في تصريح لوزير الخارجية الإيراني عندما كان سفيرًا لبلاده في الأمم المتحدة في الثمانينات من القرن العشرين قال جواد ظريف: “تحتاج إيران من وجهة نظر استراتيجية أن تأخذ موقفًا متشددًا تجاه إسرائيل وذلك في سبيل إزالة أو حتى التخفيف من العداء لإيران من قبل الدول العربية المجاورة، ينبع هذا الموقف من وجهة نظر استراتيجية بالإضافة إلى العوامل الأيديولوجية للدعم الإيراني المقدم للفلسطينيين”.
لم يكن في جعبة الإيرانيين قضية تحظى بالإجماع في الشارع العربي كالقضية الفلسطينية لاستخدامها في استمالة الشارع العربي وذلك من أجل الضغط على الحكومات العربية المؤيدة للعراق في حربه ضد إيران، كانت إيران تبعث برسالة إلى الشارع العربي مفادها: كيف يتم استهداف دولة ذات نظام إسلامي يدعم القضية الفلسطينية، ويدعو لإزالة الكيان الصهيوني عن الخريطة؟! وقد كان لهذه الرسالة صدى ذا تأثير في وجدان الشارع العربي خصوصًا مع بعض الإجراءات الإيرانية التي عززت هذه الرسالة سواء على صعيد الممارسة أو الخطاب.
على صعيد الخطاب فقد حافظت إيران على لهجة رسمية شديدة العداء لإسرائيل، من خلال الدعوة لإزالتها عن الخارطة، واعتبارها سرطانًا يهدد العالم الإسلامي، وقد كان الخميني يكرر دائمًا في خطاباته أن “إسرائيل وُجِدتْ من أجل قمع واستغلال الشعوب الإسلامية، ولذلك فهي مدعومة من قبل كافة القوى الإمبريالية”، وعندما فقد الخميني الأمل من ياسر عرفات بتحويل الثورة الفلسطينية إلى ثورة إسلامية، اتخذت إيران خطوة أحادية الجانب باستخدام مصطلح “الثورة الإسلامية في فلسطين” في إعلامها وذلك في محاولة استباقية لتكريس صورة إيران في المخيال العربي بعد الثورة على أنها المدافع الصلب عن قضايا المسلمين وعلى رأسها القضية الفلسطينية.
أما على صعيد السلوك فقد أطلقت إيران ما عرف بيوم القدس، وهو كرنفال شعبي تُحْشَدُ إليه الجماهير في الأسبوع الأخير في رمضان من كل عام، وذلك للتعبير عن التضامن مع القضية الفلسطينية، كما استمر الإيرانيون في التفريق بين المواقف السياسية لياسر عرفات الذي لم يعد ينظر إليه كقائد ثوري في نظر الإيرانيين، وبين منظمة التحرير كممثل شرعي للقضية الفلسطينية، حيث أبقت السلطات الإيرانية على تعاملها الرسمي مع البعثة الدبلوماسية التابعة للمنظمة في طهران.
إذن كانت الدعامة الثانية في استراتيجية الخميني في كسب الحرب ضد العراق تقوم على استمالة الشارع العربي لصالحه من خلال اللعب على ورقة التعاطف مع الفلسطينيين والعداء لإسرائيل، وهي الدعامة الثانية التي جاءت بعد الأولى والتي تمثلت باللعب على الخلافات العربية – العربية لمنع تشكيل أي تضامن عربي موحد ضد إيران أثناء الحرب.
كانت إسرائيل ورغم الثورة الإسلامية في إيران وسيطرة نظام معادٍ لها على الحكم ترى أن الخطر الاستراتيجي على وجودها يتأتى من العرب وخصوصًا من الجبهة الشرقية، ولذلك كانت ترى أن انتصار العراق في الحرب على إيران سيجعله أقوى وصاحب رصيد يمكنه من قيادة العالم العربي.
بقيت الدعامة الثالثة والتي تمثلت بالتحايل على الحظر الأمريكي لتوريد السلاح إلى إيران من أجل الحصول على الذخيرة وقطع الغيار التي كانت تحتاجها القوات الإيرانية في الحرب مع العراق، حيث كان السلاح الأمريكي يشكل العمود الفقري لعتاد الجيش الإيراني في تلك الفترة.
وقد علمت إيران على طريقتين لإتمام هذا التحايل: أولاً، من خلال عمليات خطف الرعايا الأمريكيين الذين كانوا يغطون الحرب الأهلية في إيران عن طريق عملاء لإيران مثل حزب الله، ثانيًا، من خلال التعامل مع إسرائيل سرًا، حيث عملت إسرائيل على توريد السلاح للنظام الإيراني بشكل مباشر بالإضافة إلى الدور الذي لعبته كوسيط من أجل إقناع الإدارة الأمريكية بضرورة توريد السلاح لإيران وذلك لاعتبارات استراتيجية من وجهة النظر الإسرائيلية.
كانت إسرائيل ورغم الثورة الإسلامية في إيران وسيطرة نظام معادٍ لها على الحكم ترى أن الخطر الاستراتيجي على وجودها يتأتى من العرب وخصوصًا من الجبهة الشرقية، ولذلك كانت ترى أن انتصار العراق في الحرب على إيران سيجعله أقوى وصاحب رصيد يمكنه من قيادة العالم العربي من جديد ضدها كما فعلت مصر إبان حكم جمال عبد الناصر.
