بعد أن كانت سلّة العالم لإنتاج العديد من المحاصيل، وقبلة المستثمرين هنا وهناك، فضلًا عما كان تتمتع به قوتها العاملة من مهارات وضعتها على قائمة القارة السمراء، ها هي اليوم تعاني من الجوع والعطش والجفاف الذي أوشك أن يقضي على الملايين من شعبها.
جمهورية زيمبابوي، تلك المستعمرة البريطانية السابقة التي كانت تعيش أزهى عصورها قبل هبوط الديكتاتور الأعظم روبرت موجابي على سدة العرش بها، تواجه اليوم وبفضل الحكم المريض لحاكمها المتغطرس والوحشي، شبح الانهيار الكامل في مختلف المجالات، إلى أن باتت واحدة من بين أفقر بلدان القارة.
13 مليون زيمباوي يعانون من الإحباط جراء ما وصلت إليه بلادهم، فضلًا عن مشاعر الغضب المستنكرة للفساد الحكومي المنتعش في كل أرجاء البلاد، فما الذي أوصلها إلى هذه الحالة؟ وهل من الممكن أن تطيح هذه الأزمة الطاحنة بموجابي من الحكم بعد 36 عامًا من الديكتاتورية والبطش وغياب العدالة؟
موجابي: الديكتاتور المعمر
يعد روبرت موجابي من أكثر حكام العالم المعمرين، فضلًا عن كونه ديكتاتورًا من طراز خاص، استباح حقوق شعبه، وزاحمهم في أحلامهم، استغل فقرهم لغناه، واتخذ ضعفهم وسيلة تنقل نحو مجده، وتثبيت أركان عرشه، وهو ما أهله لأن يمكث على عرش بلاده 36 عامًا متواصلة، منتويًا البقاء في الحكم حتى وفاته.
ولد روبرت موغابي في الحادي والعشرين من فبرابر عام 1924 في مدينة كوتاما بزيمبابوي، لأسرة تنتمي لشعب الشونا، الفصيل العرقي الذي يشكل 80% من زيمبابوي، وتخرج من جامعة فورت هير في جنوب إفريقيا عام 1951، وحصل على ثماني شهادات جامعية تتراوح بين البكالوريوس والماجستير والدكتوراة.
بدأ مشواره السياسي عام 1960، بانضمامه للحزب الوطني الديمقراطي المعروف باسم “زابو”، وبعدها بثلاثة أعوام تم حل الحزب والقبض على مؤسسيه من قبل قوات الاستعمار، وكانت هذه فرصة موغابي لتأسيس حزب جديد يرأسه هو، وبالفعل أنشأ حزب “الاتحاد الوطني الإفريقي بزيمبابوي: المعروف باسم “زانو”، والذي يهدف لمقاومة الاحتلال البريطاني.
وبعد تحرر زيمبابوي من الحكم الاستعماري عام 1980، شغل موجابي منصب رئيس الوزراء في نظام كنعان سوديندو الذي حكم البلاد سبع سنوات، إلى أن توفى ليجد الديكتاتور الأعظم فرصته السانحة للجلوس على عرش الدولة التي كانت محط أنظار الجميع في ذلك الوقت.
قضى موجابي في حكم البلاد 36 عامًا، أي ما يزيد عن ثلث عمره تقريبًا والبالغ حتى كتابة هذه السطور 92 عامًا، حيث انتخب رئيسًا للجمهورية أول مرة في عام 1987، وأعيد انتخابه عام 1990، ثم انتخب للمرة الثالثة في عام 1996، وللمرة الرابعة في عام 2004، وللمرة الخامسة في 2008، هذه المرة التي أحدث فيها أنصاره اضطرابات ومشاحنات ضد حزب ومؤيدي تشانغيراي، أسفرت عن نحو مئتي قتيل، وينتوي الترشح لولاية سادسة في 2018.
