في شهر مارس من عام 1989، كتب السير تيم بيرنرز- لي مذكرة أسفرت في نهاية المطاف عن تأسيس ما يدعى بشبكة الإنترنت، وفي تلك الفترة، قبل 25 عامًا، كان حتى المفهوم البسيط لربط الوثائق ببعضها بهذه الطريقة التشعبية عصيًا على الفهم، ولكن كيف ستكون الحياة الرقمية بعد مرور 24 سنة أخرى من الآن؟ وكيف ستتغير الأمور بحلول عام 2040؟
في استطلاع المستقبل يمكننا أن نسبر نوعان من الرؤى، الرؤى المتفائلة والرؤى المتشائمة، حول مستقبل الإنترنت، ويكفي لنا أن نستطلع أعظم آمال الأشخاص وأكبر مخاوفهم تجاه المستقبل الرقمي، ليكون بإمكاننا أن نتصور الرؤى المختلفة للغاية لما قد تؤول إليه هذه التقنية في يوم من الأيام.
النظرة المتفائلة
ها قد حل صباح أحد الأيام الصيفية المشرقة في عام 2040، وأصبح الإنترنت يتنفس ضمن كل شيء من حولك، وجميع الأشياء التي توشك على القيام بها خلال يومك أصبحت واضحة وسهلة بفضل تدفق البيانات عبر الإنترنت، فمع المعلومات التي تأتي بشكل مستمر عن مواعيد انطلاق وسائل النقل العامة، والتغير المستمر والحيوي لخريطة طرق المواصلات، يمكنك من تفادي الازدحام وتجنب التأخير، أما شراؤك للهدية المثالية لعيد ميلاد طفلك فقد أصبح أمرًا في غاية السهولة، وذلك لأن المعلومات المتوفرة عنه تمكن خدمة تسوقك الخاصة من معرفة الهدية التي يرغب بها بالضبط، والأفضل من ذلك كله، هو أنك لا تزال حيًا على الرغم من تعرضك لحادث شبه قاتل في الشهر الماضي وذلك بفضل تمكن الطبيب في قسم الطوارئ في المستشفى من الحصول على وصول سهل لتاريخك الطبي عبر الإنترنت.
هذا كله يبدو رائعًا أليس كذلك؟ هذا هو المستقبل الذي تقوم فيه البيانات بدعم كل شيء، وهي الفكرة التي يحاول مبتكر الإنترنت دعمها منذ بعض الوقت، وتبعًا له فإن الخدمات الذكية التي تستخدم الذكاء الاصطناعي لمساعدتنا على إدارة أعمالنا بشكل أفضل، ستسهم على الأرجح في خلق عالم إلكتروني أقل تشوشًا وأكثر بساطة، حيث سيصبح البريد المزعج والجداول التي تسبب الصداع شيء من الماضي.
بالمقابل، ومع تزايد كمية البيانات من حولنا، قد يخشى البعض من الآثار المترتبة على انتهاك الخصوصية، ولكن المخاوف المعاصرة في هذا الشأن، وخاصة تجاه سوء التعامل مع البيانات، يمكن أن تتم تسويتها بحلول عام 2040، فوفقًا لخبير أمن المعلومات بروس شنير، فإن السؤال هو: متى سيتم تقنين الخصوصية والتقنيات على الإنترنت؟ والجواب: خلال 20 أو 30 عامًا على الأكثر، لن يكون لدينا هذه المستويات الحالية من التجسس وجمع البيانات.
يفسر شنير ذلك، بأنه بعد عقود من الآن، سينظر الأشخاص القلقون حول مسألة الخصوصية إلى ما يحدث حاليًا من اختراقات كما ينظر الأشخاص إلى عمالة الأطفال التي كانت سائدة في الماضي، والتي تعتبر الآن بأنها شيء غير مقبول بالنسبة لمعظم الأشخاص.
النظرة المتشائمة
إنها إحدى ليالي شتاء عام 2040، والعالم قد أصبح مكانًا مظلمًا، فالإنترنت أصبح الصديق الوفي للمجرمين، وأصبح من المستحيل الدخول إلى الشبكة دون تعرض حسابك البنكي أو هويتك لخطر السرقة، وإلى جانب ذلك، فقد سيطر القراصنة على الشبكات الاجتماعية، وأصبحت أسعار الإنترنت باهظة جدًا، لدرجة أن الأغنياء فقط هم من يمكنهم الوصول إلى المواقع المفيدة ومواكبة الأحداث، وإذا لم يكن ما تقدم سيئًا بما فيه الكفاية، فقد أصبح بالإمكان رصد تحركات جميع الأشخاص في بعض البلدان باستمرار من قِبل الشرطة السرية التي تستخدم أجهزة الاستشعار أو الرسائل التي تم تبادلها عبر شبكات الاتصالات على الإنترنت، فهل ترغب في الحصول على إمكانية دخول لمثل هذه الشبكة؟
هناك تلميحات تشير إلى احتمالات حدوث كارثة رقمية في جميع أنحاء العالم بالفعل، وكما ذكرت صحيفة النيويورك تايمز، فإن تقرير صدر مؤخرًا عن مركز بيو للأبحاث حول الطبيعة المحتملة لشبكة الإنترنت بعد عقد من الآن يتضمن كلمة “تهديد” أكثر بأربع مرات من كلمة “أمل”.
