بطل العالم في الملاكمة في فئة الوزن الثقيل لثلاث مرات، الشخصية الرياضة الأكثر شعبية والأكثر إثارة للجدل في القرن العشرين، توفي مساء البارحة الجمعة في مستشفى بمنطقة فينيكس عن عمر يناهز الـ74 عامًا.
حمل محمد علي كلاي، ملاكم الوزن الثقيل الأكثر إثارة، إن لم يكن الأفضل على مر الزمان، إلى الحلبة أسلوب ملاكمة جسدي ومتراقص وغير تقليدي، تنصهر وتتناغم فيه السرعة والرشاقة والسلاسة بشكل لم نشهده لدى أي ملاكم من قبله، وربما من بعده أيضًا.
لكن كلاي لم يكن مجرد حامل لمجموعة مواهب رياضية، بل بعقله الرشيق، شخصيته المزدهرة، ثقته الصارخة بنفسه، وقناعاته الشخصية المتطورة، استطاع الملاكم استقطاب اهتمام لم تتسع له حلبة الملاكمه وحدها، حيث أبهر العالم بتصريحاته تمامًا كما أبهرهم بلكماته، ساردًا قصة حياته بهدير من الشعر الهزلي المبتكر.
كان علي أكثر نجوم العالم استقطابًا للاهتمام الذي أنتجه عالم الرياضة على مر التاريخ، حيث تلقى الإعجاب والذم على حد سواء خلال مسيرته في ستينيات وسبعينات القرن المنصرم، نتيجة لمواقفه الدينية والسياسية والاجتماعية.
رفض كلاي الانصياع لطلبه للقتال في حرب فيتنام، رفض الاندماج العرقي خلال ذروة حركة الحقوق المدنية، وتحوّل من المسيحية إلى الإسلام مغيرًا اسم “العبيد” الذي كان يحمله، كاسيوس كلاي، إلى الاسم الذي منحته إياه منظمة السود الانفصاليين، أمة الإسلام، ولكل ذلك، كان يُنظر إليه على أنه تهديد خطير من قِبل المؤسسة المحافظة، ولكن بالمقابل، كحامل لراية أفعال التحدي النبيلة من قِبل المعارضة الليبرالية.
سواء أكان محبوبًا أم مكروها، بقي علي لمدة 50 عامًا أحد الأشخاص الأكثر شهرة في العالم.
كاسيوس كلاي في عام 1954.
الأسطورة المتناقضة
في وقت لاحق من حياته أصبح علي أقرب لرجل الدين العلماني، أسطورة لا تمتلك الكثير من التركيز، لقد كان يحظى بالاحترام لأنه ضحى بأكثر من ثلاث سنوات من حياته كبطل للملاكمة وأموال كثيرة لم يتم احصاءها ليدعم مبادئه المناهضة للحرب بعد أن خرج من الحلبة، ولقد عظّمه الكثيرون لشهامته التي لم يركز فيها على نفسه رغم مواجهته لمرض عضال، ولقد كان محبوبًا لرقته المعسولة في الأماكن العامة.
في عام 1996، كان علي يرتجف وبالكاد يستطيع أن يتكلم عندما أشعل المرجل الأولمبي في أتلانتا، وهذه الصورة استبدلت تلك الصورة السلبية لاندفاع وثرثرة واختيال الشاب ذو الـ22 ربيعًا الذي ينحدر من لويزفيل بولاية كنتاكي؛ ففي الساحة العالمية وبعد أن حقق علي عام 1964 فوزًا غير متوقع على سوني ليستون ليصبح بطل العالم، أسمته الصحافة “حديث لويزفيل”، ولكنه أسمى نفسه بـ”العظيم”.
من حفل إشعال محمد علي للشعلة الأولمبية في أتلاتنا.
أثبت علي أيضًا بأنه بطل متغيّر الشخصية، فلطالما عمد لإعادة اختراع شخصيته مرارًا وتكرارًا؛ فبعد أن حمل الميدالية الذهبية في دورة الألعاب الأولمبية بروما لعام 1960، ردد خطاب الحرب الباردة في أميركا، وألقى المحاضرات على المراسل السوفييتي حول تفوق الولايات المتحدة، ولكنه تحوّل ليصبح أحد أشد منتقدي بلاده وأهداف حكومته في عام 1966 من خلال تصريحه “لا أمتلك أي تحيزات ضد الجبهة الوطنية لتحرير جنوب فيتنام (الفيت كونغ)”.