وعلى مدار هذه السنوات العجاف من حكم الديكتاتور، تحولت زيمبابوي إلى إحدى أفقر بلدان العالم، فضلًا عن نشوب الصراعات الداخلية نتيجة الإحباط الذي أصاب الملايين من الشعب الزيمبابوي جراء سياسات موجابي التعسفية والتي لا تلقي بالًا إلا لترسيخ حكمه ومواصلة مسيرته داخل القصر الرئاسي.
وقد تمخض حكم الرئيس المعمر عن بعض النتائج الكارثية، التي أوصلت البلاد إلى ما هي عليه الآن، فلقد ركع اقتصاد زيمبابوي بشكل يصعب معه النهوض مجددًا، فضلًا عن انتشار البطالة، وتفشي الأمراض أبرزها وباء الإيدز، بالإضافة إلى تضخم الدين الخارجي.
وبين عامي 2008- 2009 منيت البلاد بانهيار هائل في المنظومة الصحية، وعجزت الدولة عن تقديم أبسط الخدمات لمواطنيها، مما أدى إلى انتشار مرض الكوليرا، حيث وصلت نسبه المصابين إلى 100 ألف شخص توفي منهم نحو خمسة آلاف بسبب سوء النظام، وعدم توفر الخدمات اللازمة للعلاج، كما ارتفعت معدلات البطالة إلى 94% في 2009، حسبما أعلنت إحصائيات الأمم المتحدة.
موجابي لم يكتف لنفسه فقط بالتربع على عرش البلاد طيلة فترة حياته، بل مهد الطريق وبكل أريحية لزوجته “جريس موجابي” لتتولى زمام الأمور من بعده، وهو ما أصاب الشعب الزيمبابوي بحالة جديدة من الإحباط.
شغلت السيدة الأولى جريس، (49 عامًا)، منصب سكرتيرة زعيم زيمبابوي عام 1990، وكان لديهما طفلين خارج إطار الزواج قبل أن يتزوجا عام 1996 بعد وفاة زوجة موجابي الأولى سالي هايفرون، ثم أنجبا طفلهما الثالث في وقت لاحق.
ويطلق عليها “النقمة” و”المتسوقة الأولى” من بين عدة ألقاب أخرى، تعتبر عن الاستياء الشعبي إزاء أسلوب حياتها المسرفة، وينظر لجريس، المعروفة بلسانها السليط، الآن على أنها أقرب خليفة محتمل لزوجها المريض.
جذور الأزمة
بالرغم من القرارات الكارثية للرئيس الزيمبابوي منذ توليه مقاليد الحكم، إلا أن الأزمة الاقتصادية الطاحنة التي تعاني منها البلاد منذ عدة سنوات تعود لعدد من الإجراءات المتخذة في الـ 15 عامًا الأخيرة، كان بدايتها القرار المثير للجدل الذي اعتمده الرئيس المخضرم والخاص ببرنامج الإصلاح الزراعي، والذي قضى بنزع ملكية الأرض من ذوي البشرة البيضاء في عام 2000، وهو الأمر إلى انتهى بانهيار القطاع الزراعي الحيوي في البلاد، بينما دفعت انتهاكات حقوق الإنسان في البلاد وقمع المعارضة، الدول الغربية إلى فرض مجموعة من العقوبات ضد زيمبابوي، وهو ما أشارت إليه صحيفة “فاينانشيال تايمز” في تقرير لها مؤخرًا.
الصحيفة تناولت حالة الفوضى النقدية والمالية التي انزلق إليها موجابي بسياساته الخاطئة، لاسيما مع ارتفاع معدلات التضخم بصورة غير مسبوقة، وهو ما دفع البنك المركزي إلى إصدار أوراق نقدية فئة 100 تريليون دولار زيمبابوي دون قيمة شرائية تذكر لهذه الفئات لاسيما وإن عرفنا أنَّ مبلغًا قيمته 175 ألف تريليون دولار زيمبابوي يساوي خمسة دولارات أمريكية فقط.
