عامان مرا على صعود عبد الفتاح السيسي كرئيس لمصر، شهد هذان العامان تغيرًا هائلًا وكبيرًا بعقيدة الجيش المصري، وتغيرات مماثلة على المستوى العملياتي وتكوين الضابط المصري نفسيًا وذهنيًا، ولعل تلك التغيرات بدأت منذ أن كان السيسي وزيرًا للدفاع، سنحاول هنا أن نرصد أهم التغيرات التي حدثت في بنية الجيش المصري المقاتل، لا المؤسسة العسكرية ولا أدوارها السياسية الحالية، إنما معنيين بالتغير العسكري الصرف.
ولكن بداية علينا أن نحرر بعض المصطلحات التي بها خلط وتكونها عبر مراحل تاريخية عديدة بالنسبة للجيش المصري:
أولاً: الأمن القومي
لا يوجد تعريف محدد للأمن القومي، ولكن لعل أجود تعريف هو تعريف روبرت ماكنمارا وزير الدفاع الأمريكي الأسبق إبان حرب فيتنام في كتابه “جوهر الأمن” حين يقول: “إن الأمن القومي هو كافة التدابير الواجب اتخاذها سياسيًا وعسكريًا واقتصاديًا واجتماعيًا وثقافيًا للحفاظ على كيان الدولة ووجودها”، وتلك التدابير تنبع بالأساس مما تفترضه الأبعاد الجيواستراتيجية للدولة من تدابير لازمة للحفاظ على كيانها ووجودها، ومنه تتكون نظرية الأمن القومي الخاصة بالدولة، التي هي بالواقع ملاحظة واستنتاج لما اتخذته الدولة من تدابير للحفاظ على وجودها على امتداد تاريخها.
ويمكن أن نلخص نظرية الأمن القومي المصري التي طبقت عبر التاريخ بالتالي:
الأمن القومي المصري لا يتحقق في وضعه الأمثل إلا بالتكامل التام مع الأمن السوري أو الشام عمومًا، وبكل المراحل التاريخية المصرية كان على الدوام هناك محاولة لتطبيق هذا الأمر بداية من حملات رمسيس الثاني على الحيثيين، والتي كانت ذروتها معركة قادش، ثم مرورًا بزحف صلاح الدين الأيوبي للسيطرة على الشام بعد أن استتب له الأمر بمصر ومات نور الدين زنكي سلطان حلب، ثم مرورًا إلى حملة نابليون على الشام بعدما استتب الأمر له بمصر، ثم حملتي إبراهيم باشا على الشام كذلك تحت حكم أبيه محمد علي، ثم أخيرًا تجربة جمهورية الوحدة بين مصر وسوريا بالعهد الناصري.
كل هذا كان يمثل إدراكًا أن الأمن المصري لا يتحقق إلا بالتكامل مع أمن الشام، ومحاولة ترجمة هذا الإدراك إلى فعل بطريقة أو بأخرى، وإنه لن تستتب الدولة المصرية إلا أن يكون ارتباط الشام بها ارتباطًا مصيريًا، قبل أن يكون محاولة للاستجابة للأخطار والتهديدات بكل حالة ( الحيثيين – الصليبيين – العثمانيين – إسرائيل) في الأمثلة أعلاه.
مع دخول الدولة العربية بزمن الاستقلال سواء عن الخلافة العثمانية أو المستعمر الغربي، وأسئلة دولة الاستقلال الملحة، وصعود القومية العربية كأول إجابة على أسئلة دولة الاستقلال، وخاصة أطروحات “ساطع الحصري” الذي يمكن وصفه بماركس إيدولوجيا القومية العربية، وكذلك تزامن تلك الحقبة مع صعود عبد الناصر، فتم تطوير تلك الأطروحة السابقة لتكون أن الأمن القومي المصري لا يتحقق إلا بالتكامل مع كافة دول الهلال الخصيب أي (سوريا – العراق – الأردن – لبنان ) وأنه لا يمكن طرح مشروع جدي لمواجهة شاملة مع العدو الإسرائيلي إلا بعد تحقيق هذا التكامل، بل كان تلك هي الإجابة الناصرية على سؤال المواجهة مع إسرائيل، ولعل هذا هو المدخل لفهم مغامرات الانقلاب التي دعمتها الدولة الناصرية، ومحاولات الوحدة الفاشلة المتكررة، وأبرزها مشروع الوحدة الثلاثي بين مصر وسوريا والعراق سنة 1963.
وبالرغم من التغير الجذري بالسياسة الإقليمية والدولية المصرية وبوصلتها بالعهدين الساداتي والمباركي إلا أن تلك النظرة ظلت حاكمة، وهي المدخل لمشاركة مصر غير العلنية بجانب العراق في الحرب العراقية الإيرانية بالثمانينات، إلى الحد الذي جعل أمين هويدي – مدير المخابرات المصرية السابق – يرى أن هذا التكامل هو مدخل الأمن القومي العربي الشامل في كتابه “الحرب العراقية الإيرانية وأزمة الأمن القومي العربي”، وظلت تلك النظرية يُعمل بها حتى هبت رياح “عاصفة الصحراء” وشاركت مصر بها مشاركة رسمية – سنفسرها لاحقًا – ثم شاركت مشاركة أخرى غير رسمية باحتلال العراق من خلال الدعم اللوجيستي والاستخباراتي، ويجدر التنويه هنا أن مشاركة مصر بعاصفة الصحراء قوبلت باعتراضات في الجيش المصري سواء من مستوى القيادات العليا أو مستوى الضباط والجنود المقاتلين بعمليات “حفر الباطن” بتلك الحرب، وقد تعاملت القيادة السياسية المتمثلة بمبارك مع تلك الاعتراضات بحسم وإقالة وإحالة للمحاكمة العسكرية للمعترضين.
