مرت خمس سنوات على الحدث الأبرز في العقود المصرية الأخيرة، هذا الحدث الذي ينادي البعض باستمراره، بينما يراه الآخرون مؤامرة على الدولة المصرية، إنها ثورة الخامس والعشرين من يناير التي دُونت صفحات تاريخها بيد الشباب على مواقع التواصل الاجتماعي.
من يلملم شعث هذه التدوينات؟ من يكتب الحقيقة؟ من يكتب التاريخ؟ الدولة في دستورها الرسمي تعترف بثورة الخامس والعشرين من يناير لكن النظام الحاكم ورجاله لا يرونها سوى فترة سوداء حالكة في تاريخهم، وربما تطرف البعض منهم وأفصح عن مكنوناته بوصفها “25 خساير” كما يروق لهم تسميتها.
هذه الدولة التي تعترف بالثورة على الورق لا توجد بداخلها محاولة رسمية لتوثيقها وتأريخها عبر الوثائق الرسمية منذ فترة اندلاعها وحتى اللحظة مرورًا بكافة الأحداث التي تلت الشرارة الأولى في 25 يناير 2011.
الدولة تنتظر أوامر النظام لتكتب تاريخ المنتصر
البعض يرى أن النظام الحالي ليست لديه أي رغبة في ذلك، وربما ترك الوعي الجمعي الشعبي فريسة لبقايا نظام مبارك لترسيخ سرديتهم للثورة، فحماس وحزب الله هما السبب الرئيسي خلف أحداث اقتحام السجون، وثمة عملاء وممولين من الخارج شاركوا في خلع نظام مبارك عبر الفوضى، وجماعة الإخوان المسلمين هي من قتلت المتظاهرين في كافة ربوع مصر، فهذه هي السردية ذات الحظوة لدى النظام المصري الحالي.
عمار علي حسن الباحث السياسي أكد في تصريحات صحفية سابقة له أن هناك تآمرًا على محاولات توثيق أحداث ثورة يناير منذ بدايتها، مضيفًا أنه لم يكن هناك إرادة سياسية لذلك، مشيرًا إلى أن هناك اجتهادات فردية من البعض لتوثيق ثورة يناير.
ما حاولنا التركيز عليه هذه العمليات الفردية غير الرسمية لتوثيق أحداث الثورة والتأريخ لها في غياب الدور الرسمي التام للدولة في هذا، والذي يعتقد البعض أنه دور ينتظر المنتصر من الأنظمة المتعاقبة ليعبث في التاريخ كيفما يشاء، أو هكذا جرت العادة.
بل إن الدولة تحجب الآن أهم الوثائق الرسمية للأحداث التي جرت في هذه الفترة من محاضر اجتماعات رسمية، ولجان تقصي حقائق، وتسجيلات صوتية ومرئية لقيادات أمنية، وأرشيف كامل من المستندات غير المصرح بالاطلاع عليها من قِبل الباحثين أو الصحفيين.
ووصل الأمر إلى إتلاف هذا الأرشيف إبان الثورة وما تلاها من أحداث، كقيام عناصر أمن الدولة بعملية “فرم” للمستندات داخل الجهاز، والقضية الشهيرة التي أدين فيها ضابط برتبة لواء بتهمة إتلاف أدلة أثناء التحقيق فى وقائع قتل المتظاهرين أثناء الثورة، حيث أتلف اللواء حسين سعيد موسى الأسطوانة المدمجة التي تحتوى على جميع الاتصالات الهاتفية لقوات الأمن المركزي خلال تلك الأحداث، وذلك أثناء عملية تفريغ محتوياتها، وقد برر الأمر أمام النيابة بالخطأ غير المتعمد.
إذن لم يتبق أمام هذه المبادرات إلا الاعتماد على مصادر ضئيلة لتأريخ وتوثيق هذه الفترة المهمة من تاريخ البلاد، وقد كانت المفاجأة أيضًا أن بعض هذه المصادر قد جرى مسحها بطريقة غير مفهومة، حيث اعتمد بعض الباحثين على أرشيف الصحف التي غطت أحداث الثورة بالأخبار والصور والمقالات والتحقيقات والتقارير إلا أنهم فوجئوا بعدم استطاعتهم العودة إلى الأرشيف الإلكتروني لهذه المواد المتعلقة بفترة الثورة بالتحديد.
