بأواخر القرن الرابع الهجري، ضعفت شوكة الخلافة العباسية وساءت الأحوال الاقتصادية، نشأت في هذه الفترة الحركات الشيعية ونشطت باليمن والمغرب، ونشأت بالحجاز أكثر من جماعة للشيعة عملت بسفك الدماء والهجوم على قوافل الحج بل والهجوم على الحج يوم عرفة وارتكاب مجزرة شنيعة، إذا تحدثنا عن الصراع بين العرب وهوارة فلابد أن نبدأ من هنا من الحجاز ومن هذه الفترة بالذات.
كانت قبيلتا بني سليم وبني هلال القيسيتان تعانيان من هذه الأزمة الاقتصادية فعملوا بالسلب والنهب والتمرد والترحال، وقبيلة بني سليم يشهد لها بأنها كنز الرجال والأبطال وأرض الجياد الأصيلة فهي منبع للشجعان والفرسان الأشداء، فقد استنجدت بهم قريش يوم الأحزاب ليستعملوهم معهم في الحرب ضد الرسول وكانوا ضمن الأحزاب، ولذا جهزت الخلافة العباسية جيشًا نظاميًا لقتال هاتين القبيلتين وكان بين العباسيين والعرب سواء القيسية أو اليمانية عداوة متبادلة، وخاصة عندما سيطر العنصر التركي وأسقط العرب من ديوان الحرب بعهد المعتصم، فصاروا بلا مهمة بالتاريخ الإسلامي وصارت سيوفهم ضد الخلافة بعدما تخلت عنهم، لدرجة أن الخليفة أبو جعفر المنصور وصى ولده ألا يتزوج من بني سليم، فعاتبه الشاعر السليمي يذكره أن الرسول له ثلاث جدات من بني سليم قائلًا:
اذكروا حرمة العواتك منا يا بني هاشم بن عبد المناف
قد ولدناكم ثلاث ولاداتٍ خلطن الأشراف بالأشراف
مهدت هاشمًا نجوم قصي من بني فالج حجورً عفاف
قال ابن خلدون: وأما بني سليم هؤلاء فبطن متسع من أوسع بطون مضر وأكثرهم جموعًا، وهم بنو سليم بن منصور بن عكرمة بن خصفة بن قيس، وفيهم شعوب كثيرة.
وقال الحمداني: وهم أكثر قبائل قيس عددًا، وفيهم الأبطال الأنجاد، والخيل الجياد.
استفادت حركة القرامطة من هذه العداوة بين قبيلتي بني سليم وبني هلال وبين الخلافة وشكلوا معهم حلفًا ضد السلطة العباسية، فملأوا الحجاز سلبًا ونهبًا، وبعدما سقط القرامطة حكم بنو سليم البحرين فهزمهم العباسيون فانحسروا بالحجاز حتى ظهر، في ذلك الوقت، الفاطميون، أعلن عبيد الله المهدي انشاء الدولة الفاطمية الشيعية مستقلة عن العباسيين بالمغرب وبني مدينته المهدية التي تقع في شبه جزيرة.
بدأ نفور البربر وهوارة من الشيعة بعد جهرهم بالرفض وكان أغلب هوارة على مذهب الخوارج كرهوا ما تفعله دولة الفاطميين ولعنهم للشيخين أبو بكر وعمر وبدا من عقيدتهم الفساد والكفر، فبدأ الهوارة في مسيرة ثورية ضدهم وخاصة بعدما قتل عبيد الله المهدي معلمه ومؤسس الدولة الحقيقي عبد الله الشيعي ووصل بعبيد الله المهدي أن ادعي النبوة والرسالة واعترضه العلماء يقولون له لو كانت الشمس عن يمينك والقمر عن يسارك يقولون إنك رسول الله ما قلنا نحن أنك رسول الله.
ولقد أخذ دعاة الشيعة وشعرائهم يدعون أن المهدية كمكة وقصر عبيد الله هو الكعبة، فبدأت سلسلة من الثورات المتتالية والدامية لم تستقر فيها الأمور حتى وفاة عبيد الله المهدي وتولية ابنه المنصور، وكان غير والده الزنديق فتقبله البربر، فقد قال عنه الذهبي: كان بطلًا شجاعًا، رابط الجأش، فصيحًا مفوهًا يرتجل الخطب، وفيه إسلام في الجملة وعقل بخلاف أبيه الزنديق.