وبالرغم من أنه حتى الآن بعد تدمير الجيش العراقي بعاصفة الصحراء، ثم خروج سوريا الآن وإلى فترة ستطول وتمتد مستقبلًا من أي معادلة للأمن، لم يجد العقل الاستراتيجي المصري إجابة لسؤال ما البديل، إلا أن الصدمة الحاصلة بمشاركة مصر في عاصفة الصحراء داخل الجيش المصري والتعامل معها بحسم هي التي شكّلت عقلية وطريقة تفكير القيادة العسكرية المصرية الحالية، ولعلها هي التي تجيب على سؤال “ما الذي تغير في عقلية وعقيدة الجيش المصري”؟ أكثر من محطة كامب ديفيد والسلام مع إسرائيل التي سنتناولها لاحقًا.
نتيجة لأن نبع الحياة الأساسي بل الوحيد لكافة سكان مصر، وهو مياه النيل، ينبع من خارج الأرض المصرية، فكذلك كان من التدابير الواجب اتخاذها للحفاظ على وجود الدولة المصرية هو تأمين مصادر المياه لمصر أو تأمين تدفق مياه النيل لمصر، وأتخذ هذا أيضًا طرق عدة عبر التاريخ بداية من العلاقات التجارية والاقتصادية التي أقيمت بالعهد الفرعوني كعلاقة الملكة حتشبسوت مع القرن الإفريقي أو حملة الخديوي إسماعيل الفاشلة على الحبشة، والتي كان فشلها هو أحد الأسباب الرئيسية لاندلاع الثورة العرابية لاحقًا من الضباط المشاركين بتلك الحملة، انتهاءً بالعهد الناصري الذي اعتمد على استراتيجية مكونة من أربعة بنود: الأول هو التكامل مع السودان وتأمين حصة مصر من المياه وإن استلزم هذا دعم الانقلابات بالسودان مثل انقلاب الجنرال عبود، والثاني هو دعم النزعات العرقية والانفصالية بإثيوبيا لكي تظل إثيوبيا بانشغال بداخلها، وكان أهمها دعم مصر لانفصال إريتريا والذي لم تحصد مصر نتائجه بالنهاية، والثالث هو بناء السد العالي للاحتفاظ باحتياطيات واسعة من مياه النيل ببحيرة ناصر تجعل لمصر هامش زمني للمناورة مع أي أخطار تهدد حصتها من مياه النيل، والرابع هو الاعتماد على تبعية الشعب الإثيوبي للكنيسة المصرية في التأثير على الداخل الإثيوبي والذي واجهته إثيوبيا بالنهاية بدفع كنيستها للانفصال عن الكنيسة المصرية، والآن ومصر تواجه أكبر تهديد فعلي لمياه النيل ظهر خلال الأشهر الماضية، لا توجد استراتيجية واضحة وبديلة للتعامل مع هذا التهديد الوجودي، إلا أنه عمومًا فالاستجابة لتهديد الأمن المائي لمصر ستكون خارج سياق بحثنا الحالي وتحتاج لتناول منفصل ومستقل.
إن كل ما سبق ويمكن اعتباره نظرية الأمن القومي المصري هو كما نوهنا نابع من الواقع الجغرافي المصري وما يفرضه من ترتيبات استراتيجية؛ فالجغرافيا المصرية تجعل أي محاولة لغزو مصر من ليبيا تلزم من يقودها بالالتزام بخط الساحل حتى يصل إلى الإسكندرية ويسيطر عليها، ولن يجد العمق اللازم لانتشار قوات الغزو، لذا غالبًا ما تفشل محاولات الغزو من الغرب وأشهرها محاولة رومل التي توقفت عند العلمين.
بعكس سيناء التي جغرافيتها عبارة عن شبه جزيرة مما يعطي القوات الغازية العمق اللازم للانتشار حتى تسيطر على منطقة المضايق، ثم ما إن تسيطر عليها حتى تكون سيطرت على كامل شبه الجزيرة، ثم يصبح الطريق مفتوحًا للسيطرة على مدن القناة الثلاث الإسماعيلية وبورسعيد والسويس، ومن ثم يكون الطريق مفتوحًا للسيطرة على القاهرة من طريق السويس القاهرة.
ما سبق أعلاه هو شرح مبسط لما حدث من تجارب غزو لمصر بالفعل منذ الهكسوس مرورًا بالغزو الفارسي ثم الفتح العربي ثم الغزو العثماني انتهاءً إلى هزيمة 67!
وبما أن الآن لم تعد أساليب الغزو البحري فعاله في طرق الحرب الحديثة، فلم يعد واردًا أن يكون هناك ثمة تهديدًا جديًا لكيان الدولة المصرية من سواحلها بالبحر الأبيض أو الأحمر، ولكن يبق التهديد الجدي هو الذي يعبر من الشام إلى سيناء والذي بطبيعة الحال زاد مع قيام دولة إسرائيل؛ فلهذا كله تقررت قاعدتان بالعسكرية المصرية:
– العدو يأتي دائمًا من الشرق.