أرشيف الصحف تم العبث به
أول من فتح باب هذه القضية هو الباحث عبده البرماوي أحد المهتمين بالتأريخ لثورة يناير. تواصلت نون بوست مع البرماوي حيث ألقى الضوء على إثارته لموضوع حذف الصحف المصرية لأرشيفها عن الثورة، والذي التقطته بعض المنصات الإلكترونية، لتكتب عنه بعد ذلك. وسرد لنون بوست بداية القصة حين كان يعمل ضمن مشروع بحثي لتوثيق الثورات العربية، وفيه أحداث يعتمد في توثيقها بالأساس كإحالة مرجعية على أخبار مأخوذة من المواقع الإلكترونية للصحف.
وكانت الصدمة خلال مراجعة هذه الإحالات في المادة بعد مضي فترة على كتابتها أن غالبية هذه الأخبار غير موجودة. لوحظ هذا الأمر لدى صحف بعينها، فيما الحذف يتكثف على أحداث الثورة التي وقعت في عام 2011، ذلك العام الذي شهد أكثر الأحداث سخونة على الصعيد المصري. طرح البرماوي الأمر على فيسبوك فأثار موجة من ردود أفعال بين النشطاء والصحف.
في حديثه يفرق البرماوي بين فعل الإهمال الذي يلغي الأرشيف الإلكتروني للصحف، وبين جرم الإخفاء العمدي للمواد، معتبرًا الأخير عدوانًا على الحقيقة. ويؤكد في هذا الصدد على أهمية الوقوف على جوانب هذا العدوان على الحق في المعرفة، مستدركًا بأنه لا توجد التزامات قانونية على الصحف تجبرها على الاحتفاظ بأرشيفاتها، إلا أن نوعا من الالتزام الرمزي بحق القارئ في المعرفة واجب يلزمها بذلك.
علمًا بأنه لا توجد أية التزامات لدى الصحف تجبرها على الاحتفاظ بأرشيفاتها إلا نوع من الالتزام الرمزي بحق القارئ في المعرفة، وفي هذه الحالة لا توجد أي أسانيد قانونية تفيد بوقوع جريمة، لكن تكرار الأمر من صحف بعينها ولتلك الفترة بالتحديد من تاريخ الثورة، وانطلاقًا من انحيازات هذه الصحف يجعل الأمر لافتًا للنظر، بمعنى أنه عدوان حقيقي وليس إهمال عارض.
يربط البرماوي بين قرار الحذف وحالة التلون التي عمد لها بعض أقطاب الصحافة في مبتدأ الثورة لاخفاء تاريخهم، وفي مرحلة لاحقة كان التماهي مع الثورة المضادة دافعا لهذا الطمس لما يخص الثورة، وحاليًا ثمة حالة من تشكيل المخاوف من استمرار عملية حذف الأرشيف لذات أسباب “غسيل السمعة” وفي إطار التوجه العام للنظام المعادي ليناير، وهو جانب يرجح أن مبعثه استجابة واعية من بعض قيادات الصحف لاحتياج سلطوي، هذا إذا ما استبعدنا أنه لم يكن بتوجيه مباشر من النظام.
الإهمال الجسيم يعتبره البرماوي عدوانًا على الذاكرة الوطنية من جهة، وهو غير مرتبط بالصحافة فقط في وجهة نظره، بل إنه من الممكن أن يكون قد حدث مثيله في قنوات التليفزيون، ضاربًا مثلًا بتسجيلات البرامج الحوارية واللقطات الأرشيفية لأحداث الانتقال السياسي في عهد المجلس العسكري، فلا يوجد أرشيف وطني جامع لهذه المواد ولا نعرف لها مصيرًا.
يضع البرماوي الأمر في إطار “صدام السرديات” كما يحب أن يسميه البرماوي، حيث يطرح النظام سرديته المفتراة لما حدث في الثورة، ويدفع به كصيغة وحيدة، ويتوسع في الترويج له بالقول والنشر. ولديه من المقدرات ما يمكنه أن يُخفي ما لا يروق له من أرشيف وربما يقوم رجاله بهذا تطوعًا كما حدث في أرشيفات الصحف المختفية.
جهود شعبية ضعيفة
اهتمت مجموعات شبابية ممن شاركت في ثورة الخامس والعشرين من يناير بعملية كتابة وتوثيق أحداثها ولكن يرى الباحث عبده البرماوي أنها جهود فردية ضعيفة أو جهود جماعية أجهضت بسبب سوء التصميم والآلية للمبادرة أو ضعف الخبرة ومشاكل انعدام التمويل لهذه المشاريع.
كما لا يمكن أن ننفي التقصير عمن قاموا بالثورة وانشغلوا عن مسألة توثيقها وحفظ أحداثها من العبث، ما جعل قضية الأرشيفات محل صراع بين السرديات المختلفة بين الإظهار والإخفاء، في ظل استحالة وجود دور للدولة في صناعة أرشيف قومي للثورة.
