ما بين مشاورات ومفاوضات واختلاف بينهما تشتد وتيرة الأزمة في سورية لتنبأ بمنعطف جديد تمر بها الثورة السورية، كتبت الصحف العالمية عنها وعنونت أن الثوار قد يخسرون حلب وربما الحرب أيضًا، فحلب تتعرض لقصف وغارات جوية غير مسبوقة على الإطلاق قد توصف بالقصف “السجادي” إن جاز التعبير فحدة القصف أجبرت خمسين ألف من المواطنين على الهرب من الموت متجهين إلى المعابر التركية على الحدود، ويأتي هذا القصف عشية “فشل” مؤتمر “جنيف3” للتفاوض بين النظام والمعارضة وتأجيله إلى 25 الشهر الجاري.
ومنذ تأجيله تسعى روسيا في الجو والنظام على الأرض ومن معه من حلفاء إيرانيين ولبنانيين للسيطرة على أكبر جزء ممكن من الأراضي التابعة للمعارضة في سبيل قلب الموازين لصالح النظام في الاجتماع المقبل ويكون الحكم في المفاوضات يحددها ويقرها كيفما شاء حسبما جاء به عدد من المحللين الروس، وكان ريف حلب الشمالي هو “بيضة القبان” في فصله عن تركيا لقطع الإمداد بين المعارضة وتركيا والدخول إلى بلدتي نبل والزهراء.
وليس الوضع بأفضل حالًا في الجبهة الجنوبية حيث شن النظام السوري هجومًا استعاد فيه بلدة عتمان الاستراتيجية المدخل لمحافظة درعا ويشن هجومًا اليوم على بلدات الريف الشرقي من المحافظة بغطاء روسي كثيف.
وفي خضم الأزمة خرجت أصوات روسية تتهم القوات التركية بنية مبيته لشن هجوم بري في سوريا، وصرّحت الرياض جهوزيتها للدخول بقوات برية لقتال داعش في سوريا في حال وافق التحالف الدولي الذي يقصف مناطق سيطرة داعش في سوريا العراق.
وعلى صعيد آخر وبعيدًا عن القصف والغارات اجتمع الساسة والقادة في لندن في مؤتمر المانحين لجمع تبرعات للدول التي تستضيف اللاجئين السوريين وتقرر صرف 6 مليار دولار خلال العام الحالي و 5 مليار حتى عام 2020.
نون بوست حاورت الباحث السياسي “معن طلاع” من مركز عمران للدراسات الاستراتيجية عن كل هذه التطورات سياسيًا وعسكريًا في الساحة السورية وفيما يلي نص اللقاء كاملًا:
- لو بدأنا بالأحداث الأخيرة الحاصلة على الحدود الشمالية السورية مع تركيا؛ حيث الغارات الروسية أجبرت آلاف السوريين على الهروب الجماعي البارحة الخميس باتجاه الحدود التركية المغلقة، مع تهديد لمليون سوري يطاردهم شبح الجوع في محافظة حلب شمال سوريا، هل نحن أمام سيناريو تفريغ حلب من سكانها وبداية حقبة تقسيم من قبل النظام السوري وحلفاءه الروس والإيرانيين في المنطقة؟
تنامت مؤخراً بعد الهجمات العسكرية الروسية على ريف حلب تحليلات سياسية وتصريحات رسمية لبعض الدول تتحدث عن مشاريع التقسيم في سورية مستندين بذلك على طبيعة بنك الأهداف العسكرية الروسية التي تهدف إلى تكريس سلطة النظام العسكرية على كافة الحدود السورية المفيدة من جهة، وضرب بنية المعارضة العسكرية في الشمال السوري وإفقادهم للحاضنة الاجتماعية من جهة أخرى، وهذا الأمر حقيقة صحيح من ناحية الأثر العسكري الذي يُرتجى منه تثبيت قواعد لعبة عسكرية جديدة وفق شروط الفاعل الروسي الذي حجّم التدخلات الإقليمية المساندة لقوى الثورة ومنعها من التنامي، وأراد لهذه القواعد الجديدة أن تكون محدّداً أساساً في مسار فرض الحل السياسي الناشئ، أما معنى التقسيم الذي يُقصد به خلق كيانات دولتية داخل الدولة فهو أمرٌ ترفضه معادلات الأمن الإقليمية التي ترى أن وظيفة سورية الأمنية ضمن النظام الإقليمي لا يمكن أن تتم إلا بنظام سياسي مركزي.
