لم تأتِ 25 يناير على غفلة من الزمن؛ بل كانت تتمة لتطورات منطقية: تنمية فاشلة (أو مستحيلة) ونظام عجوز وقمع أمني محسوب وابتعاد الجيش عن الواجهة واحتجاجات عمالية وطلابية واسعة على تردي الخدمات وغياب عدالة التوزيع والخصخصة والفساد والتزوير وغلاء الأسعار وحركة سياسية معارضة تتحدث عن التغيير ورحيل النظام ورفض التوريث وبنى سياسية جديدة تتبنى التغيير فوق الدستوري بعد انسداد مسارات الإصلاح الدستوري وانفتاح مساحات التواصل والتظاهر والحشد الجماهيري وغياب الفزّاعات.
خرج نشطاء للميدان ضمن الجموع الشعبية إلا أنهم احتفظوا لأنفسهم بأحقية التمثيل للثورة وادعاء الفضل عليها لا نسبة الفضل إليها، وحين أعلن المجلس العسكري تولي السلطة ورحيل مبارك خرج الجميع من الميدان فيما يشبه الإجماع النادر بين قوى ومجموعات وجموع الثورة بالخروج من اعتصام التحرير والقبول بالمجلس العسكري شريكًا للثورة في إدارة المرحلة الانتقالية.
كان ثمة استثناءات كنت شاهدًا عليها لأشخاص معدودين رفضوا التسليم بهذه الصيغة وأبوا الخروج من الميدان حتى أجبرهم البلطجية على مغادرة التحرير يوم 13 فبراير بلا حماية ولا غطاء من جماهير المعتصمين بعد “ثورة ناجحة!”، لكن الخروج من الميدان ولقاء المجلس العسكري في منتصف الطريق والتسليم بالشراكة الثورية – العسكرية بعد تنحي مبارك وإدارة المرحلة بالتوافق بين الشريكين الثوري والعسكري بعد إخلاء الميدان حدث بما يشبه الإجماع بين أبناء التحرير بمختلف أطيافهم، هتف بعض النشطاء “الشعب يريد إخلاء الميدان” فور تنحي مبارك معتقدين أنهم هم الذين استدعوا الناس ويستطيعوا أن يصرفوهم، وآثر بعضهم الاحتفال فيما فضل الآخرون تنظيف الميدان ودهان الأرصفة ورثاء الشهداء، لاحقًا تبادلت هذه الأطياف المسؤولية عن هذه الخطوة وتنصلت منها واتهمت بعضها البعض بالتسليم بالوصاية العسكرية والارتماء في أحضان العسكر.
مع انفتاح احتمالات التغيير التي صحبت صعود الربيع العربي بدا واضحًا أن التغيير يتضمن انهيار عوالم قديمة رمزية ومادية، بما في ذلك تصوراتنا عن الدولة والنظم والمجتمعات والتيارات السياسية والإسلاميين والليبراليين واليسار والقوميين والروايات التاريخية حتى الجغرافيا التي تتميز عادةً بالثبات لا يبدو أنها ستستمر على خرائط المئوية الاستعمارية السابقة، صورة “الدولة” والجيش والبرلمان والقضاء والإعلام والمؤسسات الدينية كذلك تغيرت تمامًا عن صورتها لدينا قبل خمس سنوات دامية ولا زالت تتغير، فتداعت مقولات وتصورات قديمة بما في ذلك خطوط الانقسام والثنائيات (الإسلامية – العلمانية، الشباب – الشيوخ، السلفي – الليبرالي، التراثي -الحداثي…) التي حلت محلها ثنائية الثورة والثورة المضادة العابرة للتقسيمات القديمة التي لم تعد كافية لتحديد المواقف وتفسيرها والتنبؤ بها .. على سبيل المثال ثمة شباب إسلاميون ينتمون للثورة وشباب إسلاميون ينتمون للثورة المضادة وهكذا ..
وفيما كانت الموجة الأولى من الثورة مُبادِرة ضمن سياق الربيع العربي، كانت الموجة الثانية رد فعل على مُبادرة الثورة المضادة التي استعملت نفس آليات الثورة للوصول لمشهد الانقلاب العسكري بعد انتخابات تعددية ورئيس مدني منتخب، احتشد الناس في رابعة كما التحرير في اعتصام شعبي مفتوح، تتالت المجازر في رابعة كما التحرير وتمسك المعتصمون بمواقفهم طوال 48 يومًا رغم القمع والتشويه وإرهاب الدولة، لكن الجيش الذي اختار تحقيق مطلب التحرير في المرة الأولى تحول لخصم في رابعة ثم أرسل وحداته لفض الميدان وقتل المعتصمين وارتكاب المجزرة الخاتمة للاعتصام، اختار بعض النشطاء الذين ادعوا فيما قبل الانتماء للثورة أن ينحازوا للجيش والثورة المضادة وآثر بعضهم سلامة الصمت فيما لم تتوقف حركة مقاومة الانقلاب بعض فض الاعتصام وارتكاب المجزرة؛ فتوالت المظاهرات الكبيرة في كل أنحاء مصر ولم تكن أقل عددًا من تظاهرات التحرير الأولى لكنها واجهت سلطة العسكر هذه المرة عزلاء عن دعم فئات من الدولة وقطاعات دولية، بالنهاية حافظت الموجة الثانية رغم التكلفة المرتفعة على الوعي بالثورة والثورة المضادة والصراع بينهما وكشفت الحقائق الأخلاقية للجميع وأبقت الجذوة مشتعلة لكنها لم تقدر على تطوير الحراك وتعميمه لإسقاط حكم العسكر.
ما تحتاجه مصر – برأيي – هو استمرار مختلف للموجتين الأولى والثانية بتجديد في الثورة لا يكون قطيعة مع الموجات السابقة ولا تكرارًا لأخطائها، ثمة اجتهادات ممكنة لتبني المظلومين المصريين صيغة جامعة تعي بأن المظالم واحدة والظالم واحد، فالذي يهجّر ويقتل أهالي سيناء هو الذي يهمش الصعيد ومطروح والبحر الأحمر، والذي يعادي الشباب والنساء هو الذي يهدر ثروات الوطن الزراعية والمعدنية والمائية والبترولية و”يسقع” أراضيها ويحتكرها، والذي يحالف إسرائيل ويعادي أعدائها هو الذي يهمش المناطق الشعبية والعشوائية وضواحي القاهرة، والذي يعتقل قرابة الأربعين ألف معتقل مصري في سجون الحكم العسكري هو الذي قتل آلاف المصريين طوال خمس سنوات دامية في ميادين القاهرة وغيرها ولم يفرق بين التحرير ورابعة والنهضة ومجلس الوزراء ومحمد محمود وماسبيرو والعباسيتين الأولى والثانية وأحياء المطرية وحلوان والألف مسكن.
ثمة ظالم مجرم وفرعون طاغية يوزع المظالم على الجميع ، وفرقاء مظلومون متفرقون يليق أن تجتمع مظالمهم ضد ظالمهم الأصلي، وثمة حراك يمكن أن يمتد على رقعة الثورة العربية متجاوزًا المكان والزمان المفروض عليها لتبني وحدة المظالم واجتماع المظلومين ووحدة الثورة العربية مكانًا وزمانًا وأفقًا وغاية.