عقارب الساعة تتأرجح يمينًا ويسارًا تقترب من الخامسة بعد فجر الثلاثاء الموافق 25 يناير 2011، وها هي السماء التي كانت بالأمس ملبدة بالغيوم تراها اليوم صافية مشرقة، ونسائم الصباح الحانية تداعب زقزقات العصافير على فروع الأشجار، في أجواء تنبئ عن حدث غير عادي، وهذا الشاب المفعم بالقوة والأمل الذي اعتاد الاستيقاظ عقب صلاة الظهر، ها هو ينتفض مبكرًا على غير العادة، بسمته المشرقة تغتال خموله اليومي، وحماسه الفواح يزيل من عليه كل روائح اليأس والإحباط.
محمد عمر، ابن محافظة الشرقية، بجمهورية مصر العربية، هذا الشاب صاحب الـ 26 عامًا، والذي عُرف عنه الصبر وقوة التحمل، الطالب بكلية الإعلام بنظام التعليم المفتوح، والذي كان يراوده حلم الالتحاق بالصحافة، حيث كان يرى فيها المرآة الحقيقية للمواطن لمراقبة أداء الحكومة الفاشلة، وفضح ما يمارسه النظام القمعي الفاسد من انتهاكات لآدمية المواطن، لاسيما وهو الذي طالما عانى من هذه الاختراقات أكثر من مرة خلال زيارته لشقيقه الأكبر بالهرم، حيث حل ضيفًا لعدة مرات على سجون الجيزة والدقي عقب توقيفه من اللجان المنتشرة بطول شارع الهرم وميدان الجيزة، بسبب أنه يحمل هوية مدون بها أنه من قاطني الشرقية، إلى الحد الذي دفعه يومًا لسؤال ضابط اللجنة: “هو أنا محتاج تأشيرة دخول عشان أزور الجيزة أو القاهرة ؟”، وهو ما استفز الباشا بطبيعة الحال، وأقسم أنه لن يعود لبيته مرة أخرى، وهكذا اعتاد محمد زيارة أحد السجون مع كل مرة يزور فيها شقيقه.
استيقظ محمد من نومه متفائلا على عكس العادة، بدأ يرتدي “جاكته” الرمادي، ويضع فوق رأسه “الكاب” الأسود، بنشاط لم يعتدْ عليه، وبصورة لفتت نظر والدته الخمسينية والتي سألته عن سبب هذا التفاؤل، فأجابها بضحكاته العالية المعروفة عنه: “اليوم يا أمي نقول لا لكل ما يحدث، اليوم نعبر عن رأينا بحرية وبقوة، اليوم نطلق الشرارة الأولى لاقتلاع هذا النظام الفاسد، سأسافر للقاهرة لمشاركة زملائي في النزول بميدان التحرير للمطالبة بحقوقنا”، وهنا قاطعته والدته: “اهدأ يا ولدي هذا الكلام من الممكن أن يضر أكثر مما ينفع”، وهنا انتفض “أبو عمر” كما كان يلقب قائلاً: “يا أمي لا تقلقي، هل يعجبك ما نحن فيه؟ الأمور تسوء يومًا بعد يوم، شلة الحرامية خربوا البلد، نهبوا ثرواتها، وأنا وأمثالي من يدفع الثمن، لو لم نتحرك الآن يبقى خلاص عليه العوض، يا نعيش بكرامة يا أمي يا نموت”.
وأمام هذا الإصرار المقوى بأسنة التحدي لم تنجح محاولات الأم ومفاوضاتها المستميتة في إثناء ولدها عن الذهاب للقاهرة، وعقب الانتهاء من تجهيز أموره، وتحضير شنطة سفرة، إذ بالأم تضم ولدها إلى صدرها بحرارة تحرق معها أفئدة الظالمين، وبقوة تسقط أركان هيبتهم وجدران فسادهم، وتودعه قائلة: “خلي بالك من نفسك يا ولدي، لا إله إلا الله”، ويجيب محمد ودموعه تغمر حروفه: “محمد رسول الله، دعواتك يا أمي”، وينطلق محمد من بيته متوجهًا إلى القاهرة حيث ميدان التحرير.
استقل الشاب المتشح بتلابيب الأمل في تغيير الواقع المر، سيارة الأجرة من بلدته متجهًا للقاهرة وهو يحمل بيديه اليمنى شنطة سفره واليسرى علم مصر يرفرف من فوق كتفيه، وإذا به يفاجأ أنه ليس وحده من قرر الاستجابة لدعوات التظاهر، فهناك ما يقرب من خمسة شباب من بلدته يستقلون نفس السيارة، فهذا الشيخ أحمد الدرعمي مدرس اللغة العربية، ومحمد كسبر الموظف بالضرائب العقارية، إضافة إلى محمد السباعي المحاسب بالصحة، وما إن رآهم محمد إلا ولمعت عيناه من السعادة فهم رفقاء الدرب وشركاء الكفاح، وتلاحم الشبان الأربعة بالأحضان في مشهد أثار تعجب من في السيارة، فإذ بهم يسألون عن وجهتهم لاسيما وهم جميعًا يحملون بأيديهم أعلام مصر، وكانت الإجابة: “ذاهبون لنعيد الوطن المسلوب من لصوصه”.