أضف إلى ذلك انخفاض معدلات النمو في البلاد بصورة ملحوظة قياسًا بالدول المجاورة، حيث تراجعت معدلات النمو في زيمبابوي إلى 2.6% مقارنة بـ 5% لدول جنوب الصحراء، في الفترة من 2002- 2012، طبقًا لإحصائيات صندوق النقد الدولي.
وفي عام 2009، اعتمدت حكومة زيمبابوي الدولار الأمريكي عملة رئيسية في البلاد، وفي عام 2014، اعتمدت الحكومة نفسها كلًا من الـ”يوان” الصيني والـ”روبية” الهندية والـ”ين” الياباني والدولار الأسترالي، باعتبارها عملات رسمية إلى جانب الدولار الأمريكي.
ونتيجة لما سبق لم يجد البنك الاحتياطي الزيمبابوي بدًا للخروج من الأزمة النقدية التي يعاني منها سوى وقف التعامل بعملة البلاد التي باتت بلا قيمة تذكر، وتغييرها إلى الدولار الأمريكي، إضافة إلى اعتماد عدد من العملات الأخرى مثل الـ “يوان” الصيني والـ “روبية” الهندية والـ “ين” الياباني والدولار الأسترالي، حيث اعتمد الشعب الزيمبابوي على تلك العملات بدلاً من عملة بلاده، كما توقف الجهاز المركزي للإحصاء في زيمبابوي في عام 2008 عن نشر بيانات خاصة بحركة الأسعار، في الوقت ذاته، كانت معدلات التضخم في البلاد بقيادة الرئيس موجابي تسجل ارتفاعات سنوية بمعدل 231 مليون في المئة.
ويبدو أن الطبيعة هي الأخرى قد أعلنت غضبتها الشديدة تجاه سياسات موجابي التعسفية، حيث تعرضت البلاد في الآونة الأخيرة لموجة جفاف غير مسبوقة نتيجة ظاهرة “النينيو” ساهمت بشكل كبير في زيادة أعداد الأسر التي تحتاج لمساعدات غذائية، وهو ما أعلنت عنه وزيرة الخدمة العامة والعمال والرعاية الاجتماعية، بريسكاما بفوميرا، لصحيفة هيرالد تريبيون من أن هناك مؤشرات على أن أعداد الأسر التي تحتاج إلى مساعدات غذائية ارتفعت إلى 4 ملايين شخص بدلاً من 3 ملايين فقط، وأن مخزون البلاد من الذرة والحبوب يكفي 3 أشهر فقط، إذ أضر الجفاف باقتصاد زيمبابوي وخسر المزارعون مواشيهم ومحاصيلهم.
خراف الكبر
لم تشفع الحالة الاقتصادية المتردية التي يحياها الملايين من الشعب الزيمبابوي، ومعاناة أكثر من ربع سكان البلاد من نقص الغذاء، رئيسه المخضرم من إنفاق ما يقرب من مليون دولار على الاحتفال بعيد ميلاده الـ 92 فبراير الماضي، والذي حضره قرابة 50 ألفًا من أنصار حزب موجابي، الاتحاد الوطني الإفريقي لزمبابوي – الجبهة الوطنية (زانو) الحاكم، ومن كوادر النظام.
الأمر لم يتوقف عند هذا الحد وفقط، بل ذكرت بعض وسائل الإعلام أن نشطاء أمروا قرويين في مناطق محيطة بمقر الإحتفال بالتبرع بما بين دولار وخمسة دولارات لتمويل جزء من الاحتفالات، وهو ما أثار حملة من الانتقادات الواسعة ضد موجابي من مختلف التيارات الحقوقية والمعارضة.