– الدفاع عن أمن مصر يبدأ من جبال طوروس أي أقصى الحدود السورية، أو إجمالاً الدفاع عن مصر يكون من خارج حدودها.
وما سبق أعلاه هو المستوى التالي بعد نظرية الأمن القومي وهو ما يصطلح عليه بالعقيدة القتالية، أي عندما يتم تنزيل نظرية الأمن القومي إلى أهداف مرصودة للمؤسسة العسكرية لتحقيقها.
الآن على كل حال تلك العقيدة القتالية لم تصمد طويلاً أمام الاختبار، خاصة الشق المتعلق بأن الدفاع عن مصر يكون من خارج حدودها.
فبتقييم تجربة الهزيمة بـ67 يرجع معظم المعلقين العسكريين السبب بالهزيمة إلى وجود ثلث القوات المصرية وقتها في اليمن – باستثناء قلة تؤكد أن وجود تلك القوات من عدمها بمصر لم يكن ليغير كثيرًا من مجريات المعركة، إلا أنه مع ثقل هزيمة يونيو 67 الساحقة ثم الانتصار الذي تحقق بـ 73 ترسخ عند العسكرية المصرية قاعدتان بديلتان:
– الجيش المصري لا يحارب خارج أرضه.
– حرب أكتوبر هي آخر الحروب الشاملة التي يخوضها الجيش المصري وعلى الجيش من الآن أن يسلك مسار توازن القوى والحفاظ عليه بكل الطرق بدلاً من الدخول بحرب شاملة جديدة.
هذا التناقض بين ما تقتضيه نظرية الأمن القومي وبين التغير بالعقيدة القتالية في مسألة الدفاع عن أمن مصر خارج حدودها لعله هو أهم التغييرات التي أحدثتها اتفاقية السلام مع إسرائيل في بنية الجيش المصري وفهمه لمهامه القتالية، بل وظائفه بالسلم والحرب وبالطبع بالقلب منها وظائفه داخل جسد الدولة المصرية، وهذا – برأي الكاتب – الأثر الأهم لاتفاقية السلام، بل حتى أهم من الأثر العملياتي بوجود فراغ استراتيجي من القوى المصرية بسيناء وانكشافها أمام إسرائيل أو تسليم سيناء منزوعة القوى والسيادة للجانب المصري، وكذلك معه ما أحدثته عاصفة الصحراء، كما نوهنا، من تغيرات طارئة أو عدم إمكانية وضع نظرية الأمن القومي المصرية بصورتها المثالية موضع التنفيذ بالتكامل مع الهلال الخصيب.
على كل يكون المستوى الثالث ما يمكن تعريفه بعقيدة الحرب أي النمط الأساسي الذي تخوض القوات المسلحة حربها وفقًا له وإلى أي مدرسة تنتمي القوات، اختصارًا فإن المدارس العسكرية تنقسم لمدرسة شرقية وأخرى غربية؛ أما الغربية فأسلوبها القتالي يمكن تلخيصه بثلاث نقاط: الاعتماد على التفوق الجوي بإحداث ضربة جوية تسبب حالة صدمة أو شلل للخصم قبل المعركة، ثم تمهيد نيراني مدفعي، ثم تقدم المدرعات وورائها المشاة للسيطرة على الأهداف الحيوية للخصم.
والشرقية يمكن أن تكون على العكس منها أي إقامة نقاط دفاعية حصينة أو جزر والثبات بالمواقع ضد ضربة الخصم الأولى ثم استنزاف قوة الخصم الفاعلة في تلك النقاط الدفاعية الحصينة ثم بعد استنزاف القوه الضاربة للخصم يتم الالتفاف حولها والتقدم لقلب الخصم، وطريقة تنفيذ هذه المدرسة أو تلك هو ما يعرف بالاستراتجيات العسكرية وكذلك لها مدارس عديدة ومتنوعة، ولكن يمكن تقسيمها لمدرستين رئيسيتين:
الأولى هي مدرسة “ليدل هارت”
وهي تقضي بوجود حشد للقوات ناحية اتجاه رئيسي للقتال يتم التوافق عليه بأنه أضعف نقاط العدو والتقدم في هذا الاتجاه الرئيسي مهما كانت العواقب حتى وإن ترك هذا جيوب مقاومة للخصم ولكن شريطة ألا تكون متصلة، ومن ثم بعد انتهاء الهدف الرئيسي للضربة يتم الالتفاف لتلك الجيوب المقاومة وإزالتها.
الثانية هي مدرسة “كلاوزفيتس”
ومنطقها بالأساس مستند لمسألة بديهية صاغها كلاوزفيتس بعبارته الشهيرة “إن الحرب هي استمرار للسياسة بأدوات أخرى”؛ وبالتالي فمنطق العمليات العسكرية ليس الانتصار بالميدان وإنما تحقيق الأهداف السياسية من الحرب وأهمها هي تركيع وإخضاع إرادة الخصم، ومن ثم يوصي كلاوزفيتس بألا يكون التخطيط للعمليات العسكرية هو اتجاه خطي، كما هو بمدرسة لديل هارت، وإنما يكون سير العمليات بأكثر من اتجاه متوازٍ ومتشابك وعنقودي، بحيث يتحقق بالنهاية هدف شل قدرة الخصم عن أي نوع من الحركة أو تحقيق أي نوع من الانتصار، وهو ما يهيء للقيادة السياسية تحقيق الهدف السياسي من شن الحرب.
