يفترض النظام الجمهوري الذي أعلنت عنه تونس في مثل هذا اليوم سنة 1957، أن تكون السيادة للشعب، يمارسها عبر نوابه في البرلمان، وأن تكون سلطة الحاكم مرتبطة برضى الشعب لا حزبه وعائلته، وأن تقدّم المصلحة العامة على المصلحة الخاصة، وأن يكون هناك إسهام واسع للمواطنين في الحياة السياسية، فهل تحقق ذلك ودولة تونس تحتفل بالذكرى الـ 59 لهذا الإعلان؟
جاء إعلان الجمهورية في تونس، بعد سنة ونصف من إعلان الاستقلال عن المحتل الفرنسي في 20 مارس 1956، لتتكرس بعده هيمنة الرئيس الحبيب بورقيبة وحزبه (25 يوليو1957-7نوفمبر1987)، الحزب الحر الدستوري الجديد (تغير اسمه ليصبح الحزب الاشتراكي الدستوري)، على الحياة السياسية وأركان الدولة.
بورقيبة يقوض أسس النظام الجمهوري
في عهد بورقيبة الذي من المفترض أن يكون عهدًا للحريات كما نص على ذلك “إعلان الجمهورية”، تم إعدام العديد من معارضيه على رأسهم اليوسفيين (أنصار الزعيم الراحل صالح بن يوسف) وشرّد المئات واعتقل الآلاف، كما أظهر شراسة في مواجهة منافسيه السياسيين وأجهز على المؤسسة الزيتونية الإسلامية وعطل الصحف وألغى الحريات الأساسية وأقام نظام الحزب الواحد بدلاً من النظام الجمهوري.
بدأ عهد بورقيبة بإلغاء النظام الملكي واعلان النظام الجمهوري
في عهد بورقيبة، الذي بدأ يومه الأول بإلغاء النظام الملكي وإعلان النظام الجمهوري في تونس، هيمن حزبه على البلاد والعباد، فكان نظام الحزب الواحد، وهيمنت على الجمهورية الوليدة أحادية في التسيير وفي التفكير وفي الإعلام وفي التنظيم، في عهد بورقيبة عرف النظام الجمهوري العديد من الانحرافات نتيجة شخصنة السلطة من قبله وانفراده وحزبه بالحكم.
بعد 25 يوليو 1957، اعتقد التونسيون أن زمن القمع ولّى واندثر وحل مكانه زمن الحريات والتعددية السياسية والفكرية، ظنّ التونسيون أنهم قطعوا الطريق على دعاة النظام الوراثي وتوريث الحكم، وأنهم بدأوا حياة جديدة قوامها التداول السلمي على السلطة والفصل بين السلطات الثلاث التشريعية والقضائية والتنفيذية.
كان ظنهم أن النظام الجديد يحمل مشروعًا حداