ها أن فصل الأفراح والمسرات الممزوج بالحرارة الملتهبة بدأ يقترب، ومع اقترابه تشرع ربات العائلات التونسية في التفكير في “عولة الكسكسي” وتتهيأ لموسم الأفراح والأعراس وحفلات الختان بإعداد الكسكسي، كما لا يفوتها أن تدخر ذخيرتها من العولة لمجابهة قر وبرد الشتاء.
“عولة الكسكسي” وإن كانت عادة قديمة جدًا يرجع إلى كونها أكلة أمازيغية أو بربرية، يمتاز بها سكان شمال إفريقيا وخاصة دول المغرب العربي، فقد أصبحت عادة توارثتها الأجيال، جيل بعد جيل واحتفظت بها رغم اكتساح السوق بالكسكسي المعلب والجاهز للطبيخ ولكنه لا يحمل بالتاكيد النكهة المميزة للكسكسي الدياري والشعبي الذي يُعد في فصل الحرارة بأيادي النسوة المحترفات.
هذه العادة التقليدية والشعبية مايزال يتميز بها المجتمع التونسي من الشمال إلى الجنوب ومن الشرق إلى الغرب.
إعداد “عولة الكسكسي” لها صناعها ومحترفيها من النسوة، فليس كل النسوة بارعات في إعداد العولة، لأنها تتطلب مهارات وتقنيات يدوية تحول الدقيق والطحين إلى أكلة تقليدية وشعبية لذيذة يصعب الاستغناء عنها.
في الشمال التونسي، ماتزال عولة الكسكسي لها وقع متميز، وجو احتفالي يبدأ التحضير له قبل أيام؛ فتشرع العائلة في إعداد العدة ومايلزمها، فيشتري رب العائلة الدقيق والطحين والملح وحتى الخضروات والغلال واللحم للاحتفال بإعدادها؛ فلا يمكن أن يمر يوم العولة دون طبخ أكلة الكسكسي الأصيلة تكريمًا للنسوة اللاتي سيحضرن للمساعدة في إعداد العولة.
تعد ربة العائلة مايلزم من غرابيل وقصاع وملاحف لوضع الكسكسي، وتقوم باستدعاء أخواتها وبعض قريباتها وجاراتها للمشاركة في العولة، ولا تنسى ربة البيت المقفول لعملية تفوير الكسكسي قبل أن تقوم بنشره تحت أشعة الشمس الحارقة لينضج ويصير حبات صلبة تطهى وتعد فيما بعد.
في الصباح الباكر من اليوم الموعود، تدب الحياة على غير عادتها في تلك العائلة، فتعد ربة البيت الطعام للأطفال والزوج ثم تنصرف لتهيئ المكان حيث ستجتمع النسوة في جو بهيج لإعداد عولة الكسكسي.
ثم مايلبث أن يبدأ توافد النسوة إلى المنزل حيث تفوح رائحة الشاي والبخور، لتجد ربة البيت مهللة باسمة وقد افترشت الساحة بحصير وووضعت القصعة بجانب الأخرى والغرابيل إلى جانبها في انتظام، وأفرغت مايلزم من الطحين في أسطل بحيث يسهل على النسوة استعماله.
على بركة الله، تشرع النساء في العولة، يضعن الطحين في القصعة ثم يضفن بعضًا من الماء المملح والدقيق ويبدأن يحركن أيديهن المباركة في حرفية بالغة وسط القصعة ويتداولن على استعمال الغرابيل الواحد تلو الآخر حتى يتحصلن على مادة الكسكسي.
يتميز إعداد عولة الكسكسي في الشمال التونسي بأنه شبيه بالأفراح الموسمية، فيوم العولة يوم مميز، ترتفع الضحكات والنكات وأهازيج الأغاني الشعبية والزغاريد، لأن تحويل الطحين إلى كسكسي ليس بالأمر الهين ولا السهل وإنما هو عمل حرفي شاق يتطلب إعداده يوم كامل، من الصباح إلى المساء.
ووسط الجو البهيج الممزوج بالرحابة والفرح وإتقان العمل تدخل ربة البيت بين الفينة والأخرى بصينية شاي تفوح منه رائحة النعناع الأخضر وتتدحرج في عالية الكؤوس حبات بندق بيضاء تضفي على طعم الشاي نكهة خاصة لا يعرفها غير أهل الشمال التونسي، فترتفع الزغاريد المتعالية من حناجر النسوة، وخاصة إذا كانت العولة من أجل حفل عرس أحد افراد العائلة فيكون له وقع احتفالي أكبر.
بعد أن يتحول الطحين إلى كسكسي تفرغه ربة المنزل على لحاف ثم تبدأ في التفوير بواسطة مقفول إما متوسط أو كبير الحجم وفي الغالب تعتمد عملية التفوير مقفولاً كبيرًا للإسراع ولأنه يمكن أن يحوي كمية أكبر من الكسكسي.
قبل منتصف النهار تأتي ربة البيت بمائدة كبيرة وتضعها وسط تجمع النسوة ثم تأتي بطبق من الكسكسي الحار والشهي طعامًا للنسوة إضافة إلى المشروبات وتقديم الأصناف المتنوعة من الغلال، كما تقوم ربة المنزل بإرسال أطباق من الكسكسي المطهو لبعض الجيران ليتذوقوه.
طبق الكسكسي باللحم
بعد المأدبة اللذيذة ترجع النسوة إلى العمل وتقوم ربة المنزل بإنهاء عملية تفوير الكسكسي ثم تضعه وسط لحاف وتغطيه فتشرع الصبايا في حكه بواسطة غربال متوسط ويوضع في قصاع حتى تقوم ربة المنزل بنشره من الغد فوق السطح وتحت أشعة الشمس الملتهبة ليجف ويصير حبات صلبة لا يتأثر بالعوامل الطبيعية أو بتغير المناخ لأنه سيحفظ فيما بعد لأشهر في مخزن المطبخ وستعبر عليه الفصول الثلاثة قبل عودة الصيف.
طبق الكسكسي بالخضراوات