أثبت علي في مواقفه عدم اتساق وتذبذب في أحسن الأحوال؛ فكيف يمكن أن يعتبر نفسه رجلًا يحارب لتحقيق المساواة العرقية ويسخر بعدها من لون جلد وشعر وملامح الأمريكيين الأفارقة الآخرين، وعلى الأخص جو فرايزر، منافسه وخصمه في ثلاث مباريات كلاسيكية؟ حيث دعا علي فريزر بأنه “غوريلا”، وواصل الأخير بالإعراب عن مدى تأذيه من تلك العبارة لفترة طويلة بعد ذلك.
إذا كان هناك عبارة واحدة يمكنها أن تعنون البنط العريض لحياة علي فيجب أن تكون عبارة: “ليس عليّ أن أكون ما تريدونني أن أكون عليه، أنا حر في أن كيفما أريد”، تلك العبارة التي أطلقها في صباح فوزه بأول لقب في فئة الوزن الثقيل، تحكي لنا قصة كافة جوانب حياته، بما في ذلك الطريقة التي كان يلاكم بها.
أذهل علي جماهير الملاكمة التقليديين بأسلوبه، حيث كان يُبقي يديه منخفضتان للغاية، وبدلًا من التمايل يمنة ويسارًا لتفادي لكمات خصمه، كان يهرب منها بالانحناء إلى الخلف.
ولكن في نهاية المطاف أصبح نهج علي في الملاكمة هو السائد، فعلى مدى أكثر من 21 عامًا، فاز الأسطورة بـ56 نزالًا وخسر 5 نزالات، وإذا كان أسلوب علي بالمراوغة يشكّل نوعًا من التعالي المحض ضمن الحلبة، إلا أن طريقته بالاتكاء على حبل الحلبة، كانت حيلة ممتازة استطاع من خلالها هزيمة جورج فورمان في عام 1974 في زائير مستعيدًا منه لقب بطولة العالم، حيث كان يستريح على حبال الحلبة تاركًا خصمه ليتعب نفسه بمحاولات توجيه اللكمات إليه.
تميزّت حياة علي الشخصية بالتناقض، فهو ينتمي إلى طائفة تؤكد على العلاقات الأسرية المتماسكة والقوية، وهو موضوع ذكره علي في أكثر من مناسبة خلال أحاديثه، ولكنه مع ذلك لم يتبع هذا النهج في حياته؛ فأول زواج قصير له كان مع سونجي روي، وانتهى بالطلاق بعد أن رفضت أن تلبس وتتصرف كزوجة شخص ينتمي إلى مجموعة أمة الإسلام، كما أنه وفي الوقت الذي كان متزوجًا فيه من بليندا بويد، زوجته الثانية، كان يسافر علنًا مع فيرونيكا بورشه، التي تزوجها في وقت لاحق، ذاك الزواج الذي انتهى أيضًا إلى الطلاق.
بالمثل، كان علي متفردًا أيضًا على الصعيد السياسي والاجتماعي أيضًا؛ فبعد هجمات 11 سبتمبر 2001، سأله المقدم التلفزيوني ديفيد فروست إذا كان يعتبر تنظيم القاعدة وحركة طالبان منظمات سيئة، فأجاب بأن الإرهاب كان خاطئًا لكنه مضطر لـ”تفادي مثل تلك الأسئلة، لأن هنالك أناس يحبونني”، وأضاف: “إنني أمتلك أعمالًا في جميع أنحاء البلاد، وصورة عامة يجب أن أحافظ عليها”.
وأشار متحدث باسم مركز علي محمد، المتحف المخصص لتكريس “الاحترام والأمل والتفاهم”، الذي اُفتتح في مسقط رأس علي في لويزفيل في عام 2005، بأن علي كان معروفًا بأنه يقاطع اجتماعات جمع الأموال بنكاته العرقية؛ ومن ذلك تلك النكتة التي ألقاها وقال فيها: “إذا كان هنالك رجل أسود ومكسيكي وبورتوريكي يجلسون في المقاعد الخلفية من السيارة، فمن يقود تلك السيارة؟ هل استسلمتم؟ الشرطة بالتأكيد”.
