأن الرأي العام الغربي يفكر بأن خيار سوريا حاليًا يقبع بالاختيار ما بين “الرئيس الأسد أو المجانين”، كما قال لي أحد الأشخاص مؤخرًا.
منذ عام 2011، تعلمت بألّا أثق بالقوالب السردية الكبرى الجاهزة التي يقدمها اليسار أو اليمين، وتعلمت بأن أتخوف من النهاية الكارثية لسياسات الهوية، وأن أركز عوضًا عن ذلك على الحقائق الإنسانية، كـ الـ300.000 قتيلًا و الـ11 مليون نازح، الذين شكلوا أسوأ أزمة لاجئين منذ الحرب العالمية الثانية، كما أضحيت أركز على الواقع الأكثر إيجابية، كالمجالس المحلية الثورية، المنتخبة بشكل ديمقراطي بالعادة، والتي تبذل قصارى جهدها للحفاظ على استمرارية الحياة، والتي ينبغي أن تكون جزءًا جوهريًا من أي تسوية للوضع السوري، كما يممت شطري نحو التركيز على الثقافة الثورية التي وضعت حجر الأساس لظهور الموسيقى، الشعر، المحطات الإذاعية، والصحف الناقدة.
الشعب كان يمارس الديمقراطية حين يستطيع لذلك سبيلًا، ولكن بحلول أغسطس 2013، بدت الأمور تشير إلى فوز الثورة المضادة على الصعيدين الإقليمي والعالمي؛ ففي مصر، حصلت مجزرة رابعة في ذاك الشهر، مفسحة المجال في البداية لتصفية جماعة الإخوان المسلمين، ومن ثم لقمع أي شخص آخر، أما في سوريا، وبعد انهيار “خط أوباما الأحمر” حول استخدام الأسلحة الكيميائية، قتل الأسد 1400 مواطن بالأسلحة الكيماوية، واستمر الأسد بالحصول على الأسلحة من روسية، كما تلقى الجيش المصري حصته من الأسلحة من أمريكا.
بعد ذلك، تدخلت إيران وروسيا لإنقاذ نظام الأسد من الانهيار العسكري، رغم أن جيش النظام يعد منهارًا أساسًا بالنظر إلى الحقائق على أرض الواقع، التي تشير إلى تسليمه لسلطاته باطنيًا إلى الدول الأجنبية ولأمراء الحرب المحليين، وإلى كونه قد فقد أربعة أخماس البلاد لصالح قوى مختلفة، حيث تُحكم حفنة من مناطق “سوريا المحررة” من قِبل القوميين الديمقراطيين المحاصرين، العرب أو الأكراد، أما باقي المناطق فيحكمها بأغلبها الجهاديون العابرون للحدود الوطنية.
الأزمة تتطرد وتتزايد كل يوم أضعافًا مضاعفة، والشيء الوحيد المؤكد حول غزو روسيا لسوريا هو أنه يعمد لتوسيع رقعة الحرب مكانيًا وزمانيًا.
لذا، النظرة الشاملة عن 5 أعوام من الحرب السورية يمكن تلخيصها بواقع فقدان الأصدقاء والأقارب لمنازلهم، معاناتهم من الفظائع والمجازر، واضطرارهم للهجرة غير الشرعية، كل تلك الأمور أضحت أمورًا اعتيادية في نظر السوريين؛ فكل عائلة سورية، مهما كان انحيازها، تمتلك حكايات صادمة تستحق أن تُروى، وأكثرهم تتقطع قلوبهم حزنًا على قتلاهم,
بالنسبة لي، لن أعرض على أطفالي أبدًا صور معابد تدمر أو مأذنة الجامع الأموي بحلب، تلك الصروح التاريخية التي نجت من الزلازل والغزوات المغولية ليتم هدمها الآن وتسويتها بالأرض، بالتزامن مع تمزق النسيج الاجتماعي المعقد في البلاد بشكل لم يعد يمكن إصلاحه.
خلال هذه السنوات الخمس، شهدت سوريا أعماق الفساد البشري، ولكن السوريين أثبتوا أيضًا بأنهم يتمتعون بالإبداع والإلهام والمرونة حتى في أحلك وأفظع الظروف.
التغيير في سوريا والمنطقة يجري بوتيرة متسارعة، ويتقدم باتجاهات متناقضة، ولكن من المبكر للغاية أن نحكم على نتائجه النهائية.
هذا المقال هو الجزء الثاني من مقال مطول نشرته صحيفة الغارديان بعنوان: “لقد كنت مخطئًا”، الكتّاب العرب يراجعون مواقفهم بعد 5 سنوات من الربيع العربي، يتحدث الموضوع عن مراجعات بعض الكتاب للربيع العربي بعد مرور 5 سنوات، وهم: علاء عبد الفتاح، روبن ياسين كساب، أهداف سويف، مريد البرغوثي، ليلى العلمي، رجا شحادة، خالد مطاوعة، تميم البرغوثي، نوري ڤانة، وجمانة حداد، وسيعمل نون بوست على ترجمة ونشر مراجعات الكتّاب تباعًا.
يمكنكم قراءة الجزء الأول من المقال، بعنوان “لم يبق غير الكلام عن موت الكلام” للكاتب المصري علاء عبد الفتاح من هنا.