ترجمة وتحرير نون بوست
في عام 2014، ظهر عبد الحميد أباعود، العقل المدبر لهجمات نوفمبر 2015 في باريس، ضمن مقطع فيديو، يُظهره وهو يقود شاحنة صغيرة تقطر على ظهرها كومة من الجثث، حيث قال متحدثًا إلى الكاميرا قبل أن ينطلق إلى وجهته: “كنا سابقًا نقطر الدراجات النفاثة المائية، الدراجات النارية، الدراجات الرباعية، والمقطورات الكبيرة المليئة بالهدايا في المغرب، ولكن الآن، وبحمده تعالى، واتباعًا لطريق الله، نحن نقطر المرتدين”، وذلك في إشارة مهينة لضحاياه، الذين يراهم من وجهة نظره، كمرتدين عن الدين الإسلامي، وبالتالي أهدافًا شرعية للقتل والذبح، ولكنه من خلال حديثه السابق أيضًا، كان يشير بشكل ضمني إلى ماضيه الإلحادي، قبل أن يجد “طريق الله” وينضم إلى داعش ليقتل الناس.
في الواقع، أباعود كان غير مرة روحًا ضالة تمتلك سجلًا إجراميًا عامرًا، حيث قالت شقيقته، ياسمينة، لصحيفة النيويورك تايمز بأنه، أباعود، لم يكن يُظهر أي اهتمام خاص بالدين قبل مغادرته لسوريا، بل إنه “لم يكن حتى يذهب إلى المسجد”، ولكنه دخل إلى السجن عدة مرات، وهناك على ما يبدو، كأغلب الجهاديين الغربيين، تشرّب أفكار التطرف الديني.
بالتوازي مع ذلك، يبدو بأن إبراهيم عبد السلام، الذي فجر نفسه في هجمات باريس، يتمتع بسجل إجرامي حافل أيضًا؛ فالحانة التي كان يملتكها في مولينبيك/ بروكسل تم إغلاقها من قِبل الشرطة قبل أسبوع من الهجمات، تبعًا لمخاوف ممارسات البيع غير المشروع للمخدرات ضمنها، وشقيق إبراهيم، صلاح، المشتبه بضلوعه أيضًا بهاجمات باريس والذي لا زال طليقًا، لا يعد المتعصب الأيديولوجي النموذجي الذي يلّوح بإصبعه موحدًا لله، حيث تشير التقارير بأنه كان زبونًا دوريًا لحانات مثليي الجنس، وكنت لتراه بالعادة، وعلى الأرجح، وهو يلف لفافة حشيش وليس فوق سجادة الصلاة.
وفقًا لمادة نشرتها صحيفة الواشنطن بوست مؤخرًا، يمثّل أباعود وطاقمه من القتلة “نوعًا جديدًا من الجهاديين، الذين ينتمون بجزء منهم إلى الإرهاب، وبالجزء الآخر إلى حياة العصابات”، والذي يستخدمون “مهاراتهم التي شحذوها في ممارساتهم اللاقانونية لغايات التطرف العنيف”.
“السجون الأوروبية كانت لسنوات مرتعًا خصبًا للإسلاميين المتطرفين، لا سيّما في بلجيكا وفرنسا”، جاء في مادة الواشنطن بوست التي حررها أنتوني فيولا، وتابعت المادة موضحة: “لكن في الآونة الأخيرة، أصبح الإجرام والتطرف أكثر تعقيدًا، وذلك في ضوء استمرار السلوك الإجرامي للمجندين حتى بعد “تنويرهم” بنور الإسلام المتطرف”.
الملاحظة التي جاء بها فيولا في مادته حذقة للغاية، رغم أنه بالكاد يبدو مستغربًا أن يكون المجندون الغربيون ضمن صفوف داعش أقل انحرافًا أو إجرامًا من أسيادهم ومُجنِديهم في سوريا والعراق، الذين يُعتبرون الآباء الحقيقيين لفكرة الجهاد الفاسق الذي يبيح كل شيء، ولا يحظر أي شيء، حتى لو كان تسليح الأطفال وتدريبهم على القتل والذبح؛ فبعد كل شيء، الأب الروحي لداعش، أبو مصعب الزرقاوي، كان سفاحًا عنيفًا سواء قبل أو بعد تبنيه لمبادئ السلفية الجهادية.