كما مما لا شك فيه، ستجهد روسيا بتعزيز عوامل الضغط على تركيا بملف اللاجئين واختبار قدراتها بالاستجابة، خاصة على مستويين، الأول زيادة تنامى هذا الملف حتى أضحى ضاغطاً على تفاعلات التركيبة الداخلية وعلى البنية الأوروبية، والثاني اكتشاف أي نوايا كامنة لتركيا فيما يتعلق بمروحة خياراتها العسكرية.
مناطق السيطرة والنفوذ في الجبهة الشمالية – مركز عمران وحدة المعلومات
- منذ فترة قريبة خسرت الجبهة الجنوبية بلدة الشيخ مسكين في درعا، والبارحة خسر الثوار بلدة عتمان، واليوم صباحًا قوات النظام تشن هجومًا على بلدة الغرية بغطاء جوي روسي، والأردن لا تحرك ساكنًا، هل ترى أن النظام بصدد استعادة المنطقة الجنوبية بكاملها بعد التطورات الأخيرة؟
عملياً وكما تشير خرائط السيطرة العسكرية في الجبهة الجنوبية، فإنه يصعب على قوات النظام المدعومة بالطيران الروسي استعادة المنطقة الجنوبية بالكامل خاصة أن تلك العمليات تدور في كامل محور طريق (درعا – دمشق) إذ أنها ترمي ضمان استمرار تذخير وإمداد القطع العسكرية بكافة مستلزماتها وإبعاد “خطر” المعارضة المسلحة عن هذا المحور.
أما عن عدم تحرك الأردن في هذا الصدد والمقصود طبعاً هنا عدم زيادة الدعم العسكري من غرفة “الموك” فهو أمر لا أتوقع أنه تم دون إخطار الروس لهم، إذ أن الوجود العسكري الروسي في سوريا، والحضور الأردني في الجبهة السورية الجنوبية، فرضا تعاونًا أفرز تنسيق العمليات وتبادل المعلومات، إلا أن سقوط مدينة الشيخ مسكين، وزيادة تحرك الميلشيات التابعة لإيران والخشية من استغلال الجماعات “الإرهابية” لمتغيرات ميزان القوى على الجبهة الجنوبية، إضافة إلى القلق المتزايد من موجات نزوح جديدة كان بمثابة تداعي المقاربة الأردنية القائمة على تكريس التوازن العسكري وتثبيته وهو امرٌ دفع مستشار الملك الأردني للشؤون العسكرية ورئيس هيئة الأركان المشتركة الفريق أول “مشعل الزبن” بزيارة موسكو أواخر الشهر المنصرم للتباحث في المخاوف الكامنة من هذا التحرك.
مناطق السيطرة والنفوذ في الجبهة الجنوبية – مركز عمران وحدة المعلومات
- تزامنت الهجمة الروسية الأخيرة بقصف عنيف ومكثف على حلب ودرعا بهدف تبديل موازين القوى وترجيح الكفة لصالح النظام على الأرض فيما وفد المعارضة ذهب إلى جنيف وعاد ب “خفي حُنين” مما كان يسمى “مفاوضات” أو “مشاورات” علمًا أن موجة أمل تحققت عند السوريين بالقيادة الجديدة المتمثلة برياض حجاب من خلال تحقيقه لنقطة سياسية منذ البداية برفضه الذهاب إلا بعد تحقيق الشروط الإنسانية، هل ترى المفاوضات الدولية للقضية السورية هي “أوسلو” القضية الفلسطينية التي امتدت لربع قرن ولم تحل بعد؟
تمر المعارضة السورية بمرحلة سياسية وعسكرية بالغة الحرج، تجعل جُل الخيارات المطروحة أمامها تتسم بالصعوبة وتعرضها لمواجهة ثنائية المطلب المجتمعي الذي أغفله المجتمع الدولي تماماً والمزاج الدولي الذي سيفرز إعادة انتاج نظام الاستبداد أو تكريسًا لقواعد ثورة مضادة، فعلى المستوى السياسي تشهد أروقة السياسة والدبلوماسية الدولية تطبيقًا متسارعًا لقرارات فيينا التي يمكن توصيفها أنها فرض حل سياسي وفق المزاج الروسي وبمباركة أمريكية لها غاياتها الخاصة، إخراج هذا الفرض كنتاج عملية تفاوضية ضمن عملية سياسية تعالج النتائج لا الأسباب، وهذا استلزم ضغطًا هائلًا على الهيئة العليا وعلى كافة المستويات، أما عسكريًا فالتلويح بورقة “تصنيف الإرهابيين” والمباركة الدولية للتدخل الروسي العسكري في سورية، وتنامي المشاريع العقدية والإيديولوجية العابرة للسورية والإخفاقات المتلاحقة لقوى المعارضة العسكرية خاصة فيما يتعلق بامتحانات التنسيق والإدارة الاستراتيجية.
