عندما أصبح ميدان التحرير مكانًا آمنًا بعد انسحاب الشرطة في الثامن والعشرين من يناير وانتهاء أيام العنف الأولى من انتفاضة يناير التي بدأت يوم الخامس والعشرين، بدأت المرأة المصرية في الظهور داخل ساحة ميدان التحرير في مجموعات يعتبرن من الأقليات النسوية التي كانت تتظاهر خلال عقود مبارك وخاصة بداية من 2005 ضد العنف تجاه المرأة وحقوقها المهضومة اجتماعيًا وسياسيًا، وبعد انتهاء الانتفاضة عادت المرأة المصرية للواقع الذي يفرض عليها الظلم الاجتماعي والسياسي منذ عقود والذي تناضل من أجله النساء منذ الحركة النسوية التي قامت بتأسيسها هدى شعراوي في الخمسينات من القرن الماضي.
بعد انتهاء ذلك الحماس الشعبي عادت المرأة المصرية للواقع السياسي الذي لا يعترف بأهمية مشاركتها في السياسة وتقلد المناصب السياسية في المؤسسات الحكومية، كما عادت للتمييز الاجتماعي الذي يسمح بالإفلات من العقاب بسهولة في قضايا العنف ضد المرأة في مصر، اعتبرت المرأة المصرية المشاركة في الثورة بأنها يمثابة مشاركة من أجل قضاء عادل للمرأة كما كانت قضاء عادل للجميع، فإذا كان مكسب الثورة يتلخص في شيء واحد لربما كان في تغيّر استجابة المرأة السلبية للعنف تجاهها وهضم حقها الاجتماعي والسياسي إلى المطالبة به في ساحة ميدان كانت ملكًا للشعب بعد انتفاضة يناير.
لماذا اعتصمت المرأة المصرية في ميدان التحرير؟
لأن ما تكلمت عنه برامج التنمية الخاصة بحقوق المرأة ورعايتها والتي قامت بها زوجة الرئيس السابق مبارك ما هو إلا ظاهر باطنه أضعف وأكثر فسادًا بكثير، فميزانية مجلس حقوق المرأة الذي رعته سوزان مبارك وصلت ميزانيته فيما قبل إلى 30 مليون جنيه سنويًا، كما وصلت ميزانية المجلس القومي للأمومة والطفولة إلى 80 مليون جنيه سنويًا، إلا أنها كانت كالعادة مبالغ بأرقام فلكية تستغلها سوزان مبارك في إقامة المؤتمرات والإعلانات الخاصة بمشروعاتها القومية تاركة المبلغ المصروف على حقوق المرأة الفعلي بعيد كل البعد عن الأرقام الأصلية، بالإضافة إلى التمييز الاجتماعي الذي يندرج تحت العنصرية الطبقية بين الحركة النسوية آنذاك وبين الحقيقة في الواقع قد خلق شرائح من النساء ساخطة على الواقع ولا تشعر بالانتماء للمكان الذي تعيش فيه.
شعرت المرأة المصرية للمرة الأولى بأن لها الحق في التعبير عن رأيها والمطالبة بحقها وأنها للمرة الأولى تشعر بالقوة في الاعتصام داخل ميدان التحرير وتقوم بالتعبير عن رأيها بكل حرية بدون خوف من أنها مجرد امرأة، حيث خرجت من ذلك الإطار الذي أجبرها النظام المصري على البقاء فيه لعقود من الزمن، لدرجة أنها أصبحت تعترف بتمتعها بالمنصب الدوني، بل وبدأت تعلمه لبناتها وصديقاتها الأخريات، ولكن كان الميدان مختلفًا، اقتربت كل فئات وطبقات المجتمع من يسارين وعلمانيين وطبقات متوسطة ومجموعات الأحزاب الدينية المختلفة من بعضها لأول مرة وشعروا بأن هدفهم واحد وهو التعبير عن رأيهم والتخلص من النظام المستمر في قهر وظلم المرأة على مختلف الأصعدة.
بدأت الحركة النسوية تعود للعمل الميداني من جديد في مصر بعد ثورة يناير 2011، وسجلت مشروعات خاصة مثل مشروع “نظرة” الذي اهتم بتسجيل حالات الاغتصاب الجماعي والتحرش في ميدان التحرير والتي بلغت 500 حالة منهم 50 حالة تم اغتصابها على يد عناصر من الشرطة والجيش على مدار أربع سنوات من الثورة، واستمر عمله من 2011 وحتى 2014 في توعية المرأة المصرية بالحركة النسوية “Feminism” وبدورها الاجتماعي والسياسي بعد الثورة، كما قاموا برحلات للمدارس لضم فتيات المدارس الابتدائية والإعدادية معهم في معسكرات تقوم بنشاطات خاصة بالحركة النسوية ودورات تعليمية.
استمرت الحركة النسوية في نشاطها الذي اختلف تمامًا عن نشاطها أيام حسني مبارك، فأيام سوزان مبارك كانت النسوية حركة عنصرية بحتة، تقوم بتصنيف النساء وكذلك بتصنيف حقوقهم على حسب هوياتهم أو طبقاتهم، فكانت تعمل الحركة على إعطاء مفهوم خاطئ وعنصري عن هوية المرأة المصرية التي تتمثل في المرأة العصرية التي تشبه في شكلها وملابسها سوزان مبارك، وتغافلت عن المجتمع المصري الذي يضم هويات متعددة بداية من المرأة البدوية، الصعيدية، الريفية، والمرأة العصرية في المدينة.