كأباعود والزرقاوي، يمكن القول بأن سيدهارتا دهار، المعروف أيضًا باسم أبو رميسة، وهو أحدث مجندي داعش من ذوي اللهجة البريطانية والذي اكتسب مؤخرًا شهرة سيئة للاشتباه في ضلوعه في بعض مقاطع الفيديو التي روجها التنظيم، يحمل اقتباسات من ماضيه، حيث كان دهار هندوسيًا قبل أن ينجذب نحو الإسلام المتطرف، رغم أنه، وعلى العكس من أباعود والزرقاوي، لا يحمل تاريخًا حافلًا بالعنف والسرقة أو تجارة المخدرات، ولم يقضِ أي فترة بالسجن، بل بدلًا من ذلك، كان يعمل في استئجار قصور المطاط ليقدمها كوسيلة تسلية للكفار الذين سيحتقرهم ويزدريهم في وقت لاحق من حياته.
مميزات السيرة الذاتية لجهاديي داعش كانت موضوع العديد من الدراسات التي جرت مؤخرًا؛ ففي مسح أجراه إدوين باكر على 31 حادثة إرهاب جهادي في أوروبا بين سبتمبر 2001 وأكتوبر 2006، تبين بأن 58 منفذًا على الأقل من المنفذين الـ 242 لهذه الهجمات، أو 24% منهم، كانوا يمتلكون سجلات إجرامية قبل إلقاء القبض عليهم لتورطهم بجرائم تتعلق بالإرهاب، كما تبين من الدراسة التي أجراها روبن سيمكوكس، أن 22% من الـ 58 فردًا المرتبطين بـ 32 مخططًا إرهابيًا لتنظيم داعش يهدف لضرب الغرب بين يوليو 2014 وأغسطس 2015، يمتلكون سجلًا جنائيًا سابقًا أو كانوا على نزاع مع سلطات إنفاذ القانون، كما وجد سيمكوكس خلال دراسته بأن 29% من هؤلاء الأفراد هم من المهتدين إلى الإسلام (أي لم يولدوا مسلمين).
المهتدون (المتحولون) إلى الإسلام، وفقًا لسيمكوكس، يمثلون 67% من المسلمين الأمريكيين المتورطين في التنفيذ أو التخطيط لهجمات إرهابية لتنظيم داعش، وهي نسبة غير متكافئة للغاية، آخذين بعين الاعتبار بأنهم، المتحولون، يشكلون 20% فقط من جميع المسلمين في كامل الولايات المتحدة.
فضلًا عن ذلك، فإن المهتدين إلى الإسلام يشكلون النسبة الأعلى بين الجهاديين البريطانيين المدانين؛ فوفقًا لسكوت كلينمان وسكوت فلاور، يشكّل هؤلاء نسبة 2 إلى 3% من أصل الـ 2.8 مليون مسلم في بريطانيا، ومع ذلك فإنهم يشكلون 31% من الأفراد المدانين بعمليات الإرهاب الجهادية في المملكة المتحدة المنفذة ما بين عامي 2001 و2010.
ويبقى السؤال: لماذا يعد تنظيم داعش أو باقي الجماعات الإسلامية المتشددة في العام، موضع جذب هائل سواء للمجرمين أو لحديثي العهد بالإسلام أو للمسلمين الذين يرجعون إلى جادة الصلاح والتقوى؟
في كتاب “المؤمن الحقيقي”، الذي نُشر في عام 1951، اقترح الفيلسوف إريك هوفر بأن الحركات الجماهيرية تشكّل جذبًا خاصًا للـ”مذنبين” لأنها توفّر “ملاذًا من تأنيب الضمير”؛ “فالحركات الجماهيرية”، كما كتب، “مصممة خصيصًا لتناسب احتياجات المجرم، ليس فقط بغية التنفيس عن لواعج صدره، وإنما أيضًا لممارسة ميوله ومواهبه”.
هذا التفسير ينطبق أيضًا على الجماعات الجهادية كداعش، التي تَعِدُ الراغبين بالعمل ضمن صفوفها ليس بالعنف فحسب، بل بالخلاص والتكفير عن ذنوبهم أيضًا.