إلا ان التعجل في دفع الحركة التفاوضية بالسياق الذي تم فيه قد أغفل عدة أبعاد لا تستقم العملية السياسية من دونها، وهذا ما طالبت به بالضبط قيادة الواجهة السياسية للمعارضة التي كان لشخص رئيسها “حجاب” أثرًا واضحًا فيه إذ أحسن التعاطي مع هذا الظرف وأداره بمنطق رجالات الدولة، وشكلت تلك المطالب اختبارًا حقيقيًا للفواعل الدولية التي فشلت بالضغط على النظام وحلفائه الأمر الذي ألزم تعليقًا للمفاوضات وهو أمر سيفتح المجال مرة أخرى في حال استمر الإستعصاء السياسي لجملة خيارات ومتغيرات عسكرية تزيد من مستويات الصراع وحدّته على الصعيد العسكري.
ربما يبدو صحيحًا أن هذا المسار وفق قواعد التعاطي الدولي والإقليمي حياله، يبدو مزمنًا ومعرضًا لارتكاسات ترشح سيولة في العنف والتطرف ويزيد من احتمالية تصدع وانهيار ما تبقى من الدولة، الأمر الذي يجعل تشبيه القضية السورية بالفلسطينية أمرًا تقبله أدوات القياس والتحليل.
- مرورًا على تصريح العسيري البارحة بعرض الرياض الدخول بقوات برية إلى سوريا لقتال داعش، وأخبار روسية تفيد عن استنفار عسكري تركي على الحدود مع سوريا في نية مبيتة لأنقرة بالتدخل في الأيام القادمة كما تقول روسيا، هل اجتمعت العوامل المهيئة والأرضية الصلبة لتدخل بري لكل من السعودية وتركيا في سوريا؟
من أهم ميزات الملف السوري هي تسارع الأحداث وكثرة ظهور المتغيرات ضمن ساحاته ، إلا أن العوامل المساعدة لتبني السعودية لفعل عسكري آخر غير” عاصفة الحزم” في اليمن، لم تكتمل بعد، وتحتاج لجملة أفعال ذات أثر استراتيجي لعل أهمها شراكات استراتيجية مع فواعل إقليمية ومحلية إضافة إلى ترتيب البيت الخليجي الذي يشهد تباينات واضحة خاصة مع تنامي التهديد الإيراني على أمنها القومي، أما المحددات التركية في التعاطي مع الملف السوري قد شهدت مراجعات عدة بحكم ظرفها المحلي الخاص ومهددها الأمني القومي والتدخل الروسي ودلالاته الأمنية، جعلت من غاية تحجيم قوات الـ PYG وإفشال مشروعه في إكمال الوصل الجغرافي بين الكونتونات الكردية هو المطلب الأساس.
ووفقاً لما سبق لا أرى أن العوامل والأرضية الصلبة لتدخل بري (سعودي –تركي) وارد، إلا إذا تم وفق استراتيجية مشتركة مع الولايات المتحدة وبعنوان مكافحة الإرهاب وبغية زيادة توريط موسكو في سورية فإنه سيكون محتملاً، إلا أنه حينها ستغدو الساحة السورية ساحة محتملة لصدامات مباشرة بين عدة فواعل دولية وإقليمية يجعل هذه الساحة مهيأة لزلزال لا يمكن ممارسة مبادئ إدارة الأزمة حياله أن تضبط حممها لا على المستوى الإقليمي ولا الدولي.