هذا بالإضافة إلى أن النظرة الاستراتيجية لإسرائيل في تلك الفترة كانت ماتزال تراهن على “الحلف المحيط” الذي شكله بن غورين في بداية الخمسينات، وتكوَّن من إيران وتركيا وإثيوبيا لاحتواء العالم العربي، حيث جادل الإسرائيليون حينها أن نظام الخميني لن يصمد كثيرًا، وأن حقائق الجغرافيا والمصالح الجيواستراتيجية تفرض على النظام الإيراني أن يكون حليفًا طبيعيًا لإسرائيل، وأن على إسرائيل المساهمة في تشجيع العناصر البراغماتية في النظام الإيراني، وبالمحصلة كان المنطق الإسرائيلي أنه “طالما أن العراق وإيران يتقاتلان مع بعضهما، فلا يمكن لأي منهما أن يقاتل إسرائيل”.
وعليه فقد صرح وزير الدفاع الإسرائيلي في ذلك الوقت أرائيل شارون لمحطة NBC بأن “تل أبيب زودت إيران بالسلاح والذخيرة لأن إسرائيل ترى في العراق – وليس إيران – الخطر الحقيقي على عملية السلام”، وأضاف بأن هدف إسرائيل من تزويد إيران بالسلاح هو “ترك نافذة صغيرة مفتوحة” لأي احتمالية في علاقات جيدة مع النظام الإيراني في المستقبل.
ويذكر تريتا بارزي في كتابه “حلف المصالح المشتركة” أن إيران اشترت بشكل مباشر من إسرائيل أسلحة فاقت قيمتها الـ 500 مليون دولار في الفترة الواقعة بين عامي 1980 و1983، وذلك استنادًا إلى معهد “يافي” للدراسات الاستراتيجية في جامعة تل أبيب، وقد تم سداد معظم هذا المبلغ عبر تسليم شحنات من النفط الإيراني لإسرائيل.
وقد حرصت إيران أن تتم تعاملاتها مع إسرائيل بشكل سري للغاية حتى لا تتسبب بتحطيم صورتها التي حاولت تشكيلها أمام الرأي العام الإسلامي والعربي بكونها المدافعة عن الحقوق الإسلامية والعربية في وجه الإمبريالية الغربية والصهيونية.
ولذلك فقد دأبت إيران على إنكار أي تعامل مع إسرائيل، واعتبرت أي اتهامات موجهة ضدها في هذا الصدد محاولة لإضعاف موقفها في الحرب ضد العراق، ولكن ورغم ذلك فقد بات التعامل ما بين إيران وإسرائيل سرًا مفضوحًا مع توالي الشواهد والأحداث عليه مثل: تحطم طائرة الشحن الأرجنتينية على الحدود التركية السوفيتية في 18 يوليو/ تموز، 1980 والتي كانت تحمل شحنات سلاح من إسرائيل إلى إيران وأثارت حينها ضجة على المستوى الدولي، وقدمت على إثرها منظمة التحرير احتجاجًا على معايير إيران المزدوجة.
أما الحادثة الأخرى والتي تعد الأبرز والأكثر شهرة فهي فضيحة “إيران – كونترا” والتي لعبت فيها إسرائيل دور الوسيط لإقناع إدارة الرئيس الأمريكي السابق ريغان بتزويد إيران بالسلاح الأمريكي، وقد دفعت هذه الفضيحة الرئيس ريغان إلى الاعتراف في 25 نوفمبر/ تشرين ثاني، 1986 بأنه على الرغم من “حظر الأسلحة لإيران، فقد باعت أمريكا أسلحة لإيران، وحولت المال إلى ثوار الكونترا الذين كانوا يقاتلون الحكومة الساندينية بنيكاراغة”، وقد دافع ريغان عن تعامله السري مع إيران بالقول أنه “وبالنظر إلى الأهمية الاستراتيجية لإيران ونفوذها في العالم الإسلامي، اخترنا تفحص إمكانية إقامة علاقة أفضل بين بلدينا”.
وهكذا كانت المصالح والحقائق الجيوسياسية أقوى من الأيديولوجيا في رسم العلاقة الجدلية بين إيران في عهد الخميني وإسرائيل، فقد كانت مصلحة إيران وتعزيز قوتها الذاتية المعيار الناظم لعلاقة إيران مع الدول الأخرى، وقد جاءت الأيديولوجيا والمذهب وحتى القضية الفلسطينية كأدوات استراتيجية للحفاظ على المصالح العليا لإيران، هذه المصالح ذاتها التي أجبرت الخميني في نهاية المطاف على التوقيع على وقف إطلاق النار مع العراق في آب/ أغسطس 1988، وذلك قبل وفاته بأقل من عام في حزيران/ يونيو 1989، لتنتقل إيران من بعده إلى حقبة جديدة تأخذ فيها القضية الفلسطينية في الأجندة الإيرانية أبعادًا أكثر أهمية وتشابكًا، وهو ما سوف نتناوله في المقالات القادمة.