ولكن علي كان قد أظهر الكثير من مبادرات حسن النية في ذلك الوقت، وربما لم يكن هنالك شيء يمكن أن يقوله أو يفعله من شأنه أن يغيّر نظرة الجمهور له، ويوضح لنا ذلك كاتب كتاب السيرة الذاتية لعلي، ديف كيندريد بقوله:”إننا نغفر لمحمد علي تجاوزاته، لأننا نرى فيه الطفل بداخلنا، وإن كان أحمقًا، قاسيًا، متعجرفًا، أو متعنتًا لرأيه، فنحن نغفر له لأننا لا نستطيع أن ندين قوس قزح لاضمحلاله في الظلام، فقوس القزح يولد من العواصف الرعدية، ومحمد علي كذلك”.
محمد علي يقف فوق سوني ليستون في عام 1965 في نزالهما الثاني، حيث أُعلن علي الفائز في تلك المعركة، واحتفظ باللقب العالمي.
الطموح المبكر
ولد كاسيوس مارسيلوس كلاي جونيور في لويزفيل في 17 يناير 1942 لعائلة مناضلة شملت المعلمين والموسيقيين والحرفيين، والدة علي، أوديسا، كانت تعمل طباخة ومنظفة للمنازل، ووالده كان رسامًا يلقي باللوم بفشله في أن يصبح فنانًا مرموقًا على التمييز العنصري.
ملأ كلاي الأب، العنيف والسكير، رأس كاسيوس وشقيقه الأصغر رودولف (الذي أصبح في وقت لاحق رحمان علي)، بتعاليم ماركوس غارفي الانفصالية عن السود وبالعبارة التي تبناها علي في وقت لاحق من حياته “أنا عظيم”.
دخل كاسيوس إلى حلبة الملاكمة في سن الـ12؛ فبعد أن سُرقت دراجته الهوائية الحمراء الجديدة ذات الـ60 دولارًا من أحد شوارع وسط المدينة، أبلغ علي السرقة لجو مارتن، ضابط الشرطة الذي كان يدير صالة رياضية الملاكمة، وعندما تفاخر كاسيوس بما سيفعله باللص عند إلقاء القبض عليه، اقترح مارتن بأن يتعلم أولًا كيفية توجيه اللكمات بشكل صحيح.
كان كاسيوس سريعًا، ملتزمًا وموهوبًا في الترويج لبرنامج ملاكمة الشباب، “أبطال الغد”، على شاشة التلفزيون المحلي، والذي أصبح بعد وقت صغير نجمه الأول.
رغم طموحه ورغبته في العمل الجاد والتعليم إلا أن المجال العام والتمييز العنصري لم يكسباه مكانة تعليمية معقولة، حيث حصل على درجات مرضية في دروس الفن والرياضة فقط، وعلى الرغم من كونه بطل ملاكمة الشباب الهواة في ذلك الوقت، تخرج من المدرسة الثانوية بالمركز الـ376 من أصل 391 طالبًا، وفي الحقيقة لم يكن يعرف علي كيفية القراءة بشكل صحيح، واعترف مرة بأنه لم يقرأ أي كتاب خلال حياته.
وجد علي في الملاكمة الحدود والانضباط والتوجيه، حيث قام مارتن، وهو رجل أبيض، بتدربيه لمدة ست سنوات، ولكن المراجعة التاريخية أعطت الفضل في وقت لاحق لفريد ستونر، المدرب الأسود في حي سموك تاون، رغم أن مارتن هو الذي أقنع كلاي بنظرية “قامر بحياتك”، لينتقل إلى روما مع المنتخب الأولمبي في عام 1960 متفوقًا على خوفه المرضي من الطيران.
فاز كلاي حينها بلقب وزن خفيف الثقيل الأولمبي، وعاد إلى بلاده منافسًا محترفًا، وفي روما، كان كلاي أفضل مقاتل يمكن أن يحلم به الدبلوماسيون الرياضيون، شاب وسيم، كاريزمي، أسود، وسعيد بالمنافسة، وعندما سأله أحد الصحفيين الروس حول التحيّز العنصري، أجابه كلاي: “قل لقرّائك بأننا نتملك أشخاصًا مؤهلين يعملون على الأمر، وأنا لست قلقًا حول النتيجة”، وأضاف: “بالنسبة لي، الولايات المتحدة الأمريكية هي أفضل بلد في العالم بما فيه روسيا”، وتابع: “قد يكون من الصعب الحصول على شيء لتأكله هنا في بعض الأحيان، ولكن على أية حال أنا لا أحارب التماسيح ولا أعيش في كوخ من الطين”.