- كيف تقرأ مؤتمر المانحين الذي حدث يوم أمس في لندن الذي أقرّ منح مالية للدول المستضيفة للاجئين السوريين على شكل 6 مليارات خلال هذا العام و5 مليارات حتى عام 2020، هل هذه الصيغة من تقديم المساعدات هي نذير شؤم للسوريين تعني أن الأزمة مستمرة وأن الدول لا تريد حلها؟
بالعموم فإن كافة الجهودات الدولية في المجالات الإنسانية في الملف السوري تأتي لمعالجة نتائج وكوارث أفرزتها سياسيات العنف الحكومي الممنهج، دون التعرض لأسبابها السياسية وهذا من شأنه تخدير هذا المجال والدفع به ليكون معزولاً وغير مؤثر في السلوكيات السياسية الدولية، وتأتي أيضًا وفق ضرورات مبدأ “إدارة الأزمة” التي تستوجب أن تدعم دول الجوار في تحمل التبعات الإنسانية، إلا أنه في هذا الصدد تجدر الإشارة إلى أمرين يوضحان الغايات الإضافية في هذا المؤتمر، الأول: انه أتى كاستجابة للحد من موجات اللجوء التي أحدثت عدة إشكالات سياسية واجتماعية داخل البنية الأوروبية، والثاني أن الجزء المخصص لللاجئين المحليين سيعود بأغلبه لدوائر ومؤسسات النظام بحكم أنه “وحدة دولية شرعية” وفق القانون الدولي.
- ما هي مآلات جبهة النصرة، الذراع السوري لتنظيم القاعدة في سورية، في المستقبل القريب، خاصة في ظل سيطرتها على منطاق عديدة من الشمال والجنوب السوري، هل ستؤثر الحملة الروسية على مستقبل النصرة لجهة نبذ الخلافات وتوحيد الصفوف ضد النظام وروسيا، أم ستعمل على تعميق الخلافات ما بين فصائل الجيش الحر والنصرة، خاصة في ظل استثناء الأخيرة من أي حل سياسي لمستقبل النزاع السوري؟
لحضور جبهة النصرة في الملف السوري ثلاثة إشكالات رئيسية أولها فيما يتعلق بطبيعة الأداء والنوع العسكري وثانيها بتواجدها في مناطق فاعليين ثوريين، والثالث هو أمرٌ عقدي تفرضه علاقتها مع تنظيم القاعدة، وهذه الإشكالات تصعب من خياراتها أولاً ومن خيارات قوى المعارضة ثانياً، إلا أنه على المدى القريب ستحاول جبهة النصرة التعاطي مع التفاعلات الناشئة او المتوقعة وفق قاعدة الهوامش المتاحة الامر الذي يمدها مرونة نوعاً ما في خياراتها فهي لا ترفض ولا تتبنى حالياً دعوات التباحث في تغيير خطابها وسلوكها وارتباطاتها وبذات الوقت تعمل على تقديم مبادرات تتنازل بها عن الإمارة ولكن بطريقة تسكين هذه الإشكالات الثلاث.
قد تشهد الجبهات مستقبلاً صيغاً متطورة وأكثر مرونة من “جيش الفتح” على سبيل صد الهجمة الشرسة بحكم القاعدة الشعبية الموحدة والجغرافية المشتركة، إلا انها لن تمنع من الخلافات الكامنة بالظهور والتنامي بطريقة تستوجب الحسم، إذ ان سياسات دفع الخلاف إلى الامام وللطرفين لم يعد الظرف السياسي والاجتماعي يوفر الغطاء لها لكي تبقى كامنة ومؤجلة.
- كيف ترى موقف داعش من أي تدخل عسكري سعودي تركي محتمل قد يستهدف نظام الأسد هل هي فرصة تمدد جديدة لهم أم سيزيد من الضغط عليهم؟
رغم أن هذا الاحتمال غير وارد وفق المؤشرات الراسخة والمبررات الموضوعية المتعددة، إلا أننا إذا تعاملنا معه كحقيقة واقعة، فإن تنظيم الدولة الذي حقق وبنسب كبيرة شروط التمكين، مما لا شك ستكون لنجاح هذه العملية أثرٌ على تناميه وسيجهد لانتقال نوعي “للجهاد” لساحات مواجهة تتعدى المحلية العراقية والسورية، لذا فإن مواجهته لا بد أن تكون بالتوازي مع أدوات مختلفة ولن تنفع حياله الطرق العسكرية وحدها.
وعموماً أرى أن أي مدخل للحل في الملف السوري بمستوييه “السياسي” و”مكافحة الإرهاب” لا بد له من مراعاة القضية والحامل الاجتماعي الذي سيكون لعوامل تعزيز تمكين خطابه واستقراره أثراً مزدوجاً في اقصاء الاستبداد وتجفيف منابع “التوحش”.