وهنا تبادل الشباب الأربعة دوافع مشاركتهم في هذه التظاهرات بصوت ممزوج بأنًات الحسرة والألم، فهذا سُلب حقه، والآخر انتُهكت كرامته، والثالث وقع ضحية ظلم واستبداد.. إلخ.
أربع ساعات كاملة قضاها أبو عمر برفقة أصدقائه في الطريق إلى ميدان التحرير، وإذ به يرى في طريقه العشرات من الشباب والفتيات كل قد حمل علم بلاده في مشهد يشبه مباريات كرة القدم بين الأهلي والزمالك، الشوارع القريبة من القاهرة وقد غطتها الألوان الحمراء والبيضاء والسوداء، النظرات اللامعة التي تضئ عيون الشباب المنتشي بروح التغيير، الكل يرفع شعارًا واحدًا، ويردد نداءً واحدًا “على الميادين كلنا رايحين”، وما إن وطئت أقدام أبو عمر ثرى التحرير إذا به يتنسم عبير التغيير يفوح من بين ثنايا تراب الميدان، فما كان منه إلا أن سجد لله سجدة طويلة قام بعدها ملبيًا: “نصرك اللهم الذي وعدت.. نصرك اللهم الذي وعدت”.
عشرات الشباب افترشوا جنبات الميدان في الساعات الأولى من صباح يوم الثلاثاء، شعارهم كان: “تونس هي الحل”، “يسقط يسقط حسني مبارك”، و”الشعب يريد إسقاط النظام”، وبدأت الأعداد في تزايد نسبي مما استفز قوات الأمن التي ملأت أركان الميدان، مما دفعهم للاشتباك مع المتظاهرين لكن سرعان ما تراجعوا، وفجأة ومع منتصف النهار فوجئ الجميع بانقطاع الاتصال عبر شبكات الهاتف المحمول في واقعة جاءت على عكس ما كان يأمله النظام، حيث ازداد الشباب قوة وحماسة، وبدأ شعور القوة والثبات يتسلل إلى قلوبهم، لما لا وهم على يقين أن قطع الاتصال عن الميدان ما جاء إلا لقلق الحكومة مما تقوم به هذه الثلة من خيرة شباب مصر بأكملها، وبالرغم من عودة الاتصالات في مساء اليوم الأول إلا أن الأعداد بدأت تزداد تباعًا على ميدان التحرير من كل الشوارع المحيطة، وفجأة تحول الميدان إلى قبلة يحج إليها كل الحالمين بمستقبل أفضل، لعلهم يتخلصون من دنس العقود الماضية، داعين الله أن يغفر لهم تقصيرهم وخنوعهم طيلة السنوات البالية.
وبينما جموع المتظاهرين تطوف في هدوء المستكين، إذ بخبر استشهاد ثلاثة من المتظاهرين بالسويس يشعل جنبات الميدان، ويزلزل الأرض من تحت أقدام الجميع، ليزأر الجميع في صوت واحد: “الشعب يريد إسقاط النظام”، وهنا هرول أبوعمر باتجاه رفقائه مطالبًا إياهم بالثبات ومحفزًا لهم ومؤكدًا أن ما حدث في السويس هو نقطة الشرارة الحقيقية لتكرار المشهد التونسي، وهنا تعهد الجميع على قلب رجل واحد أن يكملوا المسيرة وألا يغادروا الميدان قبل رحيل رأس النظام وإسقاطه من فوق كرسيه.
الساعات الأخيرة من اليوم الأول تلفظ أنفاسها الأخيرة بينما الأوضاع في السويس مشتعلة، والأخبار تتناقل عبر مسامع المتظاهرين فتزيدهم إصرارًا وإرادة على إكمال ما قد بدأوه، واستهل اليوم الثاني إشراقته بمواجهات دامية في السويس، حيث تحول الأمر إلى ما يشبه حرب الشوارع أسفرت عن ارتفاع عدد الشهداء إلى سبعة فضلاً عن مئات المعتقلين.
