تحدثنا في المقال السابق حول طبيعة العلاقة بين إيران والقضية الفلسطينية بعيد الثورة الإسلامية، والدافع خلف تلك الحفاوة الكبيرة التي تلقاها ياسر عرفات ورفاقه من نظرائهم الإيرانيين والتي توجت بفتح تمثيليات لمنظمة التحرير في العاصمة الإيرانية طهران ومختلف المدن الإيرانية بما فيها الأهواز، وقطع جميع العلاقات مع إسرائيل.
غير أن هذه الحفاوة التي كانت مدفوعة بشكل رئيسي بالحماسة الثورية سرعان ما اصطدمت بالحقائق التي أثرت بشكل جوهري على منحى العلاقة بين إيران والقضية الفلسطينية أو بشكل أدق بين إيران ومنظمة التحرير الفلسطينية، وقد لوحظت بدايات هذا التباعد منذ اللقاء الأول الذي جمع بين الزعيمين الإيراني والفلسطيني.
ففي اللقاء الذي جمعهما سنة 1979 صارح الخميني ياسر عرفات بضرورة تخليه عن المنطلقات القومية والعلمانية في الثورة الفلسطينية واستبدالها بالمنطلقات الإسلامية، وهو الأمر الذي لم يكن بمقدور الرجل القبول به في ذلك الوقت نظرًا للظروف السياسية والأمنية التي كانت تعمل وفقها الثورة الفلسطينية.
وفي هذا السياق فقد لعبت ثلاثة عوامل أدوارًا محورية في التباعد الذي وقع بين الثورتين الإيرانية والفلسطينية، كان أولها الاختلاف الأيديدولوجي بين الثورتين، فقد كان الخميني – كما أسلفنا – صريحًا في رغبته بإضفاء البعد الإسلامي على القضية الفلسطينية، حيث كان يرى في الأيديولوجية القومية التي كانت طابع حركات التحرر الوطني في ذلك الوقت أداة من أدوات الإمبريالية، وأنها مخالفة لتعاليم الإسلام، وعليه فإن توظيفها في الصراع مع الكيان الصهيوني لن يجد نفعًا.
وكان يجادل بأن القضية الفلسطينية ببعديها الإسلامي والمقدس سوف تحقق انتصارات كبيرة إذا ما عادت الثورة الفلسطينية إلى جذورها الإسلامية، غير أن الظروف الموضوعية والشخصية لم تكن تسمح بهذا التحول؛ فعلى الجانب الشخصي لم يكن الرئيس الراحل ياسر عرفات مهيأ لمثل هذا التحول الدراماتيكي في منطلقات الثورة الفلسطينية، أما على الجانب الموضوعي فإن الواقع الفلسطيني – كما يجادل فهمي هويدي في كتابة “إيران من الداخل” – لم يكن بمنظماته العلمانية واليسارية ودور المسيحيين الفلسطينيين في الثورة” مهيئًا لمثل هذا التحول أيضًا، ولا حتى “الواقع العربي – الذي كان له بعض التحفظات على هذا الطرح وهي تحفظات صادرة عن أنظمة عربية لا تستطيع الثورة الفلسطينية تجاهلها”، بالإضافة إلى “تعقيدات الواقع الدولي الذي قد يجد في هذه الخطوة ذريعة إضافية لمزيد من التعنت في رفض الحق الفلسطيني”.
أما العامل الثاني فقد تمثل بالصورة الطوباوية التي كانت قد تشكلت في أذهان الثوار الإيرانيين عن الثورة الفلسطينية ورجالاتها، كان اتصال الثوار الإيرانيين بالثورة الفلسطينية بشكل مباشر محدودًا قبل الثورة الإسلامية، حيث اقتصرت على بعض الأفراد الذين تدربوا في معسكرات منظمة التحرير في لبنان من أمثال محمد منتظري، وحسين كروبي، ومحمد الحسيني، وجلال الدين الفارسي، وعباس زماني.
محدودية التواصل هذا أفسح المجال واسعًا لبناء صورة ذهنية مثالية عن الثورة الفلسطينية في أذهان الإيرانيين، لاعتقادهم أن الثوار الفلسطينيين الذي يكافحون في سبيل الأرض المقدسة وتحرير المسجد الأقصى لا بدَّ أن يكونوا من المجاهدين الذين يتمتعون بأعلى أوصاف الكمال والنزاهة والالتزام الديني، هذه الصورة المتخيلة سرعان ما انقلبت رأسًا على عقب بعد أن أصبح هناك احتكاك مباشر بين الثوار الإيرانيين وبين وفد منظمة التحرير الفلسطيني الأول الذي كان يرأسه هاني الحسن – وهو أول ممثل لمنظمة التحرير في طهران.