بطولة روما الأولمبية التي تُوّج ضمنها علي بالميدالية الذهبية.
في وقت لاحق، تراجع علي عن هذا القول، خصوصًا بعد استغلاله من قبل الصحفيين كدليل على أن الطفل السعيد تعرض للتضليل ليصبح مقاتلًا بغيضًا.
بعد فوزه بدورة الألعاب الأولمبية بروما، حضر عدد قليل من الصحفيين إلى منزل كلاي في لويزفيل، حيث كان يُشار إليه علنًا باسم “الزنجي الأولمبي”، ورفضت حينها العديد من المطاعم وسط المدينة أن تخدمه، ونتيجة لهذا الرفض يُقال بأنه ألقى ميداليته الذهبية في نهر أوهايو، ولكن كلاي، زعم فيما بعد بأنه أضاعها ببساطة.
دخل كلاي مجال الملاكمة الاحترافية من خلال التوقيع على عقد مدته ست سنوات مع 11 مليونير أبيض محلي، حيث دعمته “مجموعة رعاية لويزفيل”، وتم تدريبه على يد أنجيلو دندي، أحد كبار المدربين، في ميامي.
في أحد المساجد المحلية، تعرّف كلاي على مجموعة “أمة الإسلام”، التي كانت معروفة من قِبل وسائل الإعلام حينها باسم جماعة “المسلمين السود”، وحينها كان قائد المجموعة، إليجا محمد، يصف البيض بأنهم شياطين تم تعديلهم وراثيًا من قبل عالِم شرير.
بعد سنوات لاحقة، وإبان تركه لجماعة أمة الإسلام واتباعه للإسلام الحنيف، قال علي بأن أمة الإسلام قدّمت للأمريكيين من أصل أفريقي رسالة “السود جميلين” في وقت شهدوا فيه تدني احترام الذات والاضطهاد، ولكنه صرّح قائلًا: “اللون لا يجعل الرجل شيطانًا، القلب والروح والعقل هو الأساس، والشكل الخارجي هو مجرد ديكور”.
تعرف كلاي على مجموعة “أمة الإسلام” عندما كان يتدريب في ميامي في مطلع الستينيات ولكن بعد ذلك عاد إلى الإسلام الحنيف.
اللقب والتحول
تمتع كلاي بنجاح مبكر ضد المقاتلين الذين تم اختيارهم بحكمة، فتوقعاته الغريبة للغاية التي أطلقها بصورة أبيات على القافية، كقوله: “هذه ليست توقعات فاحشة، كوبر سوف يسقط في الجولة الخامسة”، أبهرت العديد من الكتاب الرياضيين المخضرمين، خاصة وأن معظمها تحقق على أرض الواقع؛ فالملاكم الإنكليزي هنري كوبر لم يكمل الجولة الخامسة على ملعب ويمبلي في عام 1963، رغم أنه جعل كلاي يترنح في الجولة الرابعة.
في عام 1963، وفي سن الـ21، وبعد خوضه لـ15 منازلة محترفة فقط، ظهر كلاي على غلاف مجلة التايم، وفي تلك الفترة كان يُخشى بأن كلاي سيصاب بجروح خطيرة على يد الملاكم ذو الضربات المؤذية سوني ليستون، حيث كانت الرهانات تفضّل احتفاظ ليستون باللقب بمواجهة كلاي بنسبة 7 إلى 1 في مبارة ميامي بيتش فلوريدا، في 25 فبراير 1964.
ولكن كلاي قابل ذلك بتصريحاته الهزلية الفرحة؛ فبتشجيع من مساعده المدرب و”مرشد الروحي” درو براون، والمعروف باسم بونديني، سخر كلاي من ليستون ناعتًا إياه باسم “الدب الكبير القبيح”، وردد صيحة المعركة المشهورة: “طر كالفراشة، إلسع كالنحل، إهدر، أيها الشاب، إهدر”.
