أثار قرار النظام المصري بنقل تبعية جزيرتي “تيران” و”صنافير” من مصر إلى السعودية، غضب قطاعات واسعة من المصريين، وعلى إثر الاتفاق الذي وُقعّ بين الدولتين الأسبوع الماضي، انتشرت دعوات للتظاهر يوم الجمعة 15 أبريل/نيسان 2016. استجاب للدعوات أعداد هائلة من المصريين، بمختلف توجهاتهم السياسية وفئاتهم العمرية، في القاهرة وعدد من المحافظات.
كمّمت السعودية أفواه المنابر الإعلامية المؤيدة والمعارضة للنظام المصري، فبدا الإعلام العربي شبه خال من مظاهر الاحتجاج في الشوارع، وكالمعتاد بحث الشباب عن ضالتهم في “الجزيرة” ملاذهم الأخير، التي دأبت على التغطية المباشرة لكل تفاعلات الشارع المصري، ففتحوا القناة ولم يجدوا شيئًا!
كيف تعاملت الجزيرة مع تظاهرات جمعة الأرض؟
اكتفت “الجزيرة الإخبارية” ببث خبر يتيم عن المظاهرات في نشراتها على رأس كل ساعة، أما “الجزيرة مباشر” فاكتفت ببث مقاطع صغيرة مكررة من منطقة واحدة، على مُدد متقطّعة، والتفاصيل أكثر إيلامًا.
خرجت الجزيرة عن منهجها المعهود في التعامل مع المظاهرات المناهضة للنظام المصري بعد انقلاب الثالث من يوليو/تموز 2013، وعلى الرغم من إقرارها، في نشراتها، بأن تظاهرات الجمعة هي “الأكبر في مصر منذ فتور التظاهرات التي كان يقودها تحالف دعم الشرعية المصري” إلا أنها لم تحظ ولو بنذر يسير مما حظيت به أي مظاهرات سابقة.
تعتمد الجزيرة – عادة – على شبكة ضخمة من المراسلين على الأرض لتنسيق البث المباشر للأحداث، وتقسّم شاشة “الجزيرة مباشر” إلى عدة شاشات تصل أحيانًا إلى ستّ، للبث من أكبر قدر من المناطق على التوازي، أما “الجزيرة الإخبارية” فتنضم للبث المباشر أحيانًا، أو تنوّه للمظاهرات في صورة أخبار عاجلة في أضعف الحالات.
وتوضح الصورتين الفوارق بين شاشة “الجزيرة مباشر” في تغطية مظاهرات الجمعة، مقارنة بمظاهرات سابقة.
تغطية “الجزيرة مباشر مصر” لتظاهرات 28 نوفمبر/تشرين الثاني 2014
تغطية “الجزيرة مباشر” لمظاهرات “يوم الأرض”
وقعت الجزيرة أيضًا في سقطة مهنية، فالمشاهد اليتيمة التي بثتها على “الجزيرة مباشر” خضعت للقصّ قبل العرض، لتبث بعد حدوثها بلحظات، وذلك لحذف أي هتافات تخص الجزيرتين، والاكتفاء بالهتافات العامة المناهضة للنظام المصري أو المنادية بإسقاطه. وفي ذات السياق تجاهلت أخبار التظاهرات الواردة في نشرات “الجزيرة الإخبارية” أي إشارة لقضية الجزيرتين، واكتفت بتوصيف المظاهرات على أنها “مطالبة بإسقاط النظام احتجاجًا على سياسات السيسي” دون التطرّق لماهية هذه السياسات أو القضية المحددة التي نزل المصريون للشارع من أجلها، مما يجعل فهم سياق المظاهرات على المشاهد المكتفي بالجزيرة أمرًا مستحيلًا.
الأعجب من ذلك، أن القناة، كنوع من الترضية لمتابعيها، الذين صبّوا جام غضبهم عليها في شبكات التواصل الاجتماعي، خصصت 19 دقيقة في نشرة الحصاد 10:00 م بتوقيت القاهرة، للمظاهرات بخبر وتقرير دون أي إشارة للجزر، واستضافت “عبد الفتاح فايد” محرر الشؤون المصرية بالقناة ومدير مكتبها بالقاهرة سابقًا، ليتحدث عن ضخامة التظاهرات دون أي إشارة لأسبابها، واستضافت أيضًا “سليم عزور” المعارض المصري للتعليق على الحدث، وفرضت عليه عدم الإشارة لقضية الجزيرتين من قريب أو بعيد.