التحقت هوارة بجيش العبيديين وقبائل كتامة وصنهاجة وبنوا القاهرة مع المعز لدين الله ولهم بوابة بإسم بطن من بطونهم اسمها بوابة زويلة، وكان لهوارة القيادة في الجيش والإمرة على الأراضي، استدعى الفاطميون عندما حكموا مصر القبائل العربية لتدعمهم، ولأنهم يدعون عرقهم العربي ونسبهم الشريف ففضلوا أن يجعلوا لهم عصبة بمصر، فدعوا القبائل العربية المختلفة وذوي النسب الشريف أن ينزلوا بمصر ليكونوا لهم عزوة وجندًا، دعيت قبيلتي بني سليم وبني هلال من قِبل الخليفة الفاطمي فأسكنهم مصر ورحب بهم واعتبرهم زخرًا له، فهم من كانوا عمادًا لحركة القرامطة وبني سليم وبني هلال، هم من هجموا على الحج مع القرامطة وأخذوا الحجر الأسود للكوفة وتوقف موسم الحج لسنوات بسبب سفك الدماء بهذه الواقعة، هاتان القبيلتان عين كل من يريد الاستقواء والتوسع، فلم يفت الفاطميون أن يستعينوا بهم ويجلبوهم إلى جيشهم ومصرهم.
ولكن حدث ما لم يكن في الحسبان بعهد المستنصر، لم تكف القبائل العربية عن سلبها ونهبها لدرجة لم تطيقها الحكومة الفاطمية، نشب صراع بين العرب وهوارة هنا، كان بين الحلف الهلالي السليمي وبين هوارة الفاتحين الأمراء صراع قبلي، في هذه الأثناء كان التاريخ يأخذ تدابيره من ناحية أخرى.
المعز بن باديس، يقال إنه هو الزناتي خليفة المذكور بالسيرة الهلالية، لقد ظهر بالمغرب المعز بن باديس الصنهاجي، وقد وصف المؤرخون المعز بن باديس بأوصاف في غاية الروعة والجمال، فقال فيه الذهبي، “وكان ملكًا مهيبًا، وسريًا شجاعًا، عالي الهمة، محبًا للعلم، كثير البذل، مدحه الشعراء، وكان مذهب الإمام أبي حنيفة قد كثر بإفريقية فحمل أهل بلاده على مذهب مالك حسمًا لمادة الخلاف، وكان يرجع إلى الإسلام، فخلع طاعة العبيدية وخطب للقائم بأمر الله العباسي، فبعث إليه المستنصر يتهدده، فلم يخفه”.
وجه المعز بن باديس ضربة قاسمة للعبيديين بلبس السواد وإعلان التبعية للعباسيين ورفع الحكم الفاطمي الشيعي، كان الشيعة يعتمدون بشكل كبير على القبلية ويرفضون التسنن ويضيقون على السنة كثيرًا، يرهبوهم، يعتقلوهم، ويقتلوهم إن لزم الأمر، عندما أعلن المعز دولته الصنهاجية التابعة للعباسيين، كانت ضربة موجعة للعبيديين، استشاط المستنصر غضبًا وهنا جاءت الفكرة الذكية من وزيره أبو محمد بن علي اليازوري، وهذه الفكرة تقول أن يجهز الخليفة قبيلتي بني سليم وبني هلال بالمال والعتاد والسلاح والعطايا والهدايا، وأن يقول لهم اذهبوا للمغرب وقاتلوا وما فزتم به فهو ملككم، ولو فازت القبائل علي الدولة الصنهاجية الهوارية فهذا نصر للشيعة ولا شك، ولو خسرت فأيضًا نصر للخليفة ولا شك لأنه تخلص من قبائل مشاغبة خربت البلاد وأنهكت الحكومة.
وقد ذهب الوزير وتواصل مع القبائل وجري الصلح بين بطون الهلالية وبين بطون بني سليم وجهزتهم الدولة وأغدقت عليهم العطايا والهدايا وجهزتهم في جيش وخرجوا للحرب، اجتمع المستنصر العبيدي بهم وأباح لهم إفريقية يفعلون فيها ما يشاءون، وقال لهم، “لقد أعطيناكم إفريقية وملك ابن باديس فلا تفتقرن بعدها“.
وعندما تحركت جموع العرب في 442هـ – 1050م، أرسل الوزير العبيدي إلى المعز بن باديس رسالة قائلًا، “أما بعد، فقد أرسلنا إليكم خيولًا فحولًا، وحملنا عليهم رجالًا كهولًا، ليقضي الله أمرًا كان مفعولًا”، وقال المستنصر وقتها، “والله لأرمي ابن باديس بجيوش لا أتحمل فيها مشقة!”.
اقترعت بني سليم وبني هلال فكانت برقة وليبيا من نصيب بني سليم وتونس والجزائر من نصيب بني هلال، يقول ابن خلدون، “لقد عم ضررهم وأحرق البلاد والدولة شررهم”.