من مبارة محمد علي مع سوني ليستون.
خلال المبارة مع ليستون، صدم كلاي، الذي كان يفوق خصمه بالطول والوزن والسرعة، حشد الحضور، حيث استطاع تسلّم زمام القتال منذ ابتداره؛ وباشر برقصاته المشهودة على الحلبة، عاجل خصمه بضربات خطافية يسارية، وحمى وجهه بلكمات لاسعة، لدرجة أنه فتح بضرباته جرحًا فوق عين ليستون اليسرى، ولم يتعرض كلاي لموقف حرج في المبارة إلا قبل بدء الجولة الخامسة، حين بدأت عيناه تقرصانه، ورغم دهنها بمرهم للعلاج، كان مدربه دندي يدفعه إلى الحلبة دفعًا، وبعد جولتين، تراجع ليستون إلى مقعده في زاوية الحلبة، حيث كانت ذراعه اليسرى معلقة بجسده دون جدوى، وأعلن استسلامه بعد أن مزّق عضلات ذراعه اليسرى وهو يحاول عبثًا استهداف كلاي، وحينها تُوّج كلاي للمرة الأولي بطلًا جديدًا لبطولة العالم للملاكمة في فئة الوزن الثقيل.
في صباح اليوم التالي، أكد كلاي بهدوء عضويته في مجموعة أمة الإسلام، موضحًا بأنه سيغير اسمه لكاسيوس إكس، تيمنًا بمالكوم إكس، ولكن بعد أسابيع قليلة أعلن عن تغييره لاسمه ليصبح محمد علي، وفي ذلك اليوم خاطب جمهوره بخطاب شكّل تمهيدًا لما أصبح على مدى السنوات القليلة المقبلة سلسلة من المحاضرات الأطول والأكثر تفصيلًا عن الدين والعرق. وكانت تلك المحاضرة حول “البقاء مع عرقك الخاص”، حيث قال علي: “في الغابة، الأسود تبقى مع الأسود والنمور تبقى مع النمور، أنا لا أريد أن أذهب حيث لا يريدني الناس”، وحينها كان القيادي البارز الوحيد الذي أرسل لعلي برقية تهنئة هو القس مارتن لوثر كينغ.
فتح تحوّل علي إلى الإسلام الباب أمام انتشار أفكار قاتمة؛ فبعد أن غادر مالكوم إكس مجموعة أمة الإسلام، واغتيل في 21 فبراير 1965 على أيدي أفراد من المجموعة، شاعت الأحاديث عن أن علي كان متواطئًا ضمنيًا في عملية القتل، حيث كتب جاك نيوفيلد، وهو صحفي سياسي مهتم برياضة الملاكمة: “لو بقي علي، بطل الوزن الثقيل الجديد، وفيًا لمعلمه، واستمر في تقديم الدعم العلني لمالكولم، لربما اتجه التاريخ في اتجاه مختلف”.
من لقاء محمد علي مع مالكوم إكس
رفض الانصياع
في 17 فبراير 1966، وبعد ان انتشر الغضب الشعبي من جلسات الاستماع المتلفزة في مجلس الشيوخ حول الحرب في فيتنام، علم علي بأنه تم إعادة تصنيفه للخدمة العسكرية بواسطة مجلس الخدمة الانتقائية في لويزفيل، فرغم أنه كان قد تم استبعاده سابقًا لحصوله على درجة متدنية في اختبار القدرات العقلية، إلا أن خفض المعايير اللاحق جعله مؤهلًا لخوض الحرب، وتزامن ذلك القرار مع انتهاء العقد مع أغنياء لويزفيل، وتسلّم أفراد من جماعة الأمة الإسلامية لمنصب مديري علي والقائمين بأعماله.
“لماذا أنا؟”، قال علي عندما احتشد الصحفيون حول منزله المستأجر في ميامي ليسألوه عن تصنيفه الجديد من قِبل لجنة لويزفيل، وتابع: “اشتريت الكثير من الرصاص، وما لا يقل عن ثلاثة قاذفات نفاثة في السنة، من خلال دفعي لرواتب 50,000 مقاتلًا بالمال الذي يُؤخذ مني بعد نزالاتي على الحلبة”.
محمد علي مع أبناء حيه في لويزفيل.