وفي ذات السياق، وفي دراسة أجراها عام 2005 عن جماعة المهاجرين، وهي حركة إسلامية محظورة مقرها في بريطانيا تتمتع بصلات مع داعش، يُفصّل كوينتان فيكتوروفيتش المواد المتعددة والتكاليف الاجتماعية المتعلقة بما أسماه “النشاط الإسلامي عالي المخاطر”، حيث استشهد بإحدى وثائق جماعة المهاجرين التي تحظّر أعضاء الجماعة بشدة من ممارسة السلوكيات التي تتراوح بين “الاستماع إلى الموسيقى والراديو، التسكع بلا هدف بالأسواق وقضاء ساعات في السوق، قضاء الوقت مع الأصدقاء، وإطلاق النكات والحديث الساخر ما بين الأعضاء”، كما لاحظ فيكتوروفيتش بأن نشاط الجماعة “سريع الوتيرة، متطلب، ولا هوادة فيه”، ويتخذ موقفًا معاديًا من “التيار السائد”؛ مما يولّد “نوعًا من الإثارة التي غالبًا ما تتسم بها الحركات المعارضة التي تتمرد ضد الوضع الراهن”، وأوضح فيكتوروفيتش أن العديد من أعضاء الجماعة “يبدون وكأنهم يتمتعون بدورها كمنسلخين عن المجتمع”.
الأهم من كل ذلك هو ما قاله فيكتوروفيتش عن أن جماعة المهاجرين تروّج لفكرة الخلاص الروحي بغية زرع اعتقاد سائد بين أعضائها بأن تضحياتهم في الحياة سوف تُكافئ وتُجزى في الدار الآخرة.
بعبارة أخرى، النشاط الإسلامي مرتفع المخاطر والشدّة، يبدو مصممًا خصيصًا لتلبية احتياجات المجرمين والمدانين السابقين، لأنه يزودهم بمجتمع داعم من الزملاء المنسلخين عن المجتمع، بجدول زمني للعمل، هوية إيجابية، ووعدًا بالتطهير من خطايا وموبقات الماضي.
ولكن هل ينطبق ذات المبدأ على حديثي العهد بالإسلام أو المسلمين العائدين إلى نهج الصلاح؟
الحجة المشتركة التي يعتنقها أغلب المفسرين والعلماء هي أن حديثي العهد باعتناق الإسلام لا يتمتعون بدراية كافية بدينهم الجديد، وهم بالتالي ضعفاء للغاية تجاه تبني التفسيرات المتطرفة للإسلام، كونهم يفتقرون للموارد الفكرية أو الدينية الكافية لموازنة الأفكار في عقولهم.
هذا التفسير يبدو معقولًا بداهة، حيث يفترض بأن معرفة المتحولين إلى الإسلام بدينهم، الذي اكتشفوه حديثًا، تقل عن معرفة الأشخاص الذين ولدوا مسلمين وترعرعوا في كنف الإسلام، ولكن الأدلة التي تساند هذا الافتراض تبدو هشة للغاية، وتتعارض مع الدراسات التي تبين مدى انخراط العديد من المتحولين إلى الإسلام بمناقشات المسائل الإيمانية ومدى معرفتهم بها، كما أن فكرة افتقار المتحولين للمعرفة الدينية تبدو، إلى حد بعيد، عرضة للتلاعب الديماغوجي لأنها تستبطن ضمنًا فكرة أن أولئك الذين يتمتعون بمعرفة عميقة للإسلام من غير المرجح أن ينضموا للجماعات الجهادية، وهذه النقطة أيضًا تعد مثار خلاف وجدل غير واضح النتائج، خاصة في ظل عدم إمكانية استنباط النتائج من النهج التجريبي تبعًا لمدى تنازع وتعارض المعرفة الإسلامية، والأمر الأكثر إثارة للخلاف في هذا المنطق يتمثل بتصوير الإسلام بأنه مسالم بطبيعته؛ مما يوحي بأن الفهم الصحيح أو السليم للعقيدة الإسلامية يلعب بمثابة لافظ للتفسيرات الجهادية المنحرفة، علمًا بأن السؤال المتمحور حول ما يعتبر من ضمن الإسلام وما يخرج عنه هو سؤال مفتوح، بل ومتقلب للغاية، على أرض الواقع؛ فليس هناك إسلام “صحيح” واحد ومتفق عليه، ولكن هناك عدد وافر من المسلمين الذين يتنافسون للهيمنة على المعرفة الدينية.
ثمة تفسير أكثر انطباقًا على وضع حديثي العهد بالإسلام يكمن في تحليل وضعهم الاجتماعي في الغرب، الذي يعتبرهم كمرتدين أو كمنشقين عن إيمانهم غير الإسلامي أو عالمهم العلماني الذي ولدوا وترعرعوا في كنفه؛ ففي مقال يلقي الضوء على “محاكمة اليهود والمرتدين المسيحيين”، يقول عالم الاجتماع لويس كوسر بأن: “المرتد يخضع الآن، كما كان دائمًا، وكما سيكون للأبد، للمحاكمة، وفي الواقع، يجب عليه أن يثبت نفسه ووضعه الجديد ومكانته باستمرار”.