بدأ الصراع الدامي بين القبيلتين وهوارة، ملكوا رقابهم وبلادهم وحكموهم بالسيف والسوط، وكان بني سليم وبني هلال أقوى وأعتى وأكثر فروسية وبطولة بهذا النحو من القتال، إضافة أن المعز بن باديس لم يراع القبيلة فقرب منه أناس فقراء وكان يرضي الجميع وهذا لم يعجب قبائل هوارة، فنشأت خلافات داخلية، تراجع هوارة أمام الزحف السليمي والهلالي فملكت هاتان القبيلتان المغرب وهزمت هوارة، ونشبت سلسلة من الحروب والصراعات الدموية لا يتخيلها بشر، بدا كعصر ظلام تسلطت فيه القبائلية والجاهلية، يقول ابن خلدون لم ينزل العرب بمكان حتى يحل به الخراب والدماء.
بدأ القرن الخامس الهجري والحملات الصليبية ثم ظهر صلاح الدين الأيوبي وأنهى الخلافة الفاطمية للأبد، قاتل أخيه العادل القبائل العربية الموالية للفاطميين بالداخل وتعرضت دولة الأيوبيين الوليدة للمؤامرات، لدرجة أنهم ساعدوا الصليبيين ليقضوا على هذه الحركة الأيوبية التي أنهت حكم العرب لمصر وتولاها أكراد.
أرسل صلاح الدين الأيوبي شرف الدين قراقوش إلى إفريقية للتوسع فيها، يقول أحد المؤرخين إنه كان هناك خلافات بين صلاح الدين ونور الدين محمود وكان يخشى على نفسه ويريد تأمين مساحة لنفسه بإفريقية وهذا أمر ضعيف، والأمر الأخر لإزالة حكم الفاطمين واجتثاث حكم حلفائهم ببلاد المغرب لأنهم يشكلون خطورة كبيرة، وهم قبيلتا بني سليم وبني هلال، توجه شرف الدين قراقوش وبدأ معركته مع قبيلة بني سليم، في نفس الوقت كانت هناك قبيلة صنهاجية اسمها بنو غانية يعملون على انشاء دولة لهم وخلع الطاعة عن دولة الموحدين بالأندلس؛ فعملت هذه القبيلة الهوارية بمعاونة من العرب من بني هلال وبني سليم الذين يريدون خلع طاعتهم عن الموحديين أيضًا فسهلوا لها تكوين دولة بالمغرب، تحالف بنو غالية مع شرف الدين قراقوش عندما التقت نواياهم على اسقاط دولة الموحديين بالمغرب فشكلوا قوة عظيمة ضد الدولة الموحدية، احتاج صلاح الدين الأيوبي من الدولة الموحدية أسطولها في حربه الضروس ضد الفرنجة الصليبيين فأرسل لقراقوش أن ينسحب من إفريقية ويقدم اعتذاره للدولة الموحدية، وقد فعل قراقوش ذلك إلا أن الخليفة الموحدي بالأندلس لم يطمئن لصلاح الدين الأيوبي ونواياه التوسعية، وكذلك كان عليه هو الأخر ضغط كبير من قِبل الفرنجة وحملاتهم.
رجع قراقوش للحرب بإفريقية بعدما لم يقبل الموحدي اعتذاره وتوبته ولكن رجوع قراقوش هذه المرة كان رجوعًا جنونيًا، لم ينتظر أوامر صلاح الدين حتى، كان يشعر أن صدامه مع بنو غانية قادم لا محالة فهما الاثنان يعملان من أجل السلطة إما هو وإما هم، فكان يجمع الرجال والأموال ويكيل الخدع والحيل، ففعل ما لم يكن في الحسبان، أقام مأدبة لسبعين شيخًا من كبار شيوخ بني سليم وبني هلال وفعل بهم ما فعله محمد علي بالمماليك يوم مذبحة القلعة غدر بهم وقتلهم جميعًا، ومنهم محمود بن طوق التي تنسب إليه قبيلة المحاميد، وحميد بن جارية الوشاحي، ثم حاربته سليم واستعانوا بيحيى الميورقي الأندلسي، وقيل أصله من بني سُليم.