واختصارًا يمكننا أن نعرف الجيش المصري بأنه يتبع المدرسة الشرقية بالرغم من تسليحه الغربي بالكامل منذ توقيع اتفاقية السلام، فمنطقه هو الاعتماد على مظلة دفاع جوي قوية تحقق توازن مع سلاح الجو الإسرائيلي، ومن ثم يتم استنزاف العدو الإسرائيلي بأي حرب قادمة تحت مظلة الدفاع الجوي، مع تنويع مصادر تكوينها وجعلها متنقلة أو إمكانية نقلها لسيناء على مراحل لتفادي الخطأ الأساسي بحرب 73 الذي سمح بثغرة الدفرسوار، وهذا بالطبع مع إشكاليات، ليس محلها هنا، متعلقة بمدى استيعاب الجيش المصري لمنطق حروب المناورة والتكامل بين الأسلحة الرئيسية تجعل من الصعب تطبيق تلك المدرسة الغربية.
كذلك بالرغم من عدم وجود استراتيجية واضحة، أو ما يمكن أن يسمى بالمدرسة العسكرية المصرية في القتال، ولكن إلى حد ما فالعقل الاستراتيجي المصري يتبنى استراتيجية ليدل هارت وهو ما سمح في آخر الحروب المصرية بـ 73 بتكون ثغرة الدفرسوار
هذا ما يمكن أن نسميه اختصارًا وتلخيصًا العقيدة القتالية للجيش المصري التقليدية، ولكن كل هذا بدأ بالتغير تدريجيًا منذ لحظة عاصفة الصحراء حتى يومنا هذا، فما الذي حدث؟
- أولًا: على مستوى الأمن القومي
ا- بتدمير الجيش العراقي وقت عاصفة الصحراء، أو مع بدء العد التنازلي لتدميره، تولد لدى القيادة المصرية حينها نظرية بأن ينتشر الجيش المصري لحماية أمن الخليج العربي من التهديدات العراقية الآنية والتهديدات الإيرانية المستقبلية، ومن ثم يحل الجيش المصري بنفسه ليملأ فراغ القوة الذي سيحدثه تدمير الجيش العراقي بعاصفة الصحراء.
فكان المنطق هاهنا: الجيش العراقي سيدمر سواء أردنا أم لم نرد، فبالتالي علينا أن نكون قومًا عمليين ونملأ بأنفسنا الفراغ الذي سيحدثه ويجعل تدميره خطرًا علينا كمصريين، ويكون هذا بالتنسيق مع القوة العسكرية المتبقية شرقًا المتمثلة بسوريا، وتلك النظرة هي كانت نقطة الارتكاز الأساسية لتوجه القيادة المصرية إلى سوريا لتنسيق انتشار القوات العربية تحت قيادة عاصفة الصحراء، فيما عرف حينها بإعلان دمشق، والذي مثل نقطة التحول الأساسية بنظرية الأمن القومي المصري، بل وبنسبة جزئية السوري في عهد حافظ الأسد، والذي تمثل بأن:
الأمن القومي المصري يتحقق بالتكامل مع الأمن القومي الخليجي وأن تكون القوة المصرية هي عامل الأمان والحماية للخليج العربي بالتنسيق مع القوة السورية -بالمناسبة كان مطلب الخليج في أول ومنتصف الثورة السورية ليس تنحي بشار وإنما أن يرجع في صيغة علاقته مع امتداده العربي لبنود إعلان دمشق -، وهذا يعني بالتبعية أنه حتى يتم إعادة انتشار القوة المصرية لحماية أمن الخليج، فالأمن القومي المصري أصبح مرتبطًا باستمرار السلام مع العدو الذي يأتي من الشرق، أي إسرائيل، ولم يعد بتحقق الردع الشامل والدائم وتحييد مصادر تهديد هذا العدو!
ولكن على كل حال لم يتحقق للقيادة المصرية ما أرادت، ورأى الخليجيون أن الاستعانة بالأمريكيين ونشر قواعدهم بالخليج وقطع أسطولهم بمياه البحر الأحمر، سيكون هو صمام الأمان لهم أكثر من انتشار المصريين، وبهذا ازدادت معضلة الأمن المصري تعقيدًا وتناقضًا، إذ كان محدد العلاقة مع الأمريكيين في منظور الأمن القومي – بعيدا عن سياقات ومآلات انتهاء الحرب الباردة بتلك الحقبة – هو أن الأمريكي هو الطرف الضامن لاستمرار السلام مع إسرائيل وأن تظل حرب 73 هي آخر الحروب، ولكن مع انتشار القواعد الأمريكية لحماية الخليج، تطور الأمر إلى أن التكامل مع التواجد الأمريكي بالخليج هو جزء من ترتيب حماية الأمن القومي المصري!
وهذا ترتب عليه نتائج عديدة بالسلوك السياسي المصري، سواء تجاه العلاقة مع الأمريكيين أو مع إسرائيل، أو مسلك مصر تجاه عملية السلام العربية الإسرائيلية، ومسلكها تجاه ما سيتكون ويعرف خلال تلك الفترة بمحور الممانعة أو المقاومة، ولكننا هنا معنيون بالأساس بالجوانب العسكرية المحضة، فكان من تلك الجوانب هو ظهور الوجود العسكري الأمريكي لأول مرة بمصر عبر نقطة ارتكازهم بمطار غرب القاهرة العسكري، وهي ليست قاعدة عسكرية بالمعنى الحرفي، ولكنها نقطة تجميع من أجل الانطلاق والتوزيع بالمهام القتالية على مسرح عمليات الخليج، ثم خط تنسيق واتصال مباشر مع السينتكوم – القيادة الأمريكية العسكرية الوسطى التي تغطي الشرق الأوسط – نتج عنه تحديثًا كاملًا بالمستوى العملياتي والتكتيكي والتسليحي للجيش المصري سنتحدث عنه تفصيلاً بالجزء الأخير من المقال.
