إن لم تكن من غزة، فإنك لا تدرك كيف تكون “الحياة بالجدول” وكيف يمكن أن تتحول لجحيم إذا ما فقدت حبيبًا بسبب “الكهرباء”، ولعلك لم تتخيل كيف تكون حياة الصم في غزة وكيف يناضلون من أجل الحياة والحب فهم ليسوا عالة على المجتمع لأنه لديهم ما هو “أقوى من الكلام” وهم ليسوا وحدهم، فغزة رغم كل آهاتها لم تخنع ولم تركع والواقع يشهد أن “غزة تعيش” رغم كل شيء، فمهما طال الظلام فهناك بصيص أمل، كذلك البصيص الذي انطلق من اليونان يومًا على صوت ثلة من النشطاء: “غزة إننا قادمون”.
حياة بالجدول
من منا لم يسمع عن أزمة الكهرباء في قطاع غزة؟ لا أحد، ولكن من منا يعي حقًا ما معنى أن تنقطع الكهرباء لساعات كل يوم؟ هل تستطيع أن تعيش بلا كهرباء كل يوم لساعات؟ في فيلم “حياة بالجدول” يصحبنا المخرج الحائز على عدة جوائز دولية وعربية أشرف المشهراوي، إلى أزقة وبيوت مدينته “غزة” لنتعرف على المعاناة عن قرب ونعيش تفاصيلها في 48 دقيقة.
نرافق عبدالعزيز أبو صفية الذي يعمل في وظيفة لا يوجد مثلها في العالم، وهي قطع الكهرباء عن السكان بشكل يومي وبحسب جدول، فنستمع لهدير مولدات الكهرباء الشبيهة بصوت “جرافة” وندخل ورشة تصليحها، في قطاع صغير عدد ورشات تصليح المولدات فيه أكثر من عدد محلات بيع اللحوم، والتي بلغت 1800.
كي نفهم حجم المعاناة أكثر، كان لا بد أيضًا من زيارة صابرين ديب لنرى كيف يدرس أبناؤها على ضوء الشمعة كما كان يفعل أجدادنا قبل اختراع الكهرباء، ولكن الكارثة الحقيقة التي ألمت بصابرين كانت في يوم انقطعت فيها الكهرباء والماء معًا، وما إن ذهب زوجها ليشغل المولد والذي كان قريبًا من صنبور مياه مفتوح، ومع تشغيل المولد عادت المياه والكهرباء معًا فأصيب بماس كهرباء وفقد حياته على الفور.
مع أن الواقع صعب إلا أن المخرج لا ينسى أن يعرفنا على شيء من روح الفكاهة التي يتمتع بها أهل غزة، فنجلس مع ثلة من أهلها في جلسة سمر على ضوء القمر، فيسخر أحدهم من “شركة الكهرباء الصينية” في غزة قاصدًا بذلك مولدات الكهرباء المزعجة ويعترف آخر أن أفضل ما في انقطاع الكهرباء أنها تجبرهم على قطع كل الأعمال والالتقاء والتسامر.
أقوى من الكلام
لا نأتي بجديد عندما نقول إن الحياة في غزة تحت الحصار ومع أزمة الكهرباء ليست سهلة، ولكن هل فكرت يومًا كيف ستكون صعوبة هكذا حياة بالنسبة للصم؟ كيف سيرون بعضهم البعض وهم يتكلمون بلغة الإشارة عندما تنقطع الكهرباء ليلًا؟ المخرج مصطفى النبيه كرس 6 أشهر ليبحث كيف يعيش الصم في قطاع غزة، من رفح حتى بيت حانون والذين يصل تعدادهم إلى 20 ألف أصم وكانت النتيجة: “أول فيلم وثائقي عربي كامل بلغة الإشارة” والذي وصل إلى حوالي 400 ألف مشاهدة على اليوتيوب وحده في النسخة العربية، عدا عرضه في أكثر من مهرجان دولي وعربي، وترجمته لأربع لغات متوفرة كلها عبر اليوتيوب.
مع مشاهدة الفيلم ستكتشف أن الصم في غزة ليسوا عالة على المجتمع كما يظن البعض مخطئين، فلديهم قدرات خاصة كما يؤكد هاشم غزال – كبير الصم في غزة – ولا بد أن يحصلوا على حقهم من الوظائف التي أقرها لهم القانون وهي 5% كما يطالب أشرف شاهين، وحتى يؤخذ القانون على محمل الجد، فإن الصم في غزة بادروا لإقامة مطعم للصم ويعمل فيه الكثير من الصم مثل رائد الترك.
رائد الترك وأمثاله، لا يناضلون من أجل فرصة عمل فقط، فهم يناضلون من أجل الحب في مجتمع لا يستسيغ زواج أصم من صماء، إلا أن رائد ونورا قررا عدم الاستسلام، ومثلهم خضر الذي يرى أن زواج أصم من صماء هو العقل بعينه، بينما هدى وأشرف اجتازا كل ذلك وتزوجا ويعيشان معًا حياة سعيدة، وقد علما ابنتهما الناطقة لغة الإشارة منذ طفولتها.
إن “أقوى من الكلام” درس للناطقين قبل الصم والبكم، في الحياة، درس في التحدي من أجل تحقيق الذات وإنجاز شيء للمجتمع كله.
غزة تعيش
لا شك أن غزة تعاني وأنها بحاجة إلى كل مناصر، ولكن كيف يتصرف أهل غزة حتى نتحرك من أجلهم؟ هل يجلسون في بيوتهم يندبون حظهم؟ بالطبع لا، في فيلمه “غزة تعيش” يكشف لنا المخرج أشرف المشهراوي أن الحياة مستمرة رغم كل شيء وأن الفلسطيني في غزة المحاصرة يقاوم في كل لحظة من أجل الحياة.
