تحل اليوم الذكرى الخامسة لثورة الخامس والعشرين من يناير في مصر، تلك الفورة الشعبية التي أعادت إحياء الكثير من الآمال في صدور الشعوب العربية، في ظل المركزية الثقافية والسياسية والتاريخية لمصر على مستوى الأمة العربية والإسلامية، وليس أدل على ذلك أنه عندما سقطت – مؤقتًا – شرعية ثورة يناير في مصر؛ تحدث الجميع عن انتهاء الربيع العربي وموسم ثوراته.
كانت الثورة حُلْمًا في حد ذاته، ولأنها كانت حُلْمًا؛ فقد كان من الضروري أن تنتهي كما ينتهي أي حُلْم جميل، ولكن يبقى أملٌ لدى الجميع، أن تكون الثورة رؤيةً وليس حُلْمًا، بحيث لا تكون كلمة “النهاية” قد أُسدلت كما يحاول النظام الحالي في مصر أن يقول للجميع، وأن يقنع من بالداخل والخارج، أنه هو خط النهاية للثورة، وهو مخاضها، والمُعبِّر عنها!
وبقطع النظر عن المحتوى القيمي في هذا الحدث التاريخي الكبير، وفي ذكراه الخامسة، فإن الكيِّس الفَطِن يجب عليه أن يقف أمام الأمور والحوادث بالفحص والدرس من أجل استخلاص العِبَر، وفهم ما جرى، وكيف ولماذا جرى، ثم البدء في البناء من جديد بناءً على المعطيات الموضوعية التي يصل إليها.
وأول هذه المعطيات التي يجب أن نقبلها من خلال عملية التقييم هذه، هو أنه بلا شك لم تكن الثورة المصرية لتصل إلى هذه المرحلة، ما لم تكن هناك أخطاء من جانب القوى التي اضطلعت بمهمة قيادة العمل الثوري، وثاني هذه المعطيات، أن الثورة ليست حالة يمكن اصطناعها أو التخطيط لها، بل إن محور وأساس نجاحها، هو عفويتها، مع كونها عبارة عن مخاض مفاجئ، وانفجار عفوي نتيجة اجتماع عدد من العوامل، مع وجود عوامل حفز، من بينها حوادث مفاجئة، ولا يُعتبر الزمن أحد هذه العوامل.
ولعل أمثل دليل على هاتَيْن الحقيقتَيْن، ما فتئت بعض القوى التي لا تزال تتبنى رسالة الثورة، في التأكيد عليه، من أنه قد تم الوقوع في أخطاء، وأن بعض هذه الأخطاء يعود إلى أن حالة الثورة في يناير وفبراير 2011م، قد فُرِضَتْ فَرْضًا على جميع الأطراف، بما لم يكن أحدٌ متحسِّبًا له.
وفي الذكرى الخامسة للثورة كذلك؛ فإننا يجب أن نقف أمام بعض المشاهد التي تجيب على سؤال شديد الأهمية في هذه المرحلة، وهو: ما هي الأمور التي كان يجب على المكوِّن الثوري المصري القيام بها، ولم يقُم بها؟
قبل الإجابة عن هذا السؤال، نقف أمام بعض المشاهد الحالية في المنطقة العربية لكي ندرك الصورة على حقيقتها واتساعها.
المشهد الأول، هو الاضطرابات التونسية الحالية، والتي بقطع النظر عن بواعثها أو خلفياتها والعوامل والأطراف التي تقف خلفها – البعض يتهم الإمارات للتخلص من الحكومة والبعض يتهم الظروف السياسية والاقتصادية الراهنة في تونس، ولكن أيًّا ما كان – فإنه في هذه المرحلة سوف نجد أن التلازم الذي صاحب ثورتَيْ مصر وتونس طيلة السنوات الماضية، قد بدأ في الانفصام.
فالثورتان سارتا طويلاً بجوار بعضهما البعض، حتى في نوعية المهددات والارتكاسات، لكن هنا تفترقان، وهذا ما يعود إلى اختلاف تعامل الدولة العميقة في مصر مع الثورة عن تعامل القوى القديمة في دولة بن علي مع ثورة تونس.
فما قام به النظام في مصر يمنع تمامًا، على الأقل لخمس سنوات أخرى قادمة، أية إمكانية لفعل احتجاجي بهذا الاتساع والتأثير، ما لم يحصل عامل مفاجئ يخل بالمعادلة الراهنة في مصر، مثل اغتيال السيسي أو الإطاحة به من الداخل أو ما شابه.