ب- كان الحدث الثاني المفصلي بتغير نظرية الأمن القومي المصري هو أحداث 11 سبتمبر وما تلاها من احتلال للعراق، ونحن هنا معنيون بأن 11 سبتمبر نتج عنه صعود الفاعلون من غير الدول كفاعل رئيسي وليس فرعيًا بالعلاقات الدولية، بعدما كان الترجيح أن عصر القطب الواحد الأمريكي الذي آلت اليه أوضاع العالم بعد الحرب الباردة سينتهي إلى عالم متعدد الأقطاب من الدول الصاعدة، ولكن على ما يبدو الآن بتلك اللحظة أننا نتحدث عن عالم أكثر تعقيدًا يحل، يضطلع فيه الفاعلون من غير الدول بأدوار الدول كاملة، سواء كان متمثلًا بالقاعدة أو ما بات يعرف بحركات الإرهاب انتهاءً بداعش، أو حركات المقاومة الوطنية، كنموذج حزب الله أو حماس أو حركات الإسلام السياسي، وبالصدارة منها بالطبع جماعة الإخوان المسلمين، أو الشركات متعددة الجنسيات التي أصبحت تحل الآن بالتحالفات مع نظام السيسي محل الدول، أو شبكات التجارة العالمية الشرعية منها وغير الشرعية (السلاح، المخدرات.. إلخ).
وتحديدًا زلزال 11 سبتمبر كشف إلى أي مدى ممكن أن تصل الشبكات من غير الدول إلى التطور والخطورة، خاصة بعدما كشفت الحرب على الإرهاب تطور القاعدة مثلًا إلى امتلاك أسلحة دمار شامل، مثل السلاح الكيماوي، وسعيها لامتلاك سلاح نووي وسلاح عابر للقارات، وهو ما يمكن بالفعل أن يمتلكه الجيل القادم من الجهاديين (تحديدًا نتحدث عما يعرف بالقنابل النووية الصغيرة محدودة المدى والتأثير والقنابل الفراغية.. إلخ).
كل تلك التطورات جعلت أيضًا خطر أولئك الفاعلون الجدد يمثل التهديد الأكبر للدولة المصرية من منظور الأمن القومي، حسب التعريف الذي صدرنا به المقال، إذ إننا هنا نتكلم عن تهديد جدي لكيان الدولة، ينافسها ويزاحمها ويسحب منها أدوارها ووظائفها السياسية، ومن ثم كان هذا هو المدخل المنطقي لتكون الحرب على الإرهاب ضمن منظومة أهداف نظرية الأمن القومي الجديد.
ومع صعود موجات الربيع العربي أصبحت تلك الموجات مهدد حيوي ليس للدولة العربية التقليدية في عصر ما بعد الاستقلال عمومًا فحسب، وإنما تمثل تهديدًا أكبر للدولة الخليجية خاصة، يعادل بحجمه وتأثيره التهديد الإيراني وتهديد “الإرهاب”.
فبالتالي فرض هذا تحركًا جماعيًا من دول مجلس التعاون الخليجي لمواجهة هذا التهديد الجديد، وقدرت الدول الخليجية أن القوة الفاعله الأكثر تأثيرًا بموجة الربيع العربي هي قوى الإسلام السياسي، ومن ثم فمواجهة وتحييد ومحاصرة هذا التهديد، ثم القضاء عليه، هو ما سيزيل خطر الربيع العربي، عنها فكان ما كان من تحرك الخليج – باستثناء قطر – لدعم حراك الـ 30 يونيو، وما نتج عنه من نظام السيسي حاليًا.
والآن ومع كل ما سبق يمكن أن نجمل نظرية الأمن القومي التي تتشكل الآن بعهد نظام السيسي كالآتي:
أمكن الآن استعادة صياغة أن الأمن القومي المصري يتحقق بانتشار القوة المصرية لمواجهة أي تهديدات متعلقة بأمن الخليج، بعدما فقدت تلك الصيغة وقت عاصفة الصحراء.
الأمن القومي المصري يتحقق بمواجهة تهديدات وتحديات الفاعلين من غير الدول والعابرين لها حيثما كانت، ابتداءً من الإسلام السياسي، إلى الحركات الجهادية، إلى حركات المقاومة الوطنية الغير محسوبة على طرف، أو المحسوبة على الإسلام السياسي (حماس).
الأمن القومي المصري يتحقق بالحفاظ على الوحدة الترابية للدول العربية وحدودها المستقرة منذ الاستقلال ضد أي محاولات للتقسيم أو إعادة ترسيم الحدود، سواءً كان بالنزعات الانفصالية من الكرد وسنة العراق في أقصى الشرق والهلال الخصيب، إلى شرق ليبيا، أو محاولة تكون دول جديدة، سواء أيضًا بالمعنى الحرفي كداعش، أو دول ذات فلسفة مغايرة للنظام الإقليمي العربي كإمارة جبهة النصرة بالمناطق المحررة بسوريا، أو ما يمكن أن ينتج لاحقًا من دولة علوية بالشريط الساحلي السوري، وإذا كان هذا تهديدًا عامًا للدول العربية، فهو تهديد أشد للدولة المصرية، التي لم تعرف إلا نمط الدولة المركزية منذ تكونها بالعهد الفرعوني إلى الآن، ونجاح نزعات انفصالية أو نمط دولة لا مركزية ومحاولة استنساخه بمصر يعد نذير انهيار كامل للدولة المصرية من وجهة نظر المؤسسة العسكرية.