بمعنى آخر، حديثو العهد بالإسلام سيبقون منسلخين بالكامل، فهم لا ينتمون إلى المجتمعات الإسلامية التي تحولوا إليها، كما لم يعودوا جزءًا من المجتمعات التي تركوها خلفهم، إنهم “مهمشون بصورة مزدوجة” كما تقول كيت زيبري ضمن دراستها حول المتحولين إلى الإسلام في بريطانيا، وهذا التفسير، يقدم طرحًا قد يفسر ضعف حديثي العهد بالإسلام تجاه الأفكار الجهادية، بشكل أفضل مما تقدمه أطروحة إخفاقاتهم المعرفية، كون المجتمعات الجهادية لا تقدم للمجندين المحتملين الانتماء فحسب، وإنما تعطيهم الفرصة ليقدموا دليلًا دامغًا ولا يُدحض على التزامهم بالإيمان من خلال استعدادهم للتضحية بنفسهم، والموت في نهاية المطاف، في سبيل إيمانهم؛ وهذا الطابع أيضًا قد يؤدي لجعل المهتدين الحديثين أكثر شراسة في مضمار المواهب الجهادية، لأن تلهفم لإثبات التزامهم بإيمانهم الجديد قد يدفعهم إلى التطرف بشكل أكبر.
ولكن هذه الفرضية السابقة تعتمد على افتراض أن حديثي العهد بالإسلام والمنخرطين في الجماعات الجهادية كانوا يعتنقون المبادئ الإسلامية قبل أن يصبحوا جهاديين، بدلًا من القول بأن هؤلاء تحولوا إلى الجهادية في وقت سابق أو معاصر للوقت الذي تحولوا فيه إلى الإسلام، بحيث إن تحولهم إلى الإسلام كان، كما يقول أستاذ العلوم السياسية أوليفييه روي، انتهازًا للفرصة التي سنحت أمامهم، وبالتالي فإن هذا التحول هو نتيجة لتحولهم السابق إلى الجهادية، وليس سابقًا له.
يمكن توضيح الترتيب المنطقي لهذا التسلسل في التحول من خلال معاينة الوسط والمحيط الاجتماعي والظروف التي تكتنف حديثي العهد بالإسلام والتي دفعتهم لاعتناق الإسلام؛ فوفقًا لروي، “الجيل الثاني من المسلمين أو الذين تحولوا سابقًا إلى الإسلام”، والذين يسيطرون على المشهد الجهادي الأوروبي، “يتوجهون نحو التطرف من خلال انخراطهم مع مجموعة صغيرة من الأصدقاء، الذين يتلاقون بهم في مكان معين، كالحي أو السجن أو النادي الرياضي، حيث يؤسسون فيما بينهم روابط عائلية أو أخوية قائمة في كثير من الأحيان على العلاقات البيولوجية” وهؤلاء، كما يقول روي، لا ينجذبون بالمقام الأول للإسلام المعتدل، بل للتطرف السلفي العنيف؛ وتبعًا لذلك، “لا يتمتع هؤلاء تقريبًا بأي تاريخ من التفاني الديني أو من ممارسة الشعائر الدينية”.
باختصار، يود روي القول بأن الشباب الأوروبيين الذي يتجهون نحو التطرف، والساخطين على مجتمعاتهم، لا يسعون للإسلام، بل يسعون نحو “سبب، أو تسمية، أو منهجية كبرى، ليسخروا ضمنها الطابع الدموي لثورتهم الشخصية”.
أخيرًا، يذكرنا هوفر بمدى العمق الشخصي لهذه الثورات حين يقول في كتابه: “الحركات الجماهيرية، وخصوصًا في مرحلتها النشطة أو مرحلتها التبشيرية، لا تناشد أولئك العازمين على تعزيز ذواتهم والارتقاء بها، بل تستقطب أولئك الذين يتوقون للتخلص من ذواتهم التي يكرونها”؛ وبالنسبة للمجرمين التائبين، يقدم المشروع الجهادي الغامر، والذي يقدم طرق الخلاص، الحل الأمثل لتطويع توق هؤلاء القابع في أعماقهم لحياة جديدة وولادة جديدة.
المصدر: ذي أتلانتيك