معرفة طريقة تفكير النظام الحاكم بمصر الآن تشي بآليات التعاطي معه لإنجاح الثورة عليه، بشرط تضافر عدد من العوامل التي افتقدتها القوى السياسية المختلفة خلال وبعد ثورة يناير منذ أربع سنوات.
النظام القائم بمصر حاليًا يمثل بما لا يدع مجالاً للشك ثورة مضادة على أفكار ومكتسبات ثورة يناير، والدليل الأكبر على ذلك هو الزج بالعديد من الشباب المؤيدين لتحركاته ضد حكم الإخوان في 30 يونيو، في السجون بجانب المعارضين والمنتمين لجماعة الإخوان وغيرهم، من الفصائل والقوى السياسية سواء الإسلامية أو الليبرالية وغيرها.
حرب دونكيشوتية
نظام الرئيس عبدالفتاح السيسي قدم نفسه بعد 30 يونيو، بأنه المحارب ضد الإرهاب، ولذلك وضع نفسه في موقع المواجهة مع قوى “دونكيشوتية”، لا يراها إلا النظام وتابعيه، بالإضافة لوسائل إعلامه الموالية، في رغبة حميمة لجر الفصائل المعارضة، وعلى رأسها بالطبع جماعة الإخوان المسلمين للعنف، ما ينجح فكرته، وهو ما تسنى له في بعض الفترات، سواء بانتشار عمليات التفجير والعمليات الانتحارية ضد الجنود المصريين بسيناء، أو الهجوم على أفراد الشرطة ومبانيها في الداخل في عدد من المحافظات، في مواقف دعمت النظام داخليًا وخارجيًا، وأعطته مسوغ سياسي للزيادة في استخدام القمع ضد معارضيه، الذين لم يثبت إلى الآن تورطهم في تلك الأعمال التي يرى بعض مؤيدي النظام أن الجماعات الإسلامية هي المسؤولة عنها، فيما يرى المعارضون أن النظام هو من يختلق تلك العمليات بأشكال وصور مختلفة لتوطيد فاشيته.
شتات المعارضين ودرس يناير
صحيح أن 18 يومًا كانت كافية للشعب المصري للإطاحة بنظام مبارك الذي ثبت أقدامه على مدى أكثر من ثلاثة عقود، لكن الآن الوضع اختلف، فالقوى المعارضة مشتتة، وكل منهم لا يقبل بالآخر، الليبراليون يرونأن تكرار مشهد سيطرة الإخوان والقوى الإسلامية على الحكم، سيعيد البلاد للخلف، مستشهدين بانقلاب الشعب التونسي على تجربة النهضة بعد فترة وجيزة من الحكم وإعادة انتخاب موالين لنظام بن علي، فيما لم تحاول جماعة الإخوان والقوى الإسلامية لملمة أوراقها أو التقرب من القوى المعارضة الأخرى التي تراها الجماعة – مع الأسف – إلى الآن غير مؤثرة بشريًا وغير مضمونة فكريًا، وإن كانت محقة في بعض ظنونها تلك.
غباء سياسي
ما يهمنا حاليًا، بغض النظر عن حيثيات نجاح أو فشل ثورة يناير، هو التأكيد على أن نجاح أي ثورة، ليس أمرًا مفروغًا منه، حتى لو حققت أهدافها المباشرة، والتي تمثلت في رحيل نظام مبارك، ولكنها أبقت على دولته العميقة ومواليه، الذين تصدروا المشهد بعد أقل من عامين، واستغلوا رفض قطاع كبير من الشعب المصري لسياسات الإخوان في الحكم، سواء بأحكام ووجهات نظر عادلة، أو بتوجيه غير مباشر من سلطة الإعلام، التي لعبت دور كبير في إنجاح 30 يونيو في دولة يغرق أكثر من 80% من سكانها في الفقر، ويعاني ثلاثة أرباع شبابها من البطالة.
