لم يكن خافيًا على أحد أن سياسة أردوغان لا تروق لكثير من الأطراف داخل تركيا وخارجها، ولم تسلم البلاد من مكائد الأعداء ومن المحاولات المتكررة لزعزعة أمنها واستقرارها، بغية إفقاد الشعب التركي الثقة في الرئيس المنتخب، وذلك عبر عدة هجمات إرهابية كان آخرها هجوم مطار أتاتورك، وفي ليلة الجمعة 15 يوليوز/ تموز، حدث تطور خطير بعد أن حاولت مجموعات من الجيش الانقلاب على الرئيس التركي المنتخب رجب طيب أردوغان، إلا أن الشعب التركي كان أذكى من أن ينقلب على إرادته واستجاب لدعوة الرئيس للخروج والتصدي للانقلاب، ليتم إفشال المحاولة.
بعد هذا الحدث آن لنا أن نلقي نظرة على ردود الأفعال، لنميز الخبيث من الطيب، ونفرق بين الصديق والعدو، ونرى المواقف المعلنة وماذا تخفي وراءها، ونجيب عن سؤال مهم حول الهجمات الإرهابية السابقة وعلاقتها بما حدث أمس؟
علاقة الهجمات الإرهابية بالمحاولة الانقلابية
بعد المحاولة الانقلابية يوم 15 يوليو، يمككنا القول بأن الهجمات التي استهدفت تركيا سابقًا لم تكن غاية في حد ذاتها، وإنما كانت من ضمن الوسائل التي استخدمت للتمهيد للانقلاب، وذلك عبر إفقاد الشعب التركي الثقة في الرئيس المنتخب، لأن الجانب الأمني له تأثير كبير في نفوس الشعوب، فكان من المنتظر أن يفقد الأتراك ثقتهم في الرئيس، لأنه لم يعد يستطيع توفير الأمن لهم.
بعد أن بلغت الهجمات أوجها باستهداف مطار أتاتورك، توقع المتآمرون أن الأمور قد باتت مواتية لتنفيذ المخطط المدعوم خارجيًا، لكن تفاجأوا بتشبث الشعب والمعارضة بالشرعية وبالديمقراطية.
ما بين سطور بيان الجيش
رغم أن أي انقلاب ليس من مصلحته خلق مشاكل خارجية، بل على العكس تمامًا فعليه أن يحاول جعل نفسه مقبولاً لدى المجتمع الدولي، لكن بعض الكلمات التي وردت في البيان تحمل رسائل يمكن أن ترشدنا إلى ضالتنا، خصوصًا ونحن نعلم جيدًا أن سياسة أردوغان الخارجية باتت تشكل حجر عثرة أمام عدة دول منها روسيا وإسرائيل وإيران وحتى أمريكا.
جاء في بيان الجيش الذي قال فيه إنه سيطر على السلطة بعد أن رأى أن إرث أتاتورك قد تم تضييعه: “… ويؤكد الجيش على الحفاظ على جميع تعهداته مع الناتو والمؤسسات الدولية وكل الاتفاقيات، وقد اتخذ تدابيره لذلك”، لو أن المؤامرة كانت محاكة داخليًا لقلنا إن الانقلابيين يحاولون طمأنة المجتمع الدولي، لكن بعد موقف المعارضة الرجولي الفعلي قبل القولي، يمكن أن تتجه أصابع الاتهام إلى دول خارجية.
سقوط الأقنعة
ذكرنا هذا الحدث بالانقلاب الذي تعرض له الرئيس المنتخب في فنزويلا سنة 2002 هوغو تشافييز، والذي لم يدم سوى ثلاثة أيام ليعيده شعبه إلى قصر الرئاسة، وعلى غرار كل الانقلابات فقد فضح انقلاب فنزويلا بعض الدول وأبرزها أمريكا التي اعترفت به مباشرة بعد إعلانه، ونفس الشيء حدث في تركيا، فرغم قصر مدة المحاولة، فقد فضحت عدة دول عبر اتخاذها “الحياد المتآمر”، أو انتظار الحسم، وأكاد أجزم أنه لو استمر ليوم واحد فقط، لاعترفت به دول كثيرة في الشرق الأوسط والغرب.
في تصريح سابق لرئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون قال: إن “تركيا لن تصبح عضوًا في الاتحاد الأوروبي قبل عام 3000″، رغم أن بريطانيا ودعت الاتحاد بعد حوالي ثلاث أشهر فقط من هذا التصريح، إلا أنه لازال يحمل دلالات واضحة على موقف بريطانيا من أردوغان، وزادت تصريحاتها أثناء محاولة الانقلاب حيث اكتفت “بالقلق بشأن الأحداث” الجارية بتركيا من وضوح موقفها، حيث كانت تمني النفس بنجاحه لكن تأتي الرياح بما لا تشتهي السفن، وربما هذا ما تظهره تغريدة لوزارة الخارجية والكومنلوث البريطانية على تويتر:”نحن نتابع تطورات الوضع في تركيا وحتى تتضح الأمور بصورة أفضل ننصح البريطانيين بتجنب التواجد في الأماكن العامة في تركيا”.