الشباب في ميدان التحرير باتوا أشبه بخلية نحل متماسكة الأركان، الكل في واحد، لا فرق بين غني وفقير، مسلم ومسيحي، أبيض وأسود، إخواني وليبرالي وعلماني وشيوعي واشتراكي، الجميع قد التحفوا برداء عشق تراب هذا الوطن، أيديهم المتشابكة، قلوبهم المتحدة، نظراتهم اللامعة، الهدف واحد، والطريق واحد، وهنا صرخ أبوعمر في قلب الميدان “الله أكبر.. ألله أكبر”، فتزلزلت الأرض من تحت أقدام قوات الأمن المنتشرة فما كان منهم إلا أن أطلقوا الغاز المسيل للدموع لتفريق هذه الجموع لكن هيهات هيهات، فأنًا للطحالب الصغيرة أن توقف سير السفن العملاقة.
لم تقتصر عدوى الثورة على التحرير والسويس وفقط، بل تعدت إلى بقية ميادين مصر ومحافظاتها، في الشرقية، المنصورة، دمياط، كفر الشيخ، المحلة الكبرى وطنطا، وبات الأمل في التخلص من هذا الكابوس – الذي اغتال أحلام أجيال تلو أجيال – على مقربة من التحقق، فقط بالصبر والتوحد يا شباب.
يقول أبو عمر: استمر الحال على ما هو عليه من المواجهات بين الشرطة والمتظاهرين حتى منتصف ليلة الخميس 27 يناير، حيث فوجئ الجميع بحملة اعتقالات واسعة، وهجوم بالرصاص الحي والمطاطي في كل ميادين الوطن، وهنا انتفض الجميع عقب صلاة الجمعة في اليوم التالي، واشتعلت ميادين مصر بأكملها حتى تمت السيطرة على بعض المناطق كالسويس والإسكندرية ليتم قطع الاتصال بكافة أنحاء الجمهورية، ومن هنا كانت البداية.
وكالعادة جاء انقطاع كافة أشكال الاتصال بجميع أنحاء الجمهورية ليضع الجميع أمام اختبار حقيقي، فما هو الهدف من وراء هذه الجريمة؟ وهل هناك مجزرة يخطط لها في غيبة تامة عن وسائل التواصل؟ أسئلة عديدة طرحت نفسها بقوة على عقول وأفهام من هم في الميادين ومن في المنازل، وما هي إلا ساعات قليلة وكانت الإجابة، زيادة المتظاهرين قوة وصلابة، وحث المتقاعسين في المنازل على المشاركة نصرة لإخوانهم من الشباب المنتفض في جميع شوارع البلاد.
وبينما المواجهات الدامية تدور رحاها هنا وهناك، إذ بأصوات المتظاهرين قرب ميدان عبد المنعم رياض تزلزل المكان وتقشعر لها الأبدان، ماذا حدث؟ أسرع أبو عمر تجاه هذا الزئير وإذ به يرى مبنى الحزب الوطني قد اشتعل عن آخره، الله أكبر..الله أكبر، وفجأة تحول الميدان إلى صوت واحد على قلب رجل واحد “الشعب يريد إسقاط النظام”، وهنا فوجئ الجميع بمدرعات الجيش تنتشر في جنبات ميدان التحرير وبقية ميادين مصر بعد الانسحاب المفاجئ لقوات الشرطة.
وهنا يقول أبو عمر: كنا في ميدان التحرير أسرة واحدة، بعضنا يحرس البعض الآخر، صغيرنا يدافع عن كبيرنا، كل كان له دور يقوم به، فهذا يقوم بدور الصحفي الذي ينقل لها أخبار المحافظات الأخرى، والآخر يقوم بدور رجل الأمن الذي يحمينا بينما نحن نيام، والثالث يستطلع الأجواء العامة في الميدان ليتحد الجميع على قلب رجل واحد، والرابع يراقب قوات الأمن من بعيد خشية الهجوم علينا في أي وقت، والخامس ينظف المكان الذي كان فيه، ثم نتبادل الأدوار فيما بيننا، وكنت أنا أتكفل بالحماية تارة، وبالذهاب لإحضار الطعام من بيت شقيقي في الهرم تارة أخرى، كنا نتقاسم الوجبة الواحدة في مشهد لم تره قط عين إنسان، بل وصل الحد إلى تنازل بعضنا عن حصته في الطعام لأجل الآخر، بعض المسيحيين المعتصمين معنا كانوا يتناوبون الحراسة علينا أثناء الصلاة، حتى حين أقدمت قوات الأمن على رشنا بالمياه ونحن نصلي كان أول من دافع عننا هم إخواننا الأقباط، كنا لحمة واحدة، جسد واحد، فكر واحد، لا صوت كان يعلو فوق صوت المعركة، الشعب يريد إسقاط النظام.