رئيس جمعية الدفاع عن حقوق الإنسان “أوكاي ماشيزا” قال في حديث له “عندما ينفق رئيس ما يقرب من مليون دولار من أجل عيد ميلاده ولا يملك آلاف الأشخاص ما يقتاتون به، فإننا نتساءل أي نوع من الآباء يقودنا”، في إشارة إلى اللقب الذي يطلقه موجابي على نفسه (أبو الأمة).
بينما استنكر أستاذ العلوم السياسية في جامعة ماسفينغواما “تاكافافيرا زو” إقامة احتفال عيد ميلاد لرجل تجاوز عمره التسعين بقوله: “ليس هناك ما يستحق الاحتفال لشخص عمره 92 عامًا ويحكم منذ 36 عامًا وقادنا إلى إفلاس اقتصادنا وإلى جعل بلدنا في مصاف المتسولين”، كما نظمت رابطة شباب حركة التغيير الديموقراطي المعارض تظاهرات في ماسفينغو احتجاجًا على هذه الاحتفالات، ورفع المتظاهرون لافتات كتب عليها “لا عيد ميلاد عندما يموت الأطفال جوعًا” و”نريد وظائف لا احتفالات”.
الشعب بدأ ينفذ صبره
تحت عنوان “مع انزلاق بلادهم إلى أزمة اقتصادية عميقة، شعب زيمبابوي بدأ صبره ينفد”، استهلت صحيفة “الديلي تليجراف” البريطانية، تقريرًا لها عن الأزمة الطاحنة التي تعصب بزيمبابوي هذه الأيام، والتي يرى خبراء أنها كفيلة بالإطاحة بموجابي من سدة الحكم بعد 36 عامًا.
الصحيفة أشارت إلى خواء خزائن الدولة مما جعلها غير قادرة على دفع رواتب موظفي الدولة، وهو ما أدى إلى إحداث حالة من “الشلل” في الشارع الزيمبابوي تمخض عنه العديد من صور الاحتجاجات في الميادين العامة والطرقات، كان أكثرها حشدًا وإثارة ما أطلق عليه يوم “البقاء بعيدًا” حيث خرج الملايين من الشعب يهتفون ضد الرئيس ويطالبونه بالتنحي فورًا.
ليندا ماساريرا أحد الداعين للاحتجاج ضد موجابي قالت: “ما يحدث الآن يبين بوضوح أن الناس تعبوا من حكم موجابي، وهذا هو السبب في أنهم استجابوا لدعوات الغياب عن العمل، هذا هو السبب في أنك ترى الأسواق في جميع أنحاء المدينة فارغة تقريبًا”، بينما قال كريستوفر ميتسفنجيو أحد قادة المعارضة: “إنه يفهم دوافع المتظاهرين، فهم يشعرون بخيبة أم، إنهم لا يرون آفاق للازدهار”.
التقرير تطرق إلى ضرورة منح صندوق النقد الدولي أو أي مؤسسة أخرى قرضًا للإنقاذ، فإنه لا توجد وسيلة لتجنب الشلل الزاحف على البلاد، وانهيار الاقتصاد، وقد بدأت البنوك بالفعل في منع الناس من سحب النقود، بحسب الصحيفة.
وبحسب محللين سياسيين فإن مدة بقاء موجابي في الحكم باتت قصيرة للغاية بعد هذه الأزمة، مما يتطلب من الشعب الزيمبابوي البحث من الآن عن خليفة حقيقي للديكتاتور بدلاً من زوجته سليطة اللسان كما يلقبونها، وقال ديريك ماتيسياك الخبير في الشؤون الإفريقية: “الأزمة تتعمق بشكل كبير، ولا نعتقد أن موجابي يمكنه الخروج منها”.
فهل بات شعار “كفاية يعني كفاية” الذي رفعه المتظاهرون في يوم “البقاء بعيدًا” هو الحل للخروج من تلك الأزمة؟ وهل باتت أيام الديكتاتور معدودة داخل قصره الرئاسي؟