هذه المبادرات والمحاولات يستحيل عليها الوصول إلى الأرشيفات الأمنية والعسكرية لهذه الحقبة، وهذا ما يجعل عملية خروج منتج توثيق شعبي في غاية الصعوبة، بالإضافة إلى أنه سيكون مفتقدًا للانضباط والفنيات المطلوبة للتوثيق.
ويكي ثورة “حتى لا ننسى”
هذه المبادرة التي اتخذت الشكل الحقوقي في التوثيق تعد أبرز مبادرات التوثيق لأحداث الثورة وما تلاها، ووفقًا لما تعتمده المبادرة لنفسها من تعريف على صفحتها الرسمية فهي “مبادرة توثيقية تقوم بتوثيق كل الأحداث متضمنة القتلى والمصابين والمقبوض عليهم والملاحقين خلال فترة الثورة المصرية نتيجة التغيرات السياسية والاجتماعية، أهدافها حرية تداول المعلومات والشفافية الكاملة، وإظهار الحقائق بطريقة حيادية لتجنب محاولات تزييف التاريخ، والمساهمة في دعم مشروع العدالة الانتقالية”.
تواصل نون بوست مع أحد أفراد فريق عمل مشروع ويكي ثورة الذي رفض الإفصاح عن هويته إعمالًا لبروتوكول المبادرة المنشور في تعريفها على موقعها الرسمي بأن ليس لديها متحدث إعلامي أو أشخاص يمثلونها، حيث أنها ليست قاصرة على فريق عمل معين، فالمبادرة ملك للجميع لتسجيل وتجميع ذاكرة الثورة من الجميع وإلى الجميع، وكل من يقوم بالحصر أو التوثيق أو تسجيل شهادته في أي مكان هو يساهم بجزء فى التوثيق، بحسب المذكور في الموقع.
تحدث هذا العضو عن بعض الصعوبات التي واجهتهم أثناء بداية عملهم مثل عملية حذف أو عدم استطاعتهم الوصول إلى بعض الأرشيفات الصحفية الإلكترونية.
وقد كان من حسن الطالع أنه حين بدأ المشروع في 2013 كانت غالبية الصحف المصرية ما زالت تحتفظ بأرشيفها الصحفي، فيما لم يعتمد المشروع فقط على الأرشيف الصحفي الإخباري، وإنما اعتبر أحد مصادر المعلومات التي تنقل في غالبيتها عن مصادر رسمية فيما يتعلق بالقتلى والمصابين إلا في حالات محدودة.
حيث اعتمد المشروع على الصفحات الإخبارية الشبابية أيضًا سواء كانت مركزية أو محلية، كما أن ويكي ثورة اعتمد على مجهودات الجهات الحقوقية والحملات الحقوقية والكيانات السياسية وما هو منشور على مواقع التواصل الاجتماعي، بالإضافة إلى وجود شبكة باحثين ومساعدين بمختلف المحافظات بحسب ما أفاد أحد أعضاء فريق المشروع لنون بوست.
كل هذا المخزون المعلوماتي الضخم يتم فرزه ومراجعته ودمجه وبناء الوقائع عليه، بينما لا توجد أفضلية في جانب الدقة والمصداقية لمصدر عن مصدر، إذ إن هناك معايير كثيرة هي التي تحسم درجات الدقة، والتي عادة ما تكون متباينة حسب نوع الواقعة نفسها التي توثق، وفي النهاية تظل، كافة المصادر لكل المعلومات أو الجزئيات الصغيرة مذكورة في ملفات الإكسل المنشورة، ومن حق كل شخص تقييم دقة المنشور بنفسه وبناء على معرفته الخاصة.
كما يرى أحد أعضاء الفريق العامل في ويكي ثورة أن المشروع لا يفرض معلومات بعينها أو رواية معينة، لأن كل المعلومات المنشورة مذكور مصادرها بالتفصيل من مختلف الأطراف، كما رفض اعتبار المشروع في سياق حقوقي فقط، وإنما يمكن اعتباره دعم لحرية تداول المعلومات والشفافية.
حدث في مصر
تعتبر هذه المبادرة هي الأحدث في عملية تأريخ الثورة وتوثيق أحداثها، حيث تأمل هذه القناة التي دشنت على موقع “يوتيوب” أن تكون المرجعية المرئية ذات المصداقية الأكبر في عملية التوثيق التاريخية، وقد بدأت القناة بنشر 126 فيديو لتوثيق الـ 18 يوم الأوائل في ثورة يناير، بعدما لوحظت عملية اختفاء هذه المقاطع الخاصة بثورة يناير من المواقع الاجتماعية بشكل غير مبرر، فيما تجاوز عدد المشتركين في القناة بعد مرور يوم على إنشائها 3 آلاف مشترك على موقع يوتيوب.