وبينما تشتعل ميادين مصر بالمتظاهرين، مواجهات مع الشرطة تارة، مع الجيش تارة أخرى، ومع البلطجية الممولين من رجال أعمال الحزب الوطني تارة ثالثة، ومع بداية يوم الأربعاء الثاني من فبراير، فوجئ الآلاف من الشباب المعتصم بالتحرير بهجوم عشوائي من عشرات الخيول والجمال تقل بلطجية بالسيوف والسياط يضربون بها المتظاهرين في محاولة لتفريقهم بعدما زادت الأعداد بشكل استفز القيادة السياسية وأفقدها التوازن، وهنا يشير أبو عمر إلى أنه كان في هذا اليوم مسؤولاً عن مراقبة قوات الأمن من الجيش والشرطة، وكانت جنبات الميدان كلها تحت رقابة اللجان الشعبية من الشباب المتظاهر إلا جانب واحد فقط كانت مدرعات الجيش موكلة بحمايته تجاه كوبري قصر النيل، مؤكدًا أن الخيول والجمال قد دخلت الميدان من هذا الجانب بعد أن تنحت قوات الجيش رويدًا رويدًا، وأبعدت مدرعاتها للخلف قليلاً تيسيرًا لمرور البلطجية.
ما أجمل أن تتحول المحن إلى منح، والرصاصة التي لا تقتل تقوي، وإذا أراد الشعب يومًا الحياة فلا بد أن يستجيب القدر، كانت هذه العبارات هي المحصلة النهائية بعد مواجهات دامت ما يقرب من ستة عشر يومًا قضاها المتظاهرون في مواجهات مع الأمن هنا وهناك، تخللها وعود كاذبة عبر بيانين ألقاهما مبارك لتخدير الشعب مرة أخرى، لكن الجموع الفطنة الواعية رفضت كل أنصاف الحلول، وبات الجميع في انتظار الحل الوحيد، رحيل مبارك.
مرت جمعة الرحيل 4 فبراير، دون أن يتنحى مبارك، دقات أفئدة المتظاهرين باتت نارًا لن تتوانى أن تأكل أمامها كل ما يعترض زحفها نحو الحرية والكرامة، مر أسبوع كامل، وهاهم المتظاهرون قد أعلنوا أنها الجمعة الأخيرة 11 فبراير، أسموها حينها بجمعة الزحف أو التحدي أو جمعة النصر، وفجأة يعلن المجلس العسكري المشكل لحل الأزمة عن بيان هام لمبارك.
يقول أبوعمر إن هول المشهد وقتها لا يمكن أن يوصف، زفير الملايين في الشوارع المنتفضة – والمتحمسة ضد أي تصعيد يحول دون تحقيق حلمها -حول سماء مصر إلى ضباب أفقد الجميع أي رؤية غير رؤية شبابها الأخيار، الجميع وقد وضع يده على قلبه، ها هو الحلم يوشك أن يكتمل، ها هي شمس الحرية تداعب عيوننا من بعيد، نسائم الكرامة باتت تداعب أنوف المتعطشين، صوت مصر الوطن الأم الحنون بات يتسلل للآذان من بعيد.
ومع الساعة السادسة ودقيقتين مساء يوم الجمعة 11 فبراير، يخرج عمر سليمان ليعلن تنحي مبارك عن السلطة وأن يتولى المجلس الأعلى للقوات المسلحة إدارة شئون البلاد، وفجأة اكتست شوارع مصر بأعلامها واكتظت الميادين بشبابها، في مشهد أبهر العالم أجمع وشهد له القاصي والداني.
بين صراخ الانتصار ودموع الفرح وعناق المحبين عاشت مصر ليلة كتبها شبابها بدمائهم الزكية الطاهرة، سطروا خلالها تاريخًا بأحرف من نور، علًموا العالم أجمع كيف أن المصري حين يريد يفعل، وحين ينتوي يحقق، مهما طال الزمن وانقضت الأعوام.
سبعة عشر يومًا كفيلة أن تعيد رسم خارطة أرض الكنانة من جديد، سبعة عشر يومًا أخرجت من المصريين أفضل ما فيهم، المعادن النفيسة، الأصل الطيب، الروح العالية، الإخوة المنشودة، والوطنية الراقية.
غادر أبو عمر ميدان التحرير برفقة أصدقائه ملتحفين بدفء مشاعرهم ومنتشين بتاج النصر، مؤكدين أنهم لن يركعوا مرة أخرى لحاكم ظالم، ولن يرضوا بعد اليوم بفساد نظام، معاهدين الله عز وجل أن يعودوا مرة أخرى للميادين إذا ما تطلب الأمر وفرضه الواقع، غادر الجميع الميدان بعدما أعادوه مرة أخرى لؤلؤة متألقة في الشكل والمضمون، غادر الجمع ولسان حالهم: تخلصنا من الرأس وسنواصل استئصال بقية الجسد، والميدان ليس ببعيد، اللهم لك الحمد.