كم هللنا للثورة وابتهجنا وفرشنا تحت أقدامها أحلامنا الباذخة وعقدنا على جدائلها الطويلة المنسابة تمائم وتعاويذ، معتقدين أنها “بابا نوال” أو “مارد القمم” الذي سيبعث الروح في أمانينا القديمة، المتآكلة، الهرمة، نعم هرمة، أكثر من نصف قرن والتونسيون يتمنون الكرامة والعدالة والمساواة وعدم التمييز، فرحة ما تمت على حد عبارة جداتنا، ومع انتخابات 2014 ينقلب المشهد وتطوى صفحة الثورة وتفتح صفحة الثورة المضادة، عبر إعادة تمركز الفاسدين في مفاصل الدولة.
ولنتصور فداحة الوضع وقبح المشهد أن يعاقب المظلوم بمزيد من التهميش والتحقير عبر التفاف على مطالبه المشروعة، ليظل مواطن دون قيم المواطنة، أعزل ومعزول، مسلوب الحقوق مجبور على الواجبات، فيما يكافأ الظالم الواشي الفاسد بأن تسند له أعلى المناصب والمراتب ليتحكم في المستضعفين، ليس القدر من أراد هذه المفارقة الموجعة، وإنما هي خيارات الحكام الجدد القدامى في ترسيخ قيم الظلم والإفلات من العقاب عبر سياسة رسكلة أسطول المهام القذرة الذي تربى وترعرع في أحضان النظام النوفمبري القائم على الانتهازية والانحراف الأخلاقي والمحاباة والمحسوبية الفاقد للمصداقية، هذا النظام الذي ثار ضده الشعب وشرع في وجهه تلك الكلمة السحرية ملهمة الثورات: “ديقاج”، ليهرب ويترك البلاد والعباد منشرحين منطلقين في بناء مسيرتهم نحو الانتقال الديمقراطي.
لكن هذا النظام الفاسد كأنه حرباء أو زئبق، يتلون ويتلوى متأصل في مفاصل الدولة كسرطان عنيد.
والآن ومع انتفاضة أبناء القصرين ضد فساد المعتمد الأول لجهتهم وانتفاضتهم ضد غياب الشفافية في التمتع بالوظيفة وتواصل التمييز والتهميش، تزداد حسرتي على القصرين تاج الثورة هي وجل الولايات الداخلية التي احتضنت شرارة التحركات الاحتجاجية الأولى، حيث كان شبابها وقود الثورة ونورها ونارها، يكفي أن نتذكر أحداث حي الزهور في يناير 2011 واعتصام القصبة واحد ودور الشباب القصريني إلى جانب شباب الولايات الأخرى في تعديل المسار ووضع حجر الأساس في البناء الديمقراطي عبر الإصرار على القطع مع المنظومة القديمة والتأكيد على ضرورة تحقيق أهداف الثورة والمطالبة حينها بمجلس تأسيسي يكتب دستور الجمهورية الثانية.
حسرتي تتفاقم عندما أعلم أن والي القصرين الحالي هو السيد الشاذلي بولاق وهو شاب مدرسته الأولى هي الشباب التجمعي وكانت مهمته حشد أبناء الأحياء الشعبية بوصفه يقطن هناك وتحديدًا في شعبة السيدة المندوبية لحضور الاجتماعات وتظاهرات التجمع أو لحضور موكب الرئيس كل عيد شهداء في مقبرة السيجومي القريبة من حيه وأيضًا تلقينهم مهارات الوشاية و”الصبة” حيث كان هو عين البوليس والنظام الساهرة التي لا يفوتها فائتة عن تحركات المواطنين وخاصة عائلات المساجين السياسيين فهو شاطر في كتابة التقارير وفي تحرير الوشايات.
تسلق سريعًا وتنقل من شعبة إلى أخرى ومن لجنة تنسيقية إلى أخرى السيجومي، القرجاني، سيدي البشير، إلخ، ليجد نفسه رئيس بلدية سيدي البشير.
وهنا انطلقت مسيرة الفساد والنهب واستغلال نفوذه في البلدية، وبدا في جمع الرشوة من المواطنين البسطاء المساكين لقضاء حاجاتهم من رخص وشهادات ووعود كاذبة، ولم يكتف حتى إنه التهم الجبل وأضحى يسمى “بصاحب الجبل” كما يحلو لأهالي المنطقة أن يسمونه استنكارًا لاستحواذه على أرض لا يملكها وليست مخصصة للبناء أيضًا، ليبني فوقها ثلاث شقق فاخرة وقاعة أفراح تفتح على الطريق الرئيسية بشارع 9 أفريل، مستغلاً في ذلك إمكانيات البلدية المادية والبشرية في بناء ناطحة سحاب هادمة حقوق جيرانه.
وبعد الثورة وحسب ما يراج في الجهة أنه هو وتجمعيين آخرين من يقفون وراء الفتنة والخراب وهو من يتفق مع عصابات الأحياء الشعبية لترويع المواطنين في جهة باب جديد والأحياء المجاورة، لكي يتحسر الناس ويندمون على “الأمن والأمان” في عهد رئيسه ومالكه بن على، وتنتهي مهامه في البلدية بفضيحة فساد سرعان ما طمست معالمها.
وبعدها يعين معتمدًا أولاً في جهة المهدية ومنها واليًا على القصرين وما أدراك ما القصرين ولاية حساسة ووضعها خاص وتستدعي من الحكومة اهتمامًا استثنائيًا نظرًا لموقعها الجغرافي والحدودي وأيضًا بوصفها مهددة من العصابات المتطرفة المعششة في جبالها الشامخة، ويظهر هذا الاهتمام الاستثنائي في تعيين استثنائي لوالي استثنائه الوحيد أنه ابن المنظومة الفاسدة لحمًا ودمًا وتوجهًا، والي انتهازي ماكر لم يستطع أن ينجح في تسيير وإدارة شؤون دائرة بلدية صغيرة ولا في أن يكون شريفًا وصادقًا تجاه مواطني جهته يكافأ بأن يكون على رأس ولاية منكوبة مهزومة ينهشها الإرهاب والتهريب من جهة وتنهشها الحكومة من جهة أخرى عبر إصرارها على مزيد من التراخي في معالجة قضاياها الحقيقية كانعدام التنمية والبنية التحتية والمرافق الأساسية والتخاذل في الاهتمام بشبابها العاطل الفاقد لكرامته وسط غياب كلي لإرادة سياسية في النهوض الحقيقي بهذه الجهة.
صاحب الجبل والوشاية نعرفه جيدًا وسنعود في فرصة أخرى للحديث بعمق عن تجاوزاته ولكن حديثنا عنه في هذا المقال فقط لنقول إنه وعبر هذه التعيينات الماكرة تكون الحكومة هي حكومة الفاسدين وليست حكومة المواطنين الذين من حقهم عليها أن تصونهم وتحمي حقوقهم من بطش الفساد والفاسدين، وهنا يصح قول المتنبي ” فيكَ الخِصامُ وَأنتَ الخصْمُ وَالحكَمُ” .