بعد استمرار الصحفيين بالضغط عليه بتساؤلات حول الحرب، جغرافية آسيا، وأفكاره حول قتل الفيت كونغ، قال: “لا أمتلك أي تحيزات ضد الجبهة الوطنية لتحرير جنوب فيتنام (الفيت كونغ)”، وحينها احتلت تلك التصريحات الصفحات الأولى للصحف في جميع أنحاء العالم، وفي أمريكا، كان رد فعل وسائل الإعلام بمعظمه سلبيًا، إن لم يكن هجوميًا، والجدير بالذكر بأن معظم الصحافة رفضت الإشارة لعلي باسمه الجديد، ولكن عندما أصرّ ملاكمان أسودان جديدان، فلويد باترسون وإيرني تيريل، على وصفه باسم كاسيوس كلاي، سخر علي منهم في الحلبة، وأذاقهم ضمن النزال ضربًا مبرحًا.
محمد علي ضمن المحكمة.
في 28 نيسان 1967، رفض علي الانصياع لتصنيفه العسكري وطلب الاعتراف له بوضع المعارض الضميري للخدمة، وحينئذ جُرّد فورًا من لقبه أمام لجان الملاكمة في جميع أنحاء البلاد، وبعد عدة أشهر أُدين بالتهرب من الخدمة العسكرية، وقدم علي حينها طعنًا على القرار، ولم يخض قتالًا مرة أخرى حتى وصل إلى سن الـ29، حيث ضحى بثلاث سنوات ونصف من تفوقه الرياضي قضى أغلبها في الحبس.
شهدت تلك السنوات نموًا شخصيًا وفكريًا على الصعيد الشخصي لعلي، حيث قوّى نفسه بحضور المحاضرات، التي تقدّم مزيجًا من عقيدة الإسلام ومنهاج الملاكمة، وفي جلسات الأسئلة والأجوبة التي تلت ذلك، اضطر علي أن يشرح عن دين الإسلام، معارضته لمعركة فيتنام، مواقفه من الماريجوانا وزواج الأعراق المختلفة، وفي ذلك الوقت، استطاع الملاكم الأوحد في التاريخ الذي طرح عليه الإعلام أسئلة كما لو كان عضوًا بمجلس الشيوخ، أن يقدم إجابات متماسكة.
خلال فترة اعتزاله للحلبة، تألق علي لمدة قصيرة في عروض برودواي الموسيقية “Big Time Buck White“، وهي إحدى عدة مشاريع تجارية انخرط بها علي، كما شارك في سلسلة مطاعم للوجبات السريعة تدعى (Champburger)، وبمعركة وهمية لفيلم بطل العالم السابق الشعبي روكي مارسيانو، وكان المذيع هوارد كوزيل، أحد أنصار علي الأكثر دعمًا له في وسائل الإعلام، وهو المسؤول عن حفظ ذكر علي ضمن شاشات التلفاز، سواء من خلال إجرائه لمقابلات معه، أو من خلال استضافته كمعلق على مباريات الملاكمة.
محمد علي في نزال أيدي (مكاسرة) مع الكاتب نورمان ميلر الذي كتب فيما بعد كتاب انتقد علي فيه بشكل لاذع باسم “المقاتل”.
مع وصول قضية الفرار من الخدمة العسكرية إلى المحكمة العليا في الولايات المتحدة، عاد علي إلى الحلبة في 26 أكتوبر 1970، من خلال جهود السياسيين السود في أتلانتا، ولم تكن المعركة التي انتهت سريعًا بالضربة القاضية مع المنافس الأبيض جيري كواري، سوى إحماء لمواجهة علي المتوقعة مع بطل العالم الجديد جو فرايزر.
تمت تسمية النزال الذي أُجري في ماديسون سكوير غاردن مابين علي فريزر في 8 آذار 1971، باسم “المعركة”، حيث ارتقت المباراة الملحمية إلى مستوى التوقعات؛ ففي الوقت الذي كان فيه نورمان ميلر يقف إلى جانب الحلبة لكتابة الملاحظات ويصوّر فيه فرانك سيناترا صورًا لمجلة لايف، وقف علي ندًا عنيدًا لفرايزر، ووجه إليه الضربات كما لو كان يعتزم إثبات أحقيته، أو كما لو كان يقول بأنه مستعد لتلقي العقاب على أفعاله من خلال هذا النزال، وحينها فاز فرايزر بحكم الحكام بعد 15 جولة، بعد أن تعرض المتنافسان لأضرار جسدية ملحوظة.