مي مثلًا، قررت أن تقاوم كل شيء لتعيش مع زوجها في غزة، وسافرت من الضفة الغربية المحتلة إلى الأردن ثم مصر حيث عبرت “طريق الموت” من الأنفاق إلى غزة، علمًا بأن الطريق من رام الله إلى غزة قد لا يستغرق ساعتين، لو كان ممكنًا السفر من رام الله إلى غزة، لكنه غير ممكن، وكعادة المخرج أشرف المشهراوي يتفنن في إدخال المشاهد إلى عمق الأحداث ليشعره وكأنه من غزة وأهلها فيقحمك مثلًا في جلسة بين عمال بناء يتحدثون عن “ابتكارات” غزة في تحويل البيوت المهدمة إلى مواد للبناء وتارة بين ثلة من نساء غزة يتحدثن في أصول تحضير المفتول الفلسطيني ثم يأخذك في رحلة صيد يطربنا فيها أحد الصيادين بشيء من المواويل الشعبية.
في لحظة ما، ستجد نفسك بين رجل وزوجته يحتفلان بعيد زواجهما على طاولة رقم 32 في إحدى مطاعم غزة الفاخرة، لتكتشف أن الزوج قرر أن يتحدى الاحتلال وأن يحتفل بعيد زواجهما الـ32 رغم كل شيء مؤكدًا: مهما فعل الاحتلال فلن يخطف بسمتنا.
من الجدير بالذكر أن فيلم “غزة تعيش”، حصل على الجائزة الأولى في كل من مهرجان الأيام السينمائية الجزائرية بعد أن تنافس مع 32 عملاً أوروبيًا وعربيًا من 17 دولية، والجائزة الأولى في مهرجان الشباب والحرية الدولي للأفلام التسجيلية في فلسطين عام 2011.
غزة إننا قادمون
بعد فيلم “حياة بالجدول” و”أقوى من الكلام” ثم “غزة تعيش” إن لم تشعر بأن غزة قضية عادلة، وأن الوقت قد حان لتنصرها ولو بكلمة، فإن فيلم “غزة إننا قادمون” للمخرجين اليونانيين آفييروبولوس وكاريينديس سيشعرك بالكثير من الخجل، فهو يروي حكاية أول مركب أجنبي يرسو في ميناء غزة منذ أكثر من 40 عامًا والذي كان يحمل نشطاء من مختلف أنحاء العالم، قرروا فك الحصار عن غزة ولو كان الثمن حياتهم.
قد لا يجذبك العنوان كثيرًا “غزة إننا قادمون”، ولكن الفحوى بديع لدرجة أنك قد تنسى بأنك تشاهد فيلمًا تسجيليًا لتشعر أنك تشاهد فيلمًا دراميًا يطلعك على شيء من الأمل في عالم سوداوي، وحتى عندما تعود وتستمع لكلام النشطاء اليونانيين خاصة، قد تشعر أنهم فلسطينيون أكثر من كثير من الفلسطينيين، بالأخص وهم يذكرون الامتنان الذي يشعرون به كلما ذكروا كيف استقبلت غزة أهالي جزيرة كاستيلوريزو Kastellorizo اليونانية عندما نزحوا إليهم إبان قصف جزيرتهم في الحرب العالمية الثانية.
وقد حصل هذا الفيلم في سنة إنتاجه 2009، على جائزة الجمهور في المهرجان الثاني عشر للأفلام الوثائقية في مدينة سالونيك، حيث صوت حوالي 5000 يوناني لهذا الفيلم، وقد كانت الجائزة مصحوبة بقيمة مالية 10 آلاف يورو، تبرع بها طاقم العمل فور استلامها لبعثات كسر الحصار على غزة.
ولأن الطريق إلى غزة خطير للغاية وبتأثير من الموسيقى والقصص المروية على لسان أبطال الفيلم حول المخاطر التي تترصدهم، فقد ينتابك شعور بأنك تشاهد فيلم “أكشن” لأبطال حركة غزة الحرة الذين سيكسرون الحصار مهما كان الثمن غاليًا، فقد اغتيل صديق لهم حاول دعمهم بشراء مركب في ظروف غامضة، كما أنهم يعلمون جيدًا أن سفينة العودة التي حاولت الإبحار نحو غزة من قبرص تم تفجيرها عام 1988 وفوق هذا فإنهم لا يأمنون أن ينهال عليهم الرصاص بعد أن هددتهم إسرائيل بعدم الاقتراب من سواحل غزة.
لحظة الوصول إلى غزة، هي أجمل لحظات الفيلم على الإطلاق، بالأخص وأنت ترى علامات الرضى على وجوه من كسروا الحصار، وكذلك الابتسامات على وجوه أهل غزة وهم يستقبلون أول مركب أجنبي يصلهم بعد أكثر من 40 عامًا من الحصار البحري، هذه اللحظات كفيلة بجعلك تتمنى لو كنت ممن كسروا الحصار، لترى الابتسامات على وجوه فلسطينيين ولدوا ممنوعين من السفر أو من أن يستقبلوا أي أحد.
يمكنك مشاهدة أجمل لحظات فيلم “غزة إننا قادمون” من خلال موقع ريمكس فلسطين التالي: هنا
هذا الموقع التفاعلي الذي يضم الأفلام الأربعة عن غزة، والتي أشرفت على إنتاجها من الفكرة إلى ما بعد الإنتاج مشرفة الموقع المخرجة الفلسطينية روان الضامن، قد لا تستطيع روان ولا أنت ولا أنا أن نسافر لغزة، لكن المؤكد أن مشاهدة هذه الأفلام ستجعلك تعيش غزة وتجعل غزة تعيش معك طويلاً.