تتطور معادلة الحفاظ على السلام مع إسرائيل بأي ثمن إلى علاقة شراكة فاعلة، نتيجة لأن مهدد الفاعلين من غير الدول هو مهدد لإسرائيل كما هو لمصر، ونتيجة لأن الدولة المصرية غير مستعدة لأي نوع من التوتر مع إسرائيل حتى يكتمل “مشروعها” للأمن القومي لملء فراغ القوه بالهلال الخصيب والخليج، وتدمير تهديدات الفاعلين من غير الدول، بل إن هذا التهديد المشترك هو الذي سيساهم بدمج إسرائيل بالنظام الإقليمي الشرق أوسطي، بعد أن يستقر من حالة السيولة الحالية، في إطار عملية السلام من وجهة نظر الدولة المصرية الآن، وهو ما جعل نظام السيسي يقبل بتنازلات في ملف غاز شرق المتوسط لإسرائيل، لم يكن ليقبل بها مبارك نفسه، بل ويسارع لتدعيم الشراكة مع إسرائيل بملف الطاقة بخطوات أسرع بكثير من مبارك.
- ثانيًا: مستوى العقيدة القتالية والعسكرية
إن التحول إلى نمط محاربة الإرهاب والحفاظ على أمن الخليج هو ما أنتج خمسة أحداث رئيسية بعهد السيسي حتى الآن وهي: الاشتراك بالتحالف الدولي بالحرب ضد داعش، الاشتراك الفعال بعملية عاصفة الحزم وخاصة عندما ستبدأ مرحلتها البرية، التدخل المباشر بليبيا الذي من المتوقع أن يتوسع مداه وسقفه بالفترة القادمة، الحمله العسكرية العنيفة التي تجري الآن بسيناء، إمكانية التحول لنمط الصراع العنيف في مواجهة مناوئي النظام بالداخل بدلاً من مجرد حملات قمعية للمعارضين متكررة.
تلك الأحداث تطلبت تغيير على مستوى التسليح، لم يبدأ من الآن بل من عهد مبارك، وتغيير بتوزيع وتركيز القوات المسلحة جعل المنطقة المركزية العسكرية هي أقوى مناطق توزع قوات الجيش، حتى بشكل أعلى من قوات الجيش الثاني والثالث الميداني المناط بهم الحملة بسيناء، واستحداث ما عرف “بقوات التدخل السريع” وهي المناط بها جميع المهام خارج الحدود، من المشاركة بعاصفة الحزم إلى التدخل بليبيا، ومن المرجح أن تلعب أدوارًا أكبر بداخل المركز المصري إذا ما انتقلت مصر لطور الصراع المسلح.
وسنتحدث هنا إيجازًا عن هذا التغيير الذي حدث:
أولاً: المنطقة المركزية العسكرية:
هي أقوى بكثير من الحرس الجمهوري ومسلحة لتقاتل عكس وحدات الحرس التي هي مصممة للتواجد كوحدات صغيرة منفصلة فى محيط القصور الجمهورية.
ملحوظة: رغم أن الحرس الجمهوري يملك قوة مدرعة ذات شأن، مؤطرة في لواءين مدرعين، لكن قدراته القتالية الفعلية لا تسمح له بالمشاركة في صراع عالي الشدة
تتكون المنطقة المركزية العسكرية من:
(أ) الفرقة الثانية مشاة ميكانيكي ومقرها فى معسكر الهايكستب شمال شرق القاهرة وتتكون من:
اللواء 56 مدرع
اللواء 4 مشاة ميكانيكي
اللواء 120 مشاة ميكانيكي
اللواء 51 مدفعية متوسطة
(ب) الفرقة التاسعة المدرعة وتقع في منطقة دهشور جنوب غرب الجيزة وتتكون من
اللواء 90 مشاة ميكانيكي
اللواء 71 مدرع
اللواء 72 مدرع
اللواء 44 مدفعية متوسطة
وبلا شك هي أهم وأقوى تشكيلات المنطقة المركزية، بل أقوى فرقة مدرعة في مصر حاليًا، وتم تحديثها على عدة مراحل، آخرها كانت في أواخر عام 2012 حيث حدث تفتيش الحرب الشهير الذي طالب فيه الفنانون السيسي بالتدخل لإنقاذ البلد.
M1A دبابات الفرقة حاليًا كلها آبرامز 1
هذه الفرقة هي من قامت بالعبء الرئيسي فى سحق تمرد الأمن المركزي فى الثمانينات، وتسليحها قوي ومتضخم بشكل غريب، فيمكن اعتبارها مماثلة للفرقة الرابعة المدرعة في سوريا، يعني فرقة موالية للنظام ودورها الأساسي الحفاظ عليه وسحق أعدائه.
فالكتائب المدرعة في هذه الفرقة 40 دبابة بدلًا من 31 في كتائب الفرق الأخرى، والأسلحة المعاونة من نوعيات أفضل وبكميات أكبر.