أما الحركة النسوية فيما بعد الثورة فتعاملت بشكل مختلف وأكثر نشاطًا وأكثر فعالية، وعملت على تأصيل المكسب الذي جنته من الثورة وهو تحرير المرأة من إطار الشخصية الدونية أو المهمشة في المجتمع المصري، وإبرازها لساحة المجتمع التي أهملتها لعقود من الزمن.
إلا أن الأمر لم يكن ورديًا لفترة كبيرة من الزمن، فمع تولي المجلس العسكري زمام الأمور بعد تنحي مبارك، استمرت الانتهاكات ضد المرأة بشكل أكثر قسوة وعنفًا، لتظهر للساحة أساليب جديدة منها كشوف العذرية والفحص المهبلي التي اشتهرت بها قوات الجيش المصري، والذي يقوم بها أفراد الجيش بطريقة مهينة للفتيات المعتقلات في تحديد وتسجيل عذريتهن لكي لا يتم اتهامهن بعد ذلك باغتصابهن من قِبل قوات الجيش، والتي انكرتها العديدات من النساء المدافعات عن الحركة النسوية لمصالح سياسية تتفق مع مصالح الجيش.
ماذا حدث لنساء مصر في عهد ما بعد الثورة؟
استطاعت الثورة المضادة بجدارة تهميش بل تدمير كل ما رسخته الثورة من مبادئ ناضلت من أجلها النساء طويلًا، فبدت انتهاكات أفراد الشرطة والجيش معًا للمعتقلات السياسيات أمرًا مقبولًا من بعض مؤديات الحركات النسوية ومن بعض مؤيدات الانقلاب العسكري في 2014 من السيدات أنفسهم، لتنقسم النساء من مؤيدات الحركة النسوية وغيرهن إلى قسم يلقب نفسه بنساء ضد الانقلاب والجزء الآخر يؤيد الانقلاب في انتهاكاته ضد المرأة باعتبارها أمرًا مقبولًا للمعتقلات السياسيات من يعملن على تهديد الأمن والاستقرار، لتأتي مصر بعد مرور عام على الانقلاب بتصنيف الأسوأ عربيًا في معاملة المرأة والأكثر قمعًا لحريات الصحافة والتعبير، فلم نعد بعدها نسمع أصواتًا للحركات النسوية في الاعتراض على الإعدامات المطبقة على العديد من المعتقلات السياسيات بدون تُهم واضحة.
ما يحدث في السجون المصرية للمعتقلات السياسيات أكبر دليل على عودة المرأة للشخصية المهمشة في المجتمع المصري ومحاولة النظام حبسها داخل ذلك الإطار لتعود للنساء المصريات لفكرة الخوف من التعبير عن الرأي والمطالبة بالحريات كما كان يحدث في عهد مبارك، والدليل على ذلك إذاعة حالة الانتهاك رسميًا على التلفزيون المصري كما حدث في حالة الاغتصاب الجماعي في ميدان التحرير أثناء مظاهرات 30 يونيو، أو كما يحدث على مواقع التواصل الاجتماعي الذي سجل ودشن أكثر من حملة للمطالبة بوقف الانتهاكات الجسدية والجنسية ضد المعتقلات بدون أي خوف أو قلق من النظام على فضح جرائمه.
توقفت الحركة النسوية تمامًا عن العمل عندما يأتي الأمر للقتلى النساء في محيط رابعة العدوية، أو للسجينات اللاتي يتعرضن للإهانة مثل أماني حسن التي تعرضت للشلل الكامل نتيجة للضرب المبرح، أو لهند ورشا منير الأختان المحكوم عليهما بالإعدام بتهمة الانضمام لجماعة إرهابية، أو إسراء الطويل الفتاة العاجزة جزئيًا عن الحركة نتيجة إصابتها بالخرطوش في أحداث ذكرى الثورة الثانية واختفاءها القسري من قبل الشرطة واحتجازها لمدة زادت عن سبعة أشهر بعد اختفائها القسري واختطافها قبل أن يتم الإفراج عنها مع الإقامة الجبرية داخل مصر.
أصدر تنظيم نساء ضد الانقلاب تقريرًا يرصد فيه حالات الانتهاكات ضد المرأة بعد مرور عام على تولي السيسي الحكم، سجل فيه 1500 حالة اعتقال، 75 حالة قتل خارج نطاق القانون، و20 حالة اغتصاب بالإضافة إلى جرائم الاختطاف والاختفاء القسري وحالات الاعتداءات داخل الجامعات المصرية بحسب تقرير لقناة الجزيرة.
التحول الأكبر الذي واجهته المرأة المصرية بعد الثورة هو كشف الحقيقة الكاذبة للحركة النسوية التي ظهرت مؤخرًا بعد الثورة، والتي انحازت سياسيًا بعد الانقلاب العسكري للسياسة وتناست مبادئها الأصلية التي ناضلت من أجلها أيام حسني مبارك، بالإضافة إلى وجود عدو جديد غير الشرطة والجيش والمؤسسات المهمشة للمرأة بعد الثورة، ذلك العدو يتمثل في المرأة نفسها التي تطالب بتنحية غيرها من النساء ممن لا يتفقن سياسيًا مع النظام الحاكم أو بتهميش بعض الفئات الموجودة في المجتمع المصري، أو التي توافق على الانتهاكات الحادثة لغيرها من النساء وتقبل الانفلات السهل من العقاب على تلك الجرائم المرتكبة بحق المعتقلات السياسيات.