عادت معظم قبيلتي بني سليم وبني هلال بعهد المماليك إلى مصر، وجدت القبائل العربية في حرب ضروس بينها وبين الخوارج “وهذا ما كانت تعتبره العرب ناحية الأيوبيين والمماليك ” تحتقر أصلهم المجهول وأجنبيتهم وترى أن العرب هم الأحق بالسلطة والغنائم، وكان المماليك يواجهون هذه الثورات بكل حزم وقوة وشراسة لدرجة أن ابن الصيرفي ذكر كيف كان المماليك يصلبون المتمردين في الطريق من الصعيد إلى القاهرة، وكيف كانوا يشوونهم بالنار بل وصلت بهم الشراسة أن يدفنوهم أحياء، ولكن هل كان تعامل المماليك القاسي رادعًا؟ بالعكس كان يؤجج نار التمرد والثورة ضدهم أكثر وأكثر، ثارت هوارة أيضًا ضد المماليك بقيادة بدر بن سلام فتم تهجيرهم من البحيرة إلى الصعيد، وقد تم تخريب وتجريف الصعيد بفعل الحروب المستمرة بين العرب والمماليك.
أقطع الأمير برقوق لإسماعيل بن مازن الهواري ناحية جرجا وكانت خرابًا فعمرها وأقام بها حتى قتله علي بن غريب منهم، فولي الأمر بعده عمر بن عبدالعزيز الهواري حتى مات فولي بعده ابنه محمد المعروف بأبي السنون حتى مات، فولي بعده أخوه يوسف بن عمر.
وقد ترجم ابن حجر لإسماعيل بن مازن الهواري فوصفه بأنه احد أكابر أمراء العرب الهوارة بصعيد مصر وأنه توفي سنة 789هـ -1387م وخلف أموالًا كثيرة وهو كبير قبيلة مازن بسوهاج، وقد استقر الهوارة في الصعيد وعملت بالزراعة وقصب السكر بالخصوص والعمل في دواليبه لاعتصاره وتشعبت لهم فيه فروع كثيرة وصارت إمرة عربان الصعيد كله لأحد رؤسائهم وهو الأمير عمر بن عبدالعزيز الهواري، الذي أخذ لقب الإمارة رسميًا لأن العادة المملوكية القديمة كانت تقضي بأن يعين السلطان علي كل قبيلة من قبائل العرب أميرًا منها ويكتب له تقليدًا سلطانيًا بذلك، ويلبس الأمير العربي حينئذ تشريفًا أطلس أسوة بأقرانه في الترتيب الإقطاعي المملوكي.
وقد ذكر أبو المحاسن أن الأمير عمر بن عبد العزيز الهواري هو والد بني عمر أمراء الصعيد وأنه أول من ولي الإمرة على الصعيد، وهنا صار هوارة أمراء الصعيد، وبعدما تخلت هوارة عن طومان باي ولم تقاتل معه العثمانيين قائلين له: لا نقاتل معك السلطان! فمنذ هذه اللحظة صار هوارة حلفاء العثمانيين فأكرمهم السلطان وكانوا يراسلونهم مباشرة، فقد ذكر أحد الرحالة الأجانب عندما زار الصعيد بعهد الهمامية بأن السلطنة العثمانية تراسل أمراء الصعيد مباشرة، استقرت الأمور أكثر بعدما شرعوا الالتزام فبدأت المنافسات من أجل الالتزام بين العرب وهوارة وكان العرب يحتقرون هوارة لأصلهم البربري، فانتسب هوارة لقبائل بني سليم وتزاوجوا معهم فصارت بني سليم هوارية وصار هوارة عرب بهذا النسب واتسعت رقعة الالتزام، ثم نشبت حرب بين الهمامية والجعافرة تحالفت فيها الأحلاف فهزم هوارة العرب من أسرة الإخميمي فأخذوا أرضهم وكذلك هزموا الجعافرة واستمرت العداوة فصارت الأنساب تندمج مع هذا الصراع القبلي فيصير النسب تبعًا للحلف.
علت هوارة علوًا كبيرًا بعهد شيخ العرب همام بن يوسف فلقد دون الدواوين وجيش الجيوش وكانت له صفات حسنة من العدل والكرم والشجاعة والفروسية والنبل، وكان يحكم بالقسطاس، واتسعت رقعة الالتزام بوقته فصارت له دولة من المنيا إلى أسوان عاصمتها فرشوط، حتى تعرض للهزيمة بسبب صراعاته مع المماليك وثورته ضدهم، ثم جاء محمد علي باشا ولغى الالتزام وجعل كل شيء ملكه هو وحده.
تغيرت أمور كثيرة، ولكن مازالت هذه الصراعات والأزمة القديمة تسكن اللاوعي الصعيدي وتتسبب في أغلب الصراعات الموجودة بجنوب مصر، عندما نتحدث عن قبيلتي بني سليم وبني هلال فنحن نتحدث على أكثر من 60% من سكان مصر مع بقية القبائل الأخرى إضافة لهوارة، فنحن نتحدث على أزمة مصرية تليدة، لا حل لها إلا الوعي.