بينما كتائب M- فمثل اللواء 44 مدفعية مسلح بمدافع 155 ملم طراز 109
SPH- المدفعية فى اللوية 71 و 72 مسلحة بمدفع ذاتي الحركة طراز 122
(في الفرق الأخرى كتائب المدفعية الملحقة بالألوية عادة ما تكون مجرورة)
مما يعطي مرونة كبيرة لألوية الفرقة وقدرة على القيام بعمليات هجومية بدون الاعتماد على مدفعية الفرقة
وكتيبة أخرى M901 ITV محملة على عربات TOW وهناك كتيبة صواريخ تو محملة على عربات الهامر (همفي) تعمل مع اللواء مشاة ميكانيكي، إلى جانب سريتن ملحقتين بكل لواء مدرع.
والدفاع الجوي الخاص بالفرقة يتكون من كتيبة صواريخ موجهة قصيرة المدى طراز شابرال + مدافع 23 ملم تعمل مع الألوية وهذا يعطيها استقلال كبير.
(جـ) يوجد في المنطقة المركزية إضافة لما سبق:
لواء مدرع مقل (مستقل)
2 لواء مهندسين عسكريين: لواء إنشاءات ولواء مياه (بني يوسف)
2 لواء مدفعية طويلة المدى
والكتيبة 9 استطلاع خلف خطوط العدو
والكتيبة 10 استطلاع جوي/ طائرات بدون طيار
ثانيًا: وحدات التدخل السريع:
مقطع نشره الجيش لعملية تدشين هذه القوة
M- التشكيلات التي ظهرت تضمنت كتيبة مدرعة مسلحة بدبابات باتون 60 وكتيبة أو اثنين مشاة ميكانيكي مسلحة بعربات مدرعة هولندية A3.
وفوج دفاع جوي مسلح بالشابرال وعربات مدرعة مدولبة YPR- طراز 765 فرنسية طراز رينو شيربا وجنوب إفريقية طراز ريفا (عربات مقاومة للألغام).
IEDs أو عبوات الطريق المرتجلة
وكان من الواضح أن هناك تخبط في عملية إنشاء القوة والمهام المكلفة بها، فكيف ستعمل دبابة باتون وزنها 58 طنًا في قوة تدخل سريع؟ وكيف سيتم نقلها سريعًا لمسرح العمليات؟
ثم ظهرت مناورة أخرى في 2015
يبدو فيها أن الدبابات ستنقل من خلال عملية إبرار بحري
المناورة تمثل القيام بعملية في مسرح عمليات مجاور لمصر، مثل ليبيا، تقوم القوات الخفيفة بمهاجمة هدف من خلال عملية إبرار جوي بمروحيات النقل تشينوك ومي 17 مع غطاء جوي من المقاتلات ودعم ناري بالمروحيات الهجومية أباتشي وجازيل، ثم يتم تعزيز القوة بعملية إبرار بحري (بعد السيطرة على رأس جسر) تتضمن دبابات وعربات مدرعة وراجمات صواريخ، وربما مدفعية ذاتية الحركة
وكانت هناك شائعات أن قوة التدخل السريع ستحظى بأسلحة حديثة من روسيا بتمويل إماراتي، لكن الواضح أن التسليح الجديد الوارد من BTR – روسيا سيقتصر على صواريخ كورنيت وعربات مدرعة روسية طراز82A.
يعني ومن خلال سيناريو المناورة فإن الهدف المؤكد من إنشاء القوة هو القيام بعمليات عسكرية في ليبيا، لدعم حفتر ومهاجمة معسكرات تنظيم الدولة وأنصار الشريعة، طبعًا مسرح عمليات يجب أن يكون قريب من الساحل، ومن ثم تسليم هذا المناطق لقوات محلية تابعة لحفتر وحلفائه، وغالبًا ستشمل السيطرة على الموانئ والمرافق النفطية ومعامل التكرير وكلها قريبة من البحر.
ثالثًا: التغييرات التي حدثت بنوع التسليح لتناسب تلك التغييرات الجديدة:
بعد أن كانت مصر ترفض بعهود مبارك وطنطاوي ومرسي توقيع اتفاقية cismoa، فقد وقعتها بعهد السيسي، وتلك الاتفاقية اختصارًا هي اتفاقية تسمح للقوات الأمريكية بتسهيلات مرور برية وجوية وبحرية إلى مواقع عملياتها ارتكازًا وعبر الأراضي المصرية، وربط عملياتي بين الجيش المصري والجيش الأمريكي، مما يعني انكشاف كامل “للسيادة المصرية” أمام الجيش الأمريكي، وقد رافق قبول تلك الاتفاقية إتمام صفقات تسليح بالمقابل، وهي صواريخ جافلين وTow-2b وإتمام تركيب صواريخ امرام على طائرات F16 الممنوحة لمصر، حيث كانت مصر قبل قبول الاتفاقية تتسلم طائرات F16 بدونها.
اتفاقية لربط نظم الاتصالات وقت العمليات بين القوات الأمريكية والقوات المصرية تسمح للقوات المصرية بطلب دعم فوري من القوات الأمريكية والعكس، وهو بالمناسبة نفس ما تستخدمه أمريكا الآن في التنسيق مع القوات العراقية في الحرب ضد داعش.
صفقات أسلحة بعهد طنطاوي أو المجلس العسكري كلها لمكافحة الإرهاب أكتر من 1000 مدرعة رينو شيربا وعربات جوركا كندية كلها لمهام مكافحة الإرهاب، ومدرعات خفيفة مقاومة للألغام تعمل فى كل التضاريس.