الجزيرة تتجاهل زيارة الملك سلمان لمصر
كانت الزيارة الأولى للملك السعودي “سلمان بن عبد العزيز” إلى مصر في 7 أبريل/نيسان 2016، زيارة تاريخية، استمرت خمسة أيام، وقعّت خلالها الدولتان اتفاقيات عدّة أهمها اتفاق الجزيرتين، وأثارت الزيارة كثيرًا من النقاش والجدل في الشارع المصري، وحظيت باهتمام أبرز وسائل الإعلام العالمية، وكل وسائل الإعلام الإقليمية، باستثناء الجزيرة!
تعاملت الجزيرة مع الحدث – تقريبًا – كأن لم يكن، فقطر تعترض على أي تقارب مصري-سعودي، وتستطيع أن تحرج النظام المصري أمام السعودية، مع كل قرار أو تصريح فيه تقارب مع إيران، لكن لا يسعها إعلان انتقادها لقرارات الإدارة السعودية الجديدة.
فيما يلي خط زمني لتفاعل الجزيرة منذ بداية الزيارة إلى تظاهرات الجمعة، وسنتخذ “نشرة الحصاد” 10:00 م بتوقيت القاهرة، كمعيار لحيز القضية في اهتمامات الجزيرة:
-
7 أبريل/نيسان 2016: استقبال الملك “سلمان بن عبد العزيز” في مصر: تناولت الجزيرة الزيارة في برنامج “الواقع العربي” 07:30 م، بتحريض السعودية ضد النظام المصري، حيث استهلت الحلقة بتقرير جاء فيه:”كيف لحكام مصر أن يردوا الجميل لمكرميهم من الخليجيين في ظل مواقف القاهرة التي تسير عكس التيار الخليجي في سوريا واليمن وعلاقتها مع إيران وحليفها حزب الله؟”، دون التطرق لأي تفاصيل عن الزيارة، وفي نشرة الحصاد لم يُبث التقرير مرة أخرى واكتفت القناة بذكر الزيارة في خبر مقتضب في أقل من دقيقة.
-
8 أبريل/نيسان: اتفاقية تعيين الحدود البحرية ونقل تبعية الجزر: 14 دقيقة في نشرة الحصاد لتطورات قضية “جوليو ريجيني” الطالب الإيطالي المقتول في مصر، دون التطرق للاتفاقية سوى في 36 ثانية كخبر هامشي في النشرة الاقتصادية صباح 9 يناير/كانون الثاني.
-
10 أبريل/نيسان: خطاب الملك سلمان أمام البرلمان المصري: 15 دقيقة في نشرة الحصاد لقضية “ريجيني”، وتعتيم تام على الخطاب، ثم تصريح هامشي مقتضب لـ”عادل الجبير” وزير الخارجية السعودي على القناة والموقع “الجزيرة نت” صباح 11 يناير/كانون الثاني يقول فيه:”تيران وصنافير كانتا دوما سعوديتين”.
-
12 أبريل/نيسان: 16 دقيقة لقضية “ريجيني” في نشرة الحصاد.
-
13 أبريل/نيسان: بعد انتهاء الزيارة بيومين، تناولت قضية الجزيرتين للمرة الأولى والأخيرة في برنامج “الواقع العربي”، وكان ضيفا الحلقة للمرة الأولى يمثلان موقف النظام المصري. كما تناولت خبر لقاء الرئيس المصري “عبدالفتاح السيسي” بالصحفيين في خبر مقتضب.
-
14 أبريل/نيسان: خبر مقتضب عن تظاهرات الجمعة دون الإشارة للسبب.
-
15 أبريل/نيسان: التغطية الهزيلة للحدث، وخبر على الجزيرة نت، عن الجدل في الشارع المصري حول الجزيرتين “بين مؤيد ومعارض”.
يمكن الاطلاع على كل ما عرضته الجزيرة منذ الزيارة إلى المظاهرات على هذا الرابط.
مقص الرقيب السعودي يأتي على ريش الجزيرة
تحمّلت الجزيرة كل الضربات القاسية منذ تأسيسها حتى مارس/آذار 2014، عندما بدأت أزمة سحب سفراء السعودية والإمارات والبحرين من قطر، والتي ظلت تبعاتها وضغوطاتها مستمرة حتى وفاة الملك السعودي الراحل “عبدالله بن عبد العزيز”، ووصلت، وفق بعض الأوساط الإعلامية، حد التهديد بإغلاق الحدود السعودية القطرية، وتجميد عضوية قطر بمجلس التعاون الخليجي، إذا لم تُغلق قناة “الجزيرة مباشر مصر” وإذا لم يتغير موقفها من النظام المصري.
