صمويل هينتنيغتون صاحب الكتاب الشهير “صدام الحضارات” هو أيضًا من رواد نظرية التحول الديمقراطي خصوصًا ما قام بتسميته مع آخرين بالـ Third Wave أو الموجة الثالثة للتحول الديمقراطي التي ربط من خلالها عملية التحول الديمقراطي بعوامل ثقافية ومجتمعية، حيث توقعت هذه النظرية أن تقوم الثورات الإصلاحية التي تطالب بتعزيز وتوطيد أفكار ومبادئ الديمقراطية في عدد من دول شرق أوروبا وأمريكا اللاتينية مستثنيًا بذلك الدول العربية بحجة أنها دول تدين بالإسلام وأن هذا الدين يضع عوائقًا أمام تجربة التحول الديمقراطي.
قام عدد من الباحثين بدراسة لهذه النظرية لمعرفة طبيعة العلاقة بين الدين والديمقراطية وتوصل عدد منهم إلى أن بعض الأديان ومنها الدين الإسلامي لها تأثير سلبي على عملية التحول الديمقراطي، فيما استنتج آخرون أن الأدلة الإحصائية لهذا الجدل الدائر منذ سنين ما زالت مبهمة، فيما كانت هناك دراسة بحثية تقول إن العالم العربي يوجد به عدد من المظاهر المجتمعية التي قد تشكل عائقًا أمام أي عملية تحول ديمقراطي وهي الولاءات القبلية التي تشكل تحديًا أمام تأسيس تيارات سياسية وطنية تقوم بتمثيل شعبي حقيقي، وأيضًا المجموعات الطائفية في عدد من هذه البلاد التي تقوم بتنفيذ أجندات طائفية على حساب المصلحة الوطنية وأخيرًا أن عدد غير قليل من الدول العربية هي دول ملكية غنية وهذه الدول ستقف كحائط صد أمام أي محاولات إنجاح عملية التحول الديمقراطي في الدول العربية.
في البحث المنشور في مجلة الديمقراطية الدولية بعنوان “نظرية التحول الديمقراطي والربيع العربي” يقول الباحثان ألفريد ستيبان وجوان لنز ردًا على ما جاء به هينتينغتون ورفاقه إن عددًا ليس بقليل من الدول المسلمة التي تعايشت مع العملية الديمقراطية وعززت مبادئ التحول الديمقراطي في بلدانها تثبت أن وجهة نظر هينتينغتون عن أن الإسلام يشكل عائقًا أمام عملية التحول الديمقراطي هي خاطئة بشكل كبير، فإذا أحصينا عدد المسلمين الذين يعيشون في أنظمة ديمقراطية مثل تركيا وألبانيا وأندونيسيا والسنغال وجدنا أن ثلاثمائة مليون مسلم حول العالم قد قاموا بممارسة ناجحة للتجربة الديمقراطية وإذا أضفنا المائة وثمانين مسلم الذين يعيشون في الهند نصل إلى أن ما يقرب من نصف مليار مسلم حول العالم خصوصًا في السنوات العشر الماضية يعيشون تحت حكم ديمقراطي بامتياز.
العام الماضي شاركت في ندوة ثقافية عن التحول الديمقراطي في العالم العربي وقام المتحدث وهو من خلفية إسلامية بشن هجوم لاذع على الشعوب العربية معتبرًا أن الشعوب العربية قد فشلت في أول اختبار لها وأن الشعوب العربية، حسب قوله، قد استمرأت حياة الذل والهوان والاستعباد وأن ما يحصل في بلادنا العربية من تراجع للحركات الثورية وتنامي لقوى الاستبداد وغياب الأمل في صناعة عملية تحول ديمقراطي حقيقية هو نتاج تخاذل شعبي بالدرجة الأولى الذي سكت عن الانقلاب في مصر وأعاد للسلطة أحد أعمدة نظام بن علي في تونس واتخذ موقفًا سلبيًا من انقلاب الحوثيين على الثورة اليمينة وغيره.
لا أعلم ما هو الدور التي كانت تريده النخب العربية من الشعوب للقيام به أكبر من الدور الحقيقي الذي بالفعل قامت به شعوبنا العربية، المطلوب من الشعوب أن تتحرك وتثور لتقول للمستبد لا، الكلمة التي قالتها كل الشعوب الثائرة من قبل منذ تجربة الثورة الفرنسية وحتى الثورة الأوكرانية قبل عامين، خرجت الشعوب العربية إلى الشوارع، تظاهرت، اعتصمت، استبسلت، وقدمت من التضحيات الكثير الكثير وامتلأت شوارع كثير من الدول العربية بدماء ثوار أبنائها في السويس وبنغازي وسيدي بوزيد وصنعاء وحمص ودرعا، ثم قيل للشعوب العربية بعد نجاح مرحلي لبعض الثورات أن تنزل للشارع للمشاركة الأولى في عملية التحول الديمقراطي المنشود عبر التصويت في الانتخابات البرلمانية والرئاسية ونزلت الشعوب، أبدًا لم تتخاذل الشعوب العربية في مراحلها الأولى وسلّمت الشعوب للنخب العربية ثوراتها على طبق من ذهب بل واستأمنتها على حق التصرف فيها.
أبدًا لم تتصرف النخب العربية بمسؤولية أمام الأمانة التاريخية التي تم تحميلها إياها وبدل أن تكون النخب العربية خصوصًا في مصر وليبيا واليمن رافعةً لثورات شعوبها، واعيةً لتبعات المصالح الداخلية والخارجية التي تضررت بفعل الثورات والتي كانت بحاجة إلى طمأنة تارة وإلى مواجهة بلحمة حقيقية تارة أخرى خصوصًا في المراحل الانتقالية الأولى للثورات، رأينا نخبة عربية متشرذمة منقسمة على نفسها، تضع نصب عينيها تحقيق أهداف مرحلية قصيرة المدى عن طريق التنافس على مناصب ووزارات وحكومات قد أقروا بأنفسهم قبل المنافسة عليها بأنهم على وشك الدخول في مضمار انتحار طوعي، وغابت فلسفة تحقيق المصلحة الأكبر بل الأعم والأشمل والأطول مدى وهي تعزيز المفهوم المجتمعي للتحول الديمقراطي والتداول السلمي للسلطة وهذا ما يفسر النجاح النسبي للتجربة التونسية دون غيرها.
تناقض غريب وشيزوفرينيا حقيقية وتصرفات ومواقف صادمة من ثوار في حق رفقاء دربهم في ميادين الثورة وشركائهم في صولات وجولات المعارضة التاريخية ضد الأنظمة الدكتاتورية ويكفيك أن تقرأ كتاب فقه الثورة للأديب المصري يوسف زيدان الذي قام بكتابته بعد أيام من سقوط مبارك، لك أن ترى كم عدد الفقرات والصفحات التي أكد فيها أن نجاح الثورة وتثبيت دعائم التحول الديمقراطي في مصر لن يتأتى إلا بغياب العسكر نهائيًا عن المشهد السياسي المصري والعودة معززًا مكرمًا إلى حدود البلاد بعد انقضاء مهمته التي أسماها بالتاريخية، وما هي إلا شهور حتى جاءت مواقف هذا الأديب تحرق صفحة تلو صفحة وفقرة تلو أخرى من كتابه الأخرق كمواقفه الأخيرة من قبلة المسلمين الأولى، وصدق الصحفي الجزائري الذي وقف قبل أيام في وجه حمدي قنديل صاحب قلم الرصاص الشهير قائلًا “لا أهلًا ولا سهلًا بك في جزائر الشهداء يا رجل العسكر”.