إعادة تنظيم بنود المعونة العسكرية الأمريكية لتشمل أربعة مجالات رئيسية، سيتم تطبيقها بدءًا من 2018 وهي: أمن الحدود وأمن الحدود البحرية وأمن الممرات المائية (قناة السويس) ومكافحة الإرهاب، وهو ما يعني انتهاءً رسميًا لفلسفة المعونة العسكرية السابقة التي كانت تقضي بأن المعونة بالأساس هي لتحقيق التوازن بين القوة العسكرية المصرية والإسرائيلية، أو تحديدًا بين التفوق الجوي الإسرائيلي والدفاع الجوي المصري، بمعنى آخر لم تعد المعونة مرتبطة إطلاقًا بالتوازن مع العدو الإسرائيلي – إن كان مازال عدوًا -، إنما بالتهديدات المستحدثة، وكذلك لم تعد صفقات السلاح الكبرى ضمن الخط الائتماني للمعونة من دبابات ومدفعية ومدرعات وطائرات، إنما المرجح أن تكون اتفاقيات مثل الـ cismoa سالفة الذكر وما سيعقبها من اتفاقيات هي إطار توريد الصفقات الكبرى للسلاح، بمعنى آخر سيكون التسليح من الآن ليس مرتبطًا بجدلية الصراع/ السلام العربي الإسرائيلي، وإنما التحديات الناشئة التي ستعيد تشكيل المنطقة ككل، وتصعد بنظام إقليمي جديد قيد التشكل الآن، وحتى التدريب بالرغم من أنه مازال ضمن بنود المعونة العسكرية، ولكن ستكون الأطر الأهم هي تدريب قوات التدخل السريع، وغيرها مما سيتم استحداثه – بالمناسبة المقر الرئيسي لتمركز قوات التدخل السريع هو مطار غرب القاهرة العسكري، الذي كما سبق وأسلفنا نقطة تجميع القوات الأمريكية وإعادة انتشارها بالمنطقة، وهي نفس القوات التي أشرفت بالفعل على تكوين قوات التدخل السريع.
استمرار الإمداد بصواريخ الهيلفاير وقطع غيار الأباتشي حتى بالوقت الذي كان هناك فيه حظر على استمرار صفقات السلاح لمصر.
ما سبق هو ما يمكن أن نطلق عليه ملخص للتغييرات التي حدثت على المستوى العملياتي والتكتيكي بعام حكم السيسي، والذي من المنتظر أن يفضي لتكون عقيدة عسكرية جديدة مازالت إلى الآن قيد التشكيل.
وفي خاتمة هذه المقالة، بالرغم من أن الغرض منها عرضًا موضوعيًا لتطور العقيدة القتالية المصرية، وليس تقديم رأي، ولكن يجدر أن نختم بتنويهين:
سبق وقلنا إن الأرجح أن المدرسة القتالية المصرية تتبع مدرسة ليدل هارت بالتخطيط العسكري الاستراتيجي، ومما شرحنا من ملخص لفكر تلك المدرسة فهي بالأساس مدرسة للتفكير الخطي، أي الحشد تجاه ضربة رئيسية إلى قلب العدو أو نقطة ضعفه الرئيسية، وعدم الالتفاف إلى جيوب المقاومة، بينما طبيعة التهديدات التي يواجهها نظام السيسي بالأساس إنما هي جيوب للمقاومة أصلًا، وليست جيوشًا كلاسيكية يمكن أن تحدد نقطة رئيسية لحشد قواتك لضربها، لذا طالما لم يتغير هذا التفكير الخطي فمهما حدثت من تعديلات على المستوى العملياتي والتسليحي، فلا يتوقع لها أن تحدث النتيجة المأمولة، فقط كل ما سيحدث هو سحب للقوات من التوازن مع العدو الحقيقي، إلى حامية القاهرة أو المنطقة المركزية العسكرية، وهو ما سيجعل عدو النظام ينتقل إلى عقر داره أو القاهرة بيده لا بيد غيره!
ولعل الجيش المصري يفهم أو يدرك تلك التعقيدات لذا ستكون أهم التغييرات الاساسية في العقيدة القتالية ضمن إطار التحول الغربي هو تبني عقيدة الصدمة المستندة أساسًا لقوة الطيران لإحداث صدمة تشل العدو مما يسهل التقدم على الأرض وهو تكتيك الجيش الحالي، وصفقات الطيران الأخيرة وحاملات الطائرات تأتي بهذا الإطار.
في الوقت الذي يحدث هذا التحول الجذري بالعقيدة القتالية المصرية والقوات المسلحة المصرية، يحدث تحول آخر للفاعلين من غير لدول، من سوريا إلى أجدابيا وسرت، مرورًا بالطبع بسيناء، وهو تحولهم لنمط الحرب الهجينة، أي الدمج بين أسلوب حرب العصابات والجيوش الكلاسيكية، بمعنى إيجاد خطوط دفاعية ونقط حصينة كما الجيوش النظامية وترك الدفاع عنها وتثبيتها إلى أساليب حرب العصابات، ومع مستوى تسليح لم يعهد مسبقًا أن امتلكته ميليشيا، فبالتالي تخلي المؤسسة العسكرية المصرية عن الجانب الاستراتيجي لحساب الجانب الأمني ربما تكون كذلك الثغرة الرئيسية أو المعادل لثغرة الدفرسوار في تلك الحرب الجديدة التي ربما تجعل مصير الجيش المصري قريب الشبه من شقيقه السوري حاليًا!