لكن السؤال هنا، بغض النظر عن جدلية فشل أو إفشال الإخوان، هو كيف نجحت الدولة العميقة في حشد عدد ليس بالهين من المواطنين ضد الإخوان؟
الإجابة تلخصها كتب العلوم السياسية والثورات، التي ترى أن نجاح أي ثورة في التاريخ ليست فيما حققته من إنجاز لحظي، بقدر اعتمادها على نجاح الفترة الانتقالية بعدها، في وضع دستور تتوافق عليه كل القوى السياسية، ويؤسس لمرحلة سياسية تالية، تنجح فيها جميع الفصائل المعارضة قبل المؤيدة في الاتفاق على مواده، وهنا تأتي نقطة الحسم، لماذا ارتضت القوى السياسية بوجود المجلس العسكري وتصدره للمشهد، ولماذا قبلت بإدارته للفترة الانتقالية، وصياغته للدستور، ولماذا اعتبرت جماعة الإخوان أن ظهيرها الشعبي قادر على مواجهة الجيش وباقي عناصر الدولة العميقة، وهي أولى علامات الفشل أو الإفشال – سمها كما شئت- ، فالجماعة بعد اعتلائها الحكم وسيطرتها على البرلمان، تناست قوة الجيش تمامًا، وتعاملت باعتباره غير موجود، وحاولت الاستفراد بالسلطة، دون الانفتاح على باقي القوى التي ساهمت في وصولها للحكم، بينها الشباب والليبراليين وباقي الفصائل على حد السواء، بل زاد من الأزمة الإعلان الدستوري الكارثي للرئيس السابق محمد مرسي، الذي ألب عليه الجميع، حتى أقرب مواليه، وعزل الجماعة وجعلها في مواجهة مباشرة مع الجميع ما سهل من إزاحتهم فيما بعد، بمباركة قطاع ليس بالهين من المواطنين.
انهيار داخلي وفشل مقابل
يتفق الجميع على أن الصراع تركز حاليًا بين النظام القائم ومؤسساته الشرطية والعسكرية، وبين جماعة الإخوان، لكن ما لا يدركه الكثيرون هو أن كفة الطرفين مازالت متساوية، فالنظام فشل في حسم صراعه مع معارضيه من الإسلاميين والشباب، بعد أن غلبت نزعة القوة على تحركاته، بعيدًا عن أي رؤية سياسية أو اقتصادية أو احتواء مجتمعي، أما التيار الإسلامي وفي صدارته جماعة الإخوان، فمازالت تتحرك وكأنها اللاعب الفاعل والوحيد في قوى المعارضة، وهذا التوجه وإن كان نظريًا فيه الكثير من الصحة، لكن حشد باقي القوى هو المطلوب، خصوصًا بعد الانهيار الداخلي للجماعة، وفشلها في السيطرة على شبابها في منحى سلمية التظاهر.
غياب التوافق الحركي
لا يخفى على أي متابع للموقف السياسي المصري أن جماعة الإخوان تواجه الآن أزمة لم تطلها من تأسيسها في عشرينات القرن الماضي، وساهم تشظي الجماعة الداخلي وتوتر علاقتها مع باقي القوى الإسلامية، بسبب الخلاف على آليات إدارة الصراع، ومع باقي القوى المدنية بسبب الشعارات والمطالب المرفوعة من الجماعة والتي على رأسها عودة الرئيس السابق محمد مرسي، في إضعافها، في مواجهة عنف النظام.
عوامل الانهيار تتخلق في صمت
بعيدًا عن كل ذلك، وبرؤى المحللين، فإن عوامل انهيار النظام الحالي، سواء على المدى القريب أو البعيد، لن تكون بفعل الاحتجاجات والتظاهرات أو العمليات المسلحة ضد الجنود في الشرطة والجيش، فهذه العوامل جميعًا حتى وإن استمرت تزيد من قوته وليس العكس، ناهيك عن التشرذم الكبير بين قوى المعارضة بكل فصائلها، والغباء السياسي لجماعة الإخوان في رغبتها في تصدر مشهد المعارضة بمفردها، ما يسمح لإعلام النظام بتحميلها كل تبعات تلك الاحتجاجات وما يترتب عليها، بالإضافة لخنوع باقي القوى السياسية الأخرى التي انقسمت بين قوى مؤيدة وداعمة على طول الخط لفاشية النظام القائم، وأخرى تنتظر الفرصة للحاق بركب المعارضين، في حال ظهرت بوادر نجاح لتلك التحركات، لكن المواجهة دائمًا بين النظام وشرطته ومعه جانب من الشعب، أيًا كانت توجهاتهم فهم مواطنون، وبين الإخوان وشبابهم ومعهم جانب آخر من المؤيدين من المواطنين.