ظن الإيرانيون أن هؤلاء نموذج عن المجاهدين الفلسطينيين، ولكن ما اكتشفوه كان مغايرًا تمامًا لما تصوروه حيث هالهم أن يطلب هذا الوفد شرب الخمر، واللعب بالورق حتى ساعة متأخرة من الليل، وعدم الاستيقاظ لصلاة الفجر ومشاهدة الأفلام!
أما العامل الثالث فقد تمثل باختلاف الزاوية التي نظر منها كل طرف إلى الطرف الآخر، كانت الزاوية التي نظر منها الإيرانيون للثورة الفلسطينية في البداية تتمحور حول البعد الأيديولوجي للقضية، وما تمثله من رمزية إسلامية، وعندما كان الخميني يسعى إلى جعل الثورة الإسلامية نموذجًا سياسيًا مستقلًا للعالم الإسلامي، فقد كانت القضية الفلسطينية بهذه الرمزية ذات أهمية اعتبارية في السياسة الإيرانية بعيد الثورة.
على النقيض كانت منظمة التحرير وفصائلها المنخرطة في الثورة الفلسطينية تنظر إلى الثورة الإيرانية من منظور ثورات العالم الثالث التي كانت تقوم ضد الإمبريالية والراسمالية الغربية، وتحمل في الغالب شعرات يسارية واشتراكية، ولذلك فلم تكن اعتبارات الأيديولوجية الدينية حاضرة في أذهانهم؛ ففي واحدة من أشهر تصريحات هاني الحسن أكد فيها أن وقوف الثورة الفلسطينية في نفس الخندق مع الثورة الإيرانية الإسلامية إنما يأتي لأن “خط الإمام الخميني ضد الإمبريالية وضد الدكتاتورية وضد الصهوينية، وأن الشعوب العربية تقف معه في معركته ضد الإمبريالية الأمريكية”.
أدت هذه العوامل الثلاثة مجتمعة إلى تباعد الطرفين الإيراني والفلسطيني سريعًا بعيد زوال حالة النشوة التي صحبت الأيام الأولى من اللقاء، حيث وضعت السلطات الإيرانية مقر منظمة التحرير في العاصمة طهران تحت الرقابة المشددة، وأغلقت جميع مكاتبها في باقي المدن الإيرانية، وعلى الرغم من بقاء ممثل لمنظمة التحرير في طهران ومعاملته وفق البروتوكولات الدبلوماسية إلا أنه لم يحظ مطلقًا بأي حفاوة خاصة تنم عن خصوصية يستحقها.
بعد ذلك بقليل وقع حادثان أثرا بشكل جوهري على مسار السياسة الإيرانية بشكل عام، وفي تعاطيها مع القضية الفلسطينية بشكل خاص تمثلا أولاً: بحادث السفارة الأمريكية في طهران والذي عكس مقاربة إيران لسياستها الخارجية من السياسية الدفاعية (Definitive Policy) إلى سياسة المواجهة (Confrontational Policy)، وثانيًا: الحرب العراقية – الإيرانية والتي فرضت على الثورة الإسلامية تغيير تام في أولوياتها الاستراتيجية، وانتقالها من مربع تصدير الثورة إلى مربع المحافظة عليها، وإبقائها على قيد الحياة.
وبناء على ذلك فقد شكل العراق في الاعتبارات الإيرانية في فترة حكم الخميني التهديد الأبرز الذي لا بد من التغلب عليه للحفاظ على منجزات الثورة، وأصبحت المقاربة الإيرانية تجاه العراق زمن الخميني تأخذ ذات السياقات التي كانت تأخذها المقاربات الإيرانية تجاه الاتحاد السوفيتي زمن الشاه محمد رضا، وعليه فقد كان الفوز بالحرب على العراق على قمة أولويات الخميني، وقد وجد الرجل في القضية الفلسطينية رصيدًا هامًا تم توظيفه في معركته ضد العراق، فكيف إذن تم هذا التوظيف، هذا ما سوف نستعرضه في المقالة التالية من هذه السلسلة.