تستهدف هذه المبادرة الاستمرار على مدار عام 2016 في تأريخ الأعوام الخمسة التالية لثورة يناير حتى الوقت الحالي، عن طريق قرابة ألف فيديو، ثم تعود ابتداءً من عام 2017 لتأريخ عصر حكم مبارك وما قبله.
القائمون على القناة قاموا بتسهيل عمليات البحث والمشاهدة عليها، حيث تم تقسيم الفيديوهات لقوائم (playlists)، للمقاطع الموجودة حاليًا التي هي نتاج البحث على موقع يوتيوب وليست من إنتاج القناة، على أن تبدأ القناة في إنتاج محتواها الخاص في المستقبل.
وبالتوازي مع هذه المقاطع ستشرع المبادرة قريبًا في استخدام وسائل أخرى على الإنترنت لعرض التاريخ، من خلال صفحة على موقع فيس بوك تتضمن صورًا وإنفوجرافيكس وروابط للمادة التي لا تتوفر في الفيديوهات وتغطيات الصحف على سبيل المثال.
وقد أكدت المبادرة أنها راعت عند اختيارها لهذه المقاطع أن تكون قصيرة فى معظمها (لا تزيد عن 10 دقائق)، باستثناء الوثائقيات، كما روعي بقدر الإمكان أن تكون منشورة في وقت الحدث نفسه، بالإضافة إلى ألا يكون عدد المقاطع كبيرًا في كل قائمة على حدة، بحيث يتمكن المشاهد من الانتهاء من القائمة كاملة متصلة ومرتبطة ببعضها البعض، بحيث يكون عنصر تكامل المقاطع موجودًا ليساعد المشاهد في النهاية على الخروج بانطباع شبه كامل عما حدث في حقيقة هذه الأحداث.
فيما تركز القناة على نقاط وتساؤلات تاريخية معينة أثارت الجدل فى حينها وربما تعرضت للكذب والتزوير والافتراء بحسب وصف القائمين على القناة، وذلك بغية توضيح الحقائق كاملة بخصوص هذه النقاط والتساؤلات.
تحدث نون بوست مع الدكتور ياسر نجم مؤسس هذه المبادرة الذي أكد أن المبادرة بدأت فردية من جانبه، وما إن أعلن عنها حتى رحب كثيرون بالمشاركة فيها، كلٌ على قدر جهده ووقته ومواهبه وتخصصه.
كما أكد لنا نجم أنه لا توجد أي جهات أو كيانات مصرية أو أجنبية وراء مبادرته، لأنه بشكل شخصي ضد مشاركة أي جهات أو كيانات لضمان الموضوعية والنزاهة وتغييب أي تأثيرات أو ضغوط خارجية أو محاولات للعب بالحقائق بحسب رأيه.
فيما أشار أن العنوان الرئيسي لأهداف المبادرة هو ما أسماه “التأريخ الأمين” بحسب وصفه، التأريخ الأمين لما حدث في مصر على مدى الخمسة أعوام الأخيرة منذ 25 يناير 2011، ولكنه أضاف أنه يطمح أن تمتد المبادرة مستقبلاً لمراجعة تاريخ مصر السابق على 2011.
يضيف ياسر نجم لنون بوست: “نحن لا نرى جهودًا للحفاظ على تاريخ الثورة، بالعكس نحن نرى تزويرًا وتدليسًا وتضليلًا فاحشًا لأحداث ووقائع كنا شهودًا عليها في حياة أعيننا”.
كما أكد نجم صاحب مبادرة حدث في مصر أن هذه الجريمة تجرى على قدم وساق منذ اللحظات الأولى لثورة يناير على أيدي وسائل الإعلام المعروفة، التي ساهمت بشكل كبير في تغييب الوعي الشعبي وتضليل الجماهير وإفساد استيعابها لما حدث، ليس هذا فحسب بل إن الكثير من القوى الثورية نفسها وقعت ضحية لهذا التزوير فخونت بعضها بعضًا، وتأججت الصراعات بينها وصار بينها ما صنع الحداد، وكان مرجع ذلك في الكثير من الأحيان لتلفيقات وأكاذيب وتشويه للحقائق بحسب ما وصف لنا نجم.