محمد علي مع جو فرايزر في ماديسون سكوير غاردن في عام 1971.
بالنسبة لأنصار علي، كان المال الذي خسره دفاعًا عن مبادئه وإصراره على الوقوف في الحلبة بعد الضرب الذي تلقاه من فرايزر إثباتًا على إخلاصه، أما بالنسبة لمنتقديه، كان هذا الفداء الدموي يعني بأن علي نضج أخيرًا في مواقفه، وبالمحصلة اتخذت المحكمة العليا قرارًا إيجابيًا؛ ففي 28 يونيو 1971، نقضت بالإجماع قرار المحكمة الأدنى واعترفت لعلي بوضع المعارض الضميري.
من مباراة محمد علي مع جورج فورمان في 30 أكتوبر 1974 في زائير.
العودة للقمة ومن ثم التراجع
في ذلك الوقت، كان من المفترض بأن زمن علي كان قد ولّى، وأنه سيصبح خصمًا كبيرًا فقط للمقاتلين الذين يشقون طريقهم ليأسسوا أنفسهم، ولكن علي خالف التوقعات وعاد إلى القمة؛ فعلى الرغم من أنه كان أبطأ، إلا أنه كان أكثر دقة في ضرباته الفنية، “لم يكن علي يخوض المعارك” كتب جيم موراي من صحيفة لوس أنجلوس تايمز “بل كان يقدم الاستعراضات”.
فاز علي بـ 13 مباراة من مبارياته الـ14 اللاحقة، بما في ذلك مباراة العودة مع فرايزر، الذي كان قد خسر لقبه لصالح جورج فورمان، النسخة الأكثر إثارة للخوف من ليستون.
كان علي الخصم الأضعف والأصغر حجمًا والأكبر سنًا بسبع سنوات بمواجهة فورمان؛ وعندما التقيا في 30 أكتوبر 1974، في زائير التي كان يحكمها موبوتو سيسي سيكو، تم تخصيص مبلغ غير اعتيادي لكل مقاتل، 5 ملايين دولار، وكانت تلك المعركة موضوع فيلم وثائقي لليون جاست باسم”عندما كنا ملوكًا” أو “When we were kings“، الذي صدر بعد أكثر من 20 عامًا، وفاز بجائزة الأوسكار عام 1997.
تريلير فيلم عندما كنا ملوكًا
ظهر علي حينها بالشكل الأفريقي، وكرر القول المأثور الذي سمعه من مساعده براون: “العالم هو قميص أسود مع بضعة أزرار بيضاء”.
مع بداية المعركة، باشر الحشد الحاضر بالهتاف “علي بوميه!” (“علي، إقتله!”)، حيث تنامى قلق الجمهور من اتكاء علي على الحبال متلقيًا ضربات فورمان الثقيلة على ذراعيه وكتفيه، ولكن بعد ذلك وفي تصاعد للإثارة، وبالتلازم مع إنهاك فورمان لنفسه، أسقط علي خصمه في آخر لحظات الجولة الثامنة، بعد سيل من اللكمات، مستعيدًا اللقب العالمي، وحينها انحنى إلى الصحفيين، وقال: “ما الذي قلته لكم؟”
المبارة الكاملة لمحمد علي وفورمان.
في 10 ديسمبر 1974، دُعي علي إلى البيت الأبيض لأول مرة، من قِبل الرئيس جيرالد فورد، في مناسبة لم تمثل فقط نقطة تحول في احتضان البلاد لعلي، بل مثلث أيضًا عودة البطل ليصبح على شفاه الجميع، وحينها قال علي للرئيس ممازحًا: “لقد ارتكبت خطأ كبيرًا بالسماح لي بأن أحضر إلى هنا، لأنني سأطاردك الآن لأحصل على وظيفتك”.
من مبارة علي الأخيرة التي خسر فيها بمواجهة تريفور بربيك.