استجابت قطر للضغوط بإيقاف برنامج “المشهد المصري” الذي كان يقدّم جرعة دسمة وجادة لتغطية التطورات في مصر، في أغسطس/آب 2014، وقلّصت مساحة الملف المصري على القناة، وخففت لهجتها ضد النظام المصري، ثم أغلقت “الجزيرة مباشر مصر” في ديسمبر/كانون الأول 2014.
بعد أقل من شهر انقلب الحال تمامًا، واستعادت قطر قدرًا كبيرًا من حريتها بقدوم الملك “سلمان بن عبد العزيز” إلى سدة الحكم؛ حيث منحها حرية نسبية في اتخاذ ما تراه مناسبًا من قرارات، وتحولت نظرة البلدين إلى بعضهما من منافسين إلى شريكين في حلف إستراتيجي مع تركيا، وضريبة ذلك أن أصبح التعرّض لقرارات السعودية بالانتقاد خطًا أحمرًا.
الكاتب السعودي “إبراهيم آل مرعي” – الجزيرة – 6 ديسمبر/كانون الأول 2016
ليست قضية الجزيرتين هي الأولى، ففي 3 ديسمبر/كانون الأول 2015 أجبرت السعودية الجزيرة على حذف “تغريدة” على حساب قناة “الجزيرة أميركا” على تويتر لمقال رأي يتهم السعودية بتوظيف محاربة الإرهاب كغطاء لانتهاكات حقوق الإنسان، وفرضت على القناة حضور “إبراهيم آل مرعي”، الكاتب في صحيفة “الرياض”، للاستوديو للرد على مقال الرأي وإعلان الاعتذار والبراءة من محتوى المقال، في 6 ديسمبر/كانون الأول 2015.
الجزيرة: لم أخسر سلمان ولم أكسب السيسي
تغطية الجزيرة الصادمة لقضية الجزيرتين، أعاد لشبكات التواصل الاجتماعي زمام المبادرة، فلم يجد الشباب وسيلة للمتابعة والتفاعل وتبادل مشاهد المظاهرات إلا “فيسبوك”، و “تويتر”؛ فعلى وسم #جمعة_الأرض كتب آلاف المصريين، وأعلنت شبكة “رصد” – على سبيل المثال – وصولها إلى 30 مليون شخص في تغطيتها للتظاهرات.
بعض الفضائيات التي لا تهتم عادة بتغطية هذا النوع من التظاهرات مثل “بي بي سي عربي”، استثمرت موقف الجزيرة لاستقطاب المشاهدين وقدّمت تغطية مقبولة للتظاهرات في القاهرة. أما الصحف المصرية فاقتصرت التغطية فيها على نوعين من الصحف: أولًا: الصحف المستقلة التي مازالت تتمتع بقدر ضئيل من الحرية مثل “مصر العربية”، قدّمت تغطية مقبولة، ثانيًا: صحف غطت الحدث بمنطق المكايدة السياسية وهي الصحف المرتبطة بدعم إيراني بصورة مباشرة أو غير مباشرة، مثل “البديل” و “المقال”.
وسائل الإعلام المدعومة قطريًا خارج الدوحة، مثل “شبكة التلفزيون العربي” أتت على ذكر التظاهرات في برنامج “العربي اليوم”، وخصصت حلقة برنامج “بتوقيت مصر” لتغطية الحدث، ليس بانفتاح تام، لكن ليس بالقيود المفروضة على الجزيرة، وكذلك جريدة “العربي الجديد” قدّمت تغطية متواضعة، لكن خلت خدمة التنبيه بالأخبار العاجلة الخاصة بها من الإشارة للتظاهرات.
لا يبدو موقف الجزيرة في سياق تبدّل في الموقف من النظام المصري، وإنما استرضاءً للنظام السعودي، والخروج بالموقف بأقل الخسائر بمنطق “سكّن تسلم”، فلا هي تبنّت الموقف السعودي لتتجنب استعداء الشارع المصري، ولم تتبن موقف الشارع المصري لتتجنب استعداء النظام السعودي، لكن جمهور الجزيرة لم يعهدها خاضغة للمواءمات والحسابات السياسية على هذا النحو.
وفيما يخص مصر تحديدًا، فإحصاءات شركة “إبسوس” التي أظهرت تفوق الجزيرة الإخبارية على باقي القنوات العربية قبل 3 سنوات، واحتلال الجزيرة مباشر مصر للمركز الثاني من حيث نسبة المشاهدات في مصر، هي ذاتها التي خلت قائمتها لأعلى 40 قناة في مصر من الجزيرة في إحصاءات 2015، وبالتالي تحتاج الجزيرة لإعادة النظر في تعاطيها مع الملفات المصرية.