ومن أهم ما تطلبه المبادرة لتطويرها بحسب القائمين عليها العنصر البشري، والمقصود بالعنصر البشري الجانب الكيفي لا الكمي، حيث أكدوا أنهم يحتاجون لمتطوعين غيورين على الحقيقة، غيورين على أمانة نقلها للأجيال القادمة قبل أن تطمسها وتشوهها الأيدى التي أوصلت مصر لتلك الحالة بحسب ما نقلوا لنا.
واختتم القائمون على المبادرة حديثهم مع نون بوست بقولهم إن أصحاب السلطة يملكون الحاضر بقوة السلاح فقط، لكن التاريخ الآن يستعصي على حكم السلاح، وعندما تتحرر عقول الأمة سيستعصي على السلاح أن يحكمها مستقبلاً أيضًا.
عملية التوثيق وكتابة التاريخ مرهقة
هذه كانت أمثلة على مبادرات فردية وجماعية لحفظ تاريخ الثورة المصرية مع التأكيد على وجود عشرات المبادرات التي انطلقت عقب الثورة المصرية محاولة حفظ تاريخها وأرشفة بعض أحداثها قدر المستطاع.
لكن بالتواصل مع الباحثين في هذا المجال ومن بينهم الباحث عبده البرماوي فجميعهم أكدوا أن الأمر ليس بهدف حفظ الذاكرة من العبث وفقط، وإنما يتعدى الأمر إلى لجلب حقوق الضحايا وذويهم عبر وثائق لا يمكن دحضها في المحاكم، كما أن عملية التوثيق للذاكرة الجمعية تحتاج أيضًا هي الأخرى وثائق جيدة متماسكة بحيث يصعب على الأنظمة تزويرها أو تشويهها ونزعها من سياقها التاريخي، وهذا الأمر ليس موجودًا في أي من المحاولات السابقة أو الحالية.
في حين يرى البرماوي أيضًا أن التوثيق من أجل الوعي ورفعه يحتاج إلى وجود رد على السرديات الكاذبة، وهو الأمر الذي تفتقر إليه أيضًا التجارب الحالية بقدراتها المتواضعة، لأن الأمر بحسب رأيه يحتاج إلى مؤسسات تعمل على حفظ الذاكرة في أعقاب الحروب وفترات الاضطهاد والثورات، ومن أهم المنظمات العاملة في هذا المجال على سبيل المثال هي المجلس العالمي للأرشيف.
معضلة أخرى تواجه أصحاب مبادرات التوثيق وكتابة التاريخ هي التعامل مع المحتوى المتاح على شبكة الإنترنت، حيث إن هذه المواد ملك لأصحابها، وإذا ما قرر صاحب المادة حذفها في أي وقت لا يملك أحد غيره استرجاعها، كما أنه لا يوجد أي جهد منظم مع الشركات صاحبة المنصة التي تنشر هذه المواد للاحتفاظ بها.
يؤكد لنا الباحث عبده البرماوي أن الأمر معقد للغاية وله متطلبات عدة لعل أهمها ما سرده لنون بوست من ضرورة وجود إرادة للدولة أو إرادة مجتمعية واسعة لهذا الأمر، كذلك وضع أطر معتبرة للتوثيق بحيث يخرج عن إطار الاجتهادات الفردية المشتتة، وذلك عبر الالتزام بقواعد الأرشفة العالمية، والاستعانة بالخبرات الدولية في هذا المجال.
كما يجب أن تكون أهداف التوثيق أوضح ما يكون، وعلى رأسها عملية التقاضي القانوني في أحوال التقاضي في جرائم الماضي أو اللحظات الثورية، بحيث تكون غايته جبر الضرر، وعادة ما يتم هذا الأمر في إطار مصالحة مجتمعية أو حسم السلطة لصالح جبهة الثورة.
وبالتالي عملية حفظ الذاكرة الوطنية والوعي العام بالماضي تمنع تكرارالانتهاكات والمظالم وتُبقي الذاكرة حية، وهذا يحتاج إلى جهد مجتمعي أوسع مما سبق.
في النهاية هذا السؤال “من يكتب تاريخ الثورة المصرية؟” سيبقى ناقوس خطر يؤكد أن عملية توثيق مراحل هذه الثورة لا يقل أهمية عن استكمالها، لأن فقدان هذه العملية سيؤدي إلى ضياع الذاكرة الوطنية الخاصة بالثورة، ومن ثم مواجهة عمليات كتابة المنتصر للتاريخ التي عادة ما تقوم بها الأنظمة السلطوية، وهو ما سيترتب عليه قتل أي جذوة للثورة في نفوس المجتمع، وهكذا تبدأ مرحلة تغييب الوعي الجمعي في المجتمع عن فكرة الثورة ومطالبها.