دافع علي بنجاح عن لقبه 10 مرات على مدى السنوات الثلاث المقبلة، ولكن اطردت التكلفة الجسدية الناجمة عن ذلك تباعًا، فعندنا أوقع فرايزر بالضربة القاضية في مباراتهما الثالثة في مانيلا في عام 1975 بعد 14 جولة، قال علي بأن شعر بقربه من الموت.
في عام 1978 خسر ثم استعاد لقبه في نزال مع ليون سبينكس، وحينها حثه طبيب الأعصاب فريدي باتشيكو على الاعتزال، مشيرًا إلى أن تباطؤ ردود فعله وتلعثمه في كلامه يدلان على أعراض تلف دماغي، ولكن علي رفض ذلك، وفي عام 1980، تلقى خسارة على يد بطل العالم لاري هولمز، وبعد ذلك بعام، خاض مباراته الأخيرة التي خسر فيها أمام البارع تريفور بربيك في جزر البهاماز.
خسارة محمد علي للنزال مع لاري هولمز.
سرعان ما شُخّص علي بإصابته بمتلازمة باركنسون، وتكهن العديد من الأطباء بأن ذلك نجم عن تعرضه للكثير من اللكمات على الرأس، ولكن تم تغيير التشخيص في وقت لاحق ليصبح مرض الباركنسون (الشلل الرعاشي)، ووفقًا لزوجة علي، لوني، فإن إصابته به نجمت عن تعرضه للمبيدات الحشرية والمواد الكيميائية السامة الأخرى في معسكر تدريبي له في دير ليك بولاية بنسلفانيا.
علي مع زوجته الرابعة لوني وابنه المتبنى أسعد أمين في عام 1990.
البطل المُحتفى به
بعد تقاعده من الحلبة، ركّز علي على خطب القيم الروحية والسلام والتسامح، وأجرى بعثات شبه دبلوماسية لأفريقيا والعراق، وحتى عندما فقد القدرة على الحركة والكلام، سافر في كثير من الأحيان من منزله في بيرين سبرينغز في ولاية ميشيغان.
في عام 1999، أصبح علي أول ملاكم توضع صورته على غلاف حبوب (Wheaties) الشهيرة المخصصة للرياضين، وفي 31 ديسمبر من ذلك العام، أنهى الألفية ضمن مقر بورصة نيويورك للأوراق المالية، وفي عام 2003، نُشر كتاب يحتفي بحياته، كما كانت مسيرته موضوعًا لفيلم تلفزيوني وفيلم روائي طويل للمخرج مايكل مان، مع ويل سميث بعنوان علي (Ali)، حيث طهّر الفيلم علي من وجهات نظره الدينية والسياسية المثيرة للجدل التي أطلقها في وقت مبكر في حياته.
في عام 2005، وبعد أن وصفه بأنه أعظم ملاكم في كل العصور، قدم الرئيس جورج دبليو بوش وسام الحرية لعلي في احتفال أقيم في البيت الأبيض.
جورج دبليو بوش محتفيًا بمحمد علي.
في السنوات الأخيرة، وبعد اشتداد مرضه وتضيّق عموده الفقري، الأمر الذي تطلّب خضوعه لعمل جراحي، لم يعد علي يستطيع التنقل وانخفضت قدرته على التواصل، حيث قضى معظم وقته في منزله في باراديس فالي بأريزونا، مستمتعًا في كثير من الأحيان بمشاهدة الأفلام والبرامج التلفزيونية القديمة، وكان خروجه على الملأ يقتصر بمعظمه على جلسات العلاج الطبيعي ولحضور بعض المناسبات أو افتتاحات الأفلام والحفلات الموسيقية.
محمد علي مبتسمًا في آخر ظهور علني له في فينيكس أريزونا في عام 2013.
أشارت زوجة علي بأنه نادرًا ما عاد يُجري مقابلات تلفزيونية، لأنه لم يعد يحب الطريقة التي يبدو عليها أمام الكاميرات، “لكنه أحب عشق الحشود”، قالت الزوجة، وتابعت: “على الرغم من أنه أصبح ضعيفًا بطرق لا يستطيع السيطرة عليها، إلا أنه لم يفقد براءته الطفولية، وطبيعته المشرقة والإيجابية، إنه يحب إلقاء النكات والمزح والخدع السحرية، فهو يرغب بترفيه الجمهور، ليجعلهم سعداء”.
المصادر: نيويورك تايمز، الغارديان، النيويوركر