مشهد ضبابي
وتشي التحليلات بأن ضبابية المشهد الحالي سياسيًا واقتصاديًا هي ما ستحسم المواجهة، بدءًا من الخلل في توزيع السلطات، وتركزها جميعًا في أيدي حاكم لا يعرف إلا محاولات إرضاء مراكز القوى داخليًا وخارجيًا، على حساب شعبه، وغابت مبادئ المساءلة لقادة الشرطة الذين استحلوا كرامة المصريين بعيدًا عن المعارضين، نتحدث هنا عن المصريين العاديين من تسوقهم الأقدار للدخول إلى أقسام الشرطة، أو الوقوع في طريق أي من تلك القيادات في أي توقيت أو مكان، وزاد من ضبابية الموقف القيود المفروضة على قوى المجتمع المدني وحقوق الإنسان، ما فاقم من المشكلات الاقتصادية والسياسية على حد سواء.
الفساد والانهيار الاقتصادي
قلنا إن حسم المواجهة مع النظام الحالي لن يتوقف على نجاح الاحتجاجات من عدمها، مع تحييد مبدأ الحشد للتظاهر – غير المتوافر حاليًا – بفعل الاعتقالات والمواجهات المسلحة وغيرها، لكن ما يضعف السلطة القائمة هي تحركاتها نفسها، باستشراء الفساد وتفرد السيسي بالسلطة، والانهيار الاقتصادي غير المسبوق، بالإضافة للدور الإعلامي السلبي الذي تلعبه القنوات والصحف الموالية للنظام، التي تؤله وتقدس السلطة القائمة والتي تسهم بقوة في ردود فعل سلبية من المواطنين الموالين للسلطة قِبل المعارضين، لتلك الأدوات والتوصيفات التي تستخدمها قنوات النظام وصحفه.
خياران كلاهما مر
التحليل السابق يعني أن النظام الحاكم بين خيارين يحكمان سيناريوهات المستقبل بالنسبة للمشهد السياسي المصري، الخيار الأول هو فتح المجال السياسي، وهو ما لا يستطيع السيطرة عليه ولا يرغب فيه، لتزايد المعارضين له يوميًا، قياسا على فشله في إدارة الدولة، والخيار الثاني هو استمرار حالة اللااستقرار، وهو ما قد يعني خروج التظاهرات عن السلمية، وهو ما بدأت بوادره في الظهور مؤخرًا، ما يضر بالجميع، لذلك بات أمامنا احتمالات ثلاثة لا مناص منها، وهي:
روح يناير
السيناريو الأول: هو ظهور تحالفات تستعيد ذكرى يناير، ممثلة لكل القوى السياسية بالبلاد سواء الإسلاميين أو الليبراليين أو غيرها من الفصائل، وهو أمر بعيد حاليًا لتفرد كل قوة من تلك القوى بقراراتها وتوجهاتها وعدم رغبتها في الحوار وعدم قدرتها على المواجهة، وتنتظر فقط الهبوط على أي هبة شعبية مقبلة، لتحقيق مكاسبها خوفًا من مواجهة النظام القائم وجبروته.
المشهدان السوري والليبي
أما السيناريو الثاني: وهو القائم حاليًا والذي يتمثل في انفراد القوى الإسلامية بالمعارضة ومعاداة باقي القوى، وهو ما يصعب عليها الموقف، لأن أسلمة الصراع مع السلطة القائمة يثير في الأذهان الوضع السوري والليبي، وهو ما يرعب بعض المواطنين الذين سيفضلون فاشية النظام القائم حاليًا، على دموية الموقف في ليبيا وسوريا.
تجربة الجزائر وشرعية الإنجاز
فيما يعتبر السيناريو الثالث الأقرب للتحقق: وهو تمكن النظام القائم من التفرد تمامًا بالسلطة لفترات طويلة، اعتمادًا على مبدأ فرض الاستقرار، ومحاربة الإرهاب، كالنموذج الجزائري مسبقًا، وهو السيناريو الذي بدأت عناصره في الخفوت تباعًا، بعد فشل الحكومة في تسويقه محليًا ودوليًا، بالإضافة لمعاناة المواطنين التي تتزايد يوميًا اقتصاديًا ومعيشيًا، وانتشار الفقر والبطالة والغلاء، ما يعني في حالة حدوثه أن يتسبب النظام في انهياره من الداخل، بعيدًا عن أي حراك معارض داخليًا أو خارجيًا، لأن شرعية الإنجاز فقط هي الشرعية الوحيدة التي يؤمن بها أي شعب، والنظام القائم لم ولن ينجز أي مطلب شعبي خلال فترة حكمه.