إن المشاكل المحتملة كثيرة للغاية، فزيادة الخدمات التي تعتمد على البيانات يشعر البعض بالقلق حول الوصول إلى مستقبل يحدد لنا فيه الآخرون أسلوب حياتنا، مقلصين بذلك قدرتنا على أن نختار ما نريد بمحض إرادتنا، وثم هناك القلق من أن تصبح شبكة الإنترنت للنخبة فقط، وبهذا سيصبح أولئك الأشخاص الذين يصعب عليهم الولوج إلى الحياة الرقمية في الدرك الأسفل من المجتمع، فتبعًا لما جاء في تقرير بيو، الإنترنت سيساعد الأغنياء على أن يزدادوا ثراءً وسيصبح أداة لزيادة تهميش الأشخاص الذين يعيشون بالفعل في الفقر والمرض العقلي، وغيرها من التحديات الخطيرة.
أحد طرق الحفاظ على الديمقراطية والمساواة على شبكة الإنترنت هي من خلال الحفاظ على الحيادية (مبدأ حيادية الإنترنت)، وهو ما يعني أن شبكة الإنترنت يجب أن تكون مفتوحة ولامركزية ويمكن الوصول إليها عالميًا، وذلك بدلًا من كونها مجزأة، وتميز البعض على غيرهم، وهلم جرا، فبحسب بيرنرز لي، نحن بحاجة لمواصلة القتال للحصول على إنترنت حيادي، ولكن أولئك الذين يخشون من المستقبل يقولون إن هناك فرصة كبيرة بأن الحيادية لن يكتب لها البقاء على المدى الطويل، بل في الواقع، هناك البعض ممن يعتقدون بأن المعارك الرئيسية قد تمت خسارتها بالفعل، ففي بداية هذا العام، على سبيل المثال، وضعت محكمة الاستئناف في العاصمة الأمريكية واشنطن قواعد للحياد، وبموجب هذه القواعد، فإنه يسمح للشركات الغنية الكبرى بأن تدفع أموالًا لترويج خدماتها على الإنترنت، وفي نفس الوقت تُمنع الشركات المنافسة من الإعلان بنفس الطريقة، مما يؤدي إلى خنق التنافسية بين الشركات التي تقدم خدمات متشابهة.
الحيادية ليست وحدها المعرضة للخطر في المستقبل، حيث أعرب مساهمون آخرون في تقرير بيو عن مخاوفهم أيضًا بشأن تطبيق سياسات الدولة الأمنية على الإنترنت (أمننة الإنترنت)، وهو الأمر الذي يسمح لأنظمة الحكم القمعية بفرض رقابة على الإعلام أو التجسس على مواطنيها بسهولة أكبر، وإذا كان التدخل الحكومي لا يكفي، فهناك أيضًا خطر زيادة المشاكل الأمنية التي يشكلها المجرمون، وبالفعل، فقد سمحت الأجهزة المتصلة بشبكة الإنترنت في بيوت الأشخاص بحدوث سيناريوهات مخيفة تم فيها مراقبة الأجهزة الشخصية للمستخدمين عن بعد، وتم حتى اختراق أجهزة مراقبة الأطفال بشكل ضار.
وجهة النظر الواقعية
بالنسبة للواقعيين، فإن مستقبل الإنترنت في عام 2040 سيكون على الأغلب في مكان ما بين النظريتين المتفائلة والمتشائمة، فسنشهد حصول الأمور الجيدة والسيئة في محل الإنترنت بالمستقبل، وهذا ما أوضحه شنير عندما ذكر موضوع الإرهاب الإلكتروني، فهو لا يشعر بالقلق بشكل مفرط من مثل هذه الأمور، لأنه كما يقول، شبكة الإنترنت هي مكان متوازن بفعل النوايا المتعددة والمتنوعة لمستخدميها.
أما بالنسبة لرجال الأعمال، فإنه من الصعب أن نصدق بأن بعض الشركات سوف تقفز لتتصرف بطريقة أخلاقية في الأوقات الاقتصادية التي لا ترحم، فالشركات، في الواقع، سيكون لها دائمًا سلوكيات غير أخلاقية، ولكن من ناحية أخرى، فإن هذا يعني بأنه سيكون بإمكان الأشخاص محاسبة تلك الشركات عندما تسوء الأمور، أو عندما تتصرف بطريقة غير مقبولة.
نهاية، يمكن القول بأنه في عالم مفتوح المصادر، المنافسة لا تدفع فقط نحو الابتكارات الإيجابية التي يتوق إليها الأشخاص، بل يمكن أن تسمح كذلك بسيادة قيم المساواة، ولكن هذا لا يعني بأن كل مصائبنا سوف تختفي، فعلى الرغم من أن شبكة الإنترنت في جميع أنحاء العالم في عام 2040 ستكون مختلفة، ولكننا يمكن أن نكون متأكدين من شيء واحد، وهو أن هذه الشبكة ستبقى متنوعة لتعكس تنوع جنسنا.