وقال متحدث باسم الأمم المتحدة: “الأمين العام يراقب عن كثب التطورات في تركيا وهو على دراية بالتقارير عن محاولة انقلاب في البلاد”، رغم أن صدى الانقلاب بلغ مسامع الأمم المتحدة إلى أن موقفها لم يكن محسومًا، بل كانت تنتظر نهاية الأمور وهذا ما قاله نفس المتحدث في تتمة حديثه: “تسعى الأمم المتحدة لاستيضاح الموقف على الأرض وتناشد بالتزام الهدوء”.
وفي أمريكا قالت مصادر حكومية إنها تعتقد أن محاولة انقلاب جارية في تركيا “لكن من غير الواضح من سينتصر”، كلام كسابقه يدل على أن الموقف ينتظر أن تحسم الأمور.
وقال جون كيري وزير الخارجية الأمريكي إنه يجب الحفاظ على السلام والاستقرار واحترام “استمرارية” السلطة، يبدو أن بيان الجيش قد أوهم كثيرين أن الانقلاب قد تم بنجاح ليصدروا بيانات مبهمة إن أوضحت شيئًا فإنما توضح الموقف المؤيد أو على الأقل المحايد المتآمر، لكن بعد أن حسمت الأمور وتأكد أن الانقلاب قد فشل، صرح البيت الأبيض بضرورة دعم الحكومة المنتخبة في تركيا.
خلاصة القول أن الغرب تعامل مع محاولة الانقلاب كمتفرج يشاهد “مباراة كرة القدم”، وينتظر نهايتها “ليعترف إن نجح، أو يدين إن فشل”، وعلى هذا المنوال نسجت بعض الدول العربية، وبعد أن تأكد الفشل بدأت الإدانات من مشارق الأرض ومغاربها.
دروس من موقف المعارضة
بعد موقف المعارضة الرافض لأي انقلاب على الشرعية، والذي تجسد عمليًا بخروجها للشارع رفقة الشعب التركي ومواجهتها لدبابات الانقلابيين، هذا يخط لنا بعض الخطوط العريضة حول من يقف وراءها، حيث يتضح أن المحاولة تقف وراءها أيادٍ خارجية كما ذكرت سابقا، إذ لو كانت الأمور معدة داخليًا فقط لكانت أحد الأطياف المعارضة معها أو على الأقل تقف محايدة إلى أن تحسم الأمور، لكن بعد موقفها الذي ينبع من وعي قل نظيره والذي أعطى درسًا بالغ الأهمية للعالم – أساليب تدبير الخلاف لا ولن تكون إلا عن طريق صناديق الاقتراع -، تأكد أن هناك أعداء متربصون بتركيا.
لن تخرج الاتهامات عن دول مثل إيران وروسيا اللتين سبق حظرهما للرحلات الجوية لتركيا الإدانة، ومثل إسرائيل التي رغم تطبيعها للعلاقات مع تركيا إلا أن سياسة أردوغان لا زالت تعرقل طموحات نتنياهو وحلفائه في المنطقة، وأمريكا التي تسرعت بتصريح مبهم عبر وزير خارجيتها والذي حسب كلامه الأول ظن أن الجيش قد تسلم السلطة فعلاً، وهذا واضح من خلال عبارة “احترام استمرارية السلطة”، ولن تبتعد الاتهامات كذلك عن بعض دول الخليج وعلى رأسها الإمارات وكذلك النظام الانقلابي المصري الذي كانت تتحدث وسائله الإعلامية عن ثورة في تركيا وأن أردوغان طلب اللجوء لألمانيا، ورغم فشل الانقلاب واصلت الصحف المصرية أمانيها بعناوين عريضة على أعدادها الصادرة أمس، حيث جاء في جريدة “الوطن” بخط عريض في صفحتها الرئيسية “الجيش يحكم تركيا ويطيح بأردوغان”، وكتبت جريدة “الأهرام”: “الجيش التركي يطيح بأردوغان”.
الشعب التركي العظيم
بعد أن أعلن الجيش استلامه للسلطة عبر البيان الذي أصدره، وأمر المواطنين بعدم الخروج من المنازل حفاظًا على حياتهم، دعا أردوغان عبر الهاتف الشعب التركي وكل الغيورين على الديمقراطية إلى الخروج للتصدي لمحاولة الانقلاب، وما هي إلا دقائق حتى بدأت الجموع تحتشد في شوارع عدة مدن تركية مواجهة الجيش بصدورها العارية، وهذا ما عبرت عنه صورة أحد المواطنين وهو يعترض دبابة للانقلابيين بجسده، بعدها بدأ الجيش بالانسحاب حين وجد نفسه يواجه الشعب الغاضب على محاولة اغتصاب إرادته، هذا يعطينا دروسًا لا تنسى، في أن الشعب التركي لن يقبل أي انقلاب على الشرعية، وبأن الانقلابات العسكرية مرفوضة، فهي لا تجلب سوى الدمار، وبأنه لا بديل عن الديمقراطية.
خاتمة
مما يحسب للشعب التركي، أنه رفض أي مؤامرة خارجية على إرادته، ولعل هذا من أسباب فشل الانقلاب، فقد كان مرفوضًا لدى الشعب التركي والمعارضة، وحتى لدى الجيش نفسه، فمن قام بالمحاولة هم مجموعات منه فقط، وهذا يدل على وعي كبيير لدى الأتراك.
ولكن رغم تأكيد الشعب التركي تمسكه بالديمقراطية، فإن من تآمر عليه أمس، سيواصل تآمره غدًا، وإن لم تنفعه الأساليب المعتادة فسيبتكر أساليب جديدة للانقلاب على إرادته.