هذا المشهد مهم ولافت للغاية، لأنه يعكس عددًا من الأمور التي تجيب عن العبارة المهمة للغاية التي طرحناها في هذا الإطار، وهي: ما لم يفعله الثوار في مصر.
فالمتابع المدقِّق في التطورات التي مرَّت بها تونس في السنوات التي تلت ثورة الياسمين، سوف يجد العديد من الأمور التي أصرت عليها القوى المدنية والشعبية هناك، حتى بعد تولي الباجي قايد السبسي – وهو نائب بن علي – للرئاسة، في تونس خلفًا للرئيس السابق، المنصف المرزوقي.
هذه القوى بالرغم من أنها طليعية، وتمثل أقلية في أوساط الشعب التونسي، إلا أنها لم تكف لحظة عن العمل على الإبقاء على روح الثورة في الشارع التونسي، وبوسائل تميِّز ما بين الثورة والعنف، فكانت على طول الخط ضد الإرهاب والعنف السياسي، مهما كان مرتكبوه ومهما كان من استهدفهم العنف، حتى السلطة الحالية التي يرفضونها.
وهذا ما يفسر عدم تصعيد الشباب التونسي لاحتجاجاته الراهنة، ويبدي الكثير من الحذر إزاء دعوات العنف والتخريب، عن وعي بخطورة الانزلاق إلى هذه الحالة، في ظل الأوضاع في ليبيا، وفي ظل تربُّص قوى عديدة في الخارج والداخل لهذه الحالة، من أجل إطلاق رصاصة الرحمة النهائية على الثورة التونسية، وعلى الربيع العربي برمته.
في المقابل لم تكن القوى الثورية في مصر، وطليعتها الشبابية على نفس الدرجة من الحذر، ودعمت بعض الأطراف في داخل المجموع الثوري المصري العنف ضد الدولة والمجتمع، بل والإرهاب الصريح الذي يجري في سيناء وفي بعض مناطق مصر الداخلية، بما فيها العاصمة.
وقد يشير البعض إلى أن عنف الدولة في مصر ضد الثورة والقوى الثورية، كان من القسوة أن وصل إلى مستوى الجريمة متكاملة الأركان، وبالتالي قد يبرر ذلك دعم العنف من جانب شخوص وأطراف محسوبة على المجموع الثوري المصري؛ إلا أن ذلك مردود عليه بأن الاشتغال بالشأن العام، وفي عظيم الأمور مثل شأن الثورة في مصر، يفرض على المشغلين بذلك، والعاملين في هذا الحقل، تغيير مفاتيح تفكيرهم وسلوكهم إلى مستوى يختلف عن فكرة “الثأر” الشخصي أو الاعتبارات الفردية.
وفي الإطار، كان الأجدى، وهو ما لم يقم به ثوار مصر، الحرص على عدم الصدام مع الدولة والمجتمع، من أجل الحفاظ على الهامش الضيق الذي تحركت فيه القوى الثورية التونسية، والتي حصدت جميل غرسها، فما إن سنحت الفرصة، تجاوب الشارع، فيما الحالة في مصر لا تسمح بذلك.
وهنا يبدو دور المجتمع المدني التونسي، حيث كان لمؤسسات المجتمع المدني التونسية والتي لم تفرط لحظة في مكتسباتها طيلة العقود الماضية، دور بالغ الأثر في أن تكون بمثابة قضبان الكادميوم في المفاعلات النووية، والتي تمتص الفورات غير المحسوبة للتفاعلات، فتبقي على مستويات سليمة من التفاعل في إطاره النافع، فلا يرنو إلى العنف المدمر الذي يفقِد المجتمع تعاطفه مع الثورة، ولا يعمل على تعطيل فكرة الثورة وتبريدها إلى درجة الموات، فيما تخلى المجتمع المدني المصري عن أدواره لصالح الدولة.
المشهد الثاني، كان كلمة الرئيس المصري أمام أكاديمية الشرطة في “احتفالية” الدولة الرسمية بذكرى ثورة الخامس والعشرين من يناير، والتي سبقت الذكرى بيومَيْن، والتي عبر فيها الرئيس المصري عن “جبروت” الدولة كأوضح ما يكون، والطريف أنه قد طرح نفسه باعتبار أن النظام الحالي في مصر هو المخاض الطبيعي و”النهائي” للثورة المصرية، بينما هو من انقض على الثورة وعمل على تصفيتها.
وهنا تبرز إلى العيان قضايا ومشكلات عديدة، تُظهِر العديد من أوجه النقص التي يجب على القوى الثورية المصرية العمل على معالجتها إذا ما أرادوا الحديث عن استكمال الثورة في مصر.
ولكن قبل رصد هذه المشكلات تجب الإشارة إلى أمر طريف أو مفارقة كشفت عنها تطورات الثورة المصرية، وهي أن النظام “بذل” كل ما بوسعه من أجل سقوطه، من خلال الفشل في مختلف الملفات المعروضة عليه، وعلى رأسها الملف الاقتصادي، والذي أوصل المواطن المصري إلى مرحلة لم يعرفها من ضيق العيش، في المقابل فإن القوى الثورية المصرية بذلك – بدورها – بذلت كل ما بوسعها من أجل إنقاذ الانقلاب.
وقد يبدو هذا الحديث مختلطًا أو مرتبكًا، ولكن بتحليل الأمور، سوف نصل إلى فهم ذلك، من خلال تلك القضايا والمشكلات العديدة المُشار إليها.
أول هذه المشكلات، هو فشل القوى الثورية في إدارة المرحلة الانتقالية ما بعد تنحي الرئيس المخلوع حسني مبارك، ثم عدم طرح خطة قابلة للتطبيق خلال المرحلة الراهنة، تطمئن المواطن المصري لجهة مسائل على أكبر قدر من الأهمية، مثل ملف إدارة الفوضى في مصر بعد سقوط النظام الحالي، وكيف سوف يتم تفادي المشكلات التي شابت مرحلة ما بعد مبارك، والتي قادت إلى مشكلة أخرى، وهي افتراق المجموع الثوري المصري.
ثاني هذه المشكلات، هي الأزمة الراهنة على مستوى الصف الثوري المصري، والتي جعلت المجموع الثوري المصري مشتتًا في أكثر من اتجاه، بل إن هناك أزمات تضرب في بنية القوى الواحدة، كما هو في حالة الإخوان المسلمين.
وهو ما جعل كتلة لا بأس بها من الشعب المصري، والتي تعاني من سياسات النظام الحالي، وخصوصًا في المستوى الاقتصادي، وعدم العدالة في توزيع السلطة والثروة، لا تعرف لنفسها بوصلة أو اتجاه، وترى أنه لا فائدة من أي فعل احتجاجي في الشارع المصري، مع عدم وجود العدد الكافي من الجماهير التي تحول الاحتجاجات إلى ثورة.
ولا يقتصر هذا الوضع على الشعب المصري فحسب؛ حيث إن القوى الإقليمية والدولية الراغبة في التغيير والإصلاح في مصر، كما في تركيا، لا تجد بديلاً تتفاوض معه لأن يتولى زمام الأمور في مصر في الوقت الراهن، بينما فكرة ترك مصر للفوضى غير مقبولة، لما سوف يكون لها من تبعات على العالم بأكمله، بينما العالم يسعى إلى تسوية في سوريا، حتى لو على حساب وجود الرئيس السوري بشار الأسد في معادلة الحكم لفترة انتقالية.
كذلك هناك مشكلة تباين مواقف الكتل الثورية من كيفية إدارة الأمور في مرحلة ما بعد ثورة جديدة تطيح بالانقلاب، فهناك من يرغب في عملية سياسية انتقالية، وهناك من يرغب أولاً في تطهير أجهزة الدولة من كل العناصر الموالية للنظام أو يمكنها أن تلعب ذات الدور المعطِّل الذي لعبته خلال فترة حكم الدكتور محمد مرسي، وهناك من يريد محاكمات ثورية ناجزة تطيح برقاب المتورطين في قتل المصريين في الثورة وفي رابعة وفي غيرها من بقاع الدم العديدة التي شهدتها الأرض المصرية في السنوات الخمس الماضية.
هذا التباين أدى إلى عدم توحيد الموقف، وعدم إمكانية بلورة أية خطة عمل موحدة يمكنها أن تصل بالحشد الجماهيري إلى الكتلة الحرجة المطلوبة لثورة جديدة في الشارع، تكتسح أمامها النظام الحالي.
وفي النهاية، فإنه لا ينبغي – كذلك – الوقوف طويلاً أمام هذه الحالة النفسية السلبية، أو أمام تساؤل: ما الذي لم يفعله الثوار في مصر، فاانقلابلأجدى هو فحص المطلوب من الثوار في مصر، وكيف يمكنهم تحقيقه، على أن يضعوا في اعتبارهم أن المعركة طويلة المدى، ولا يمكن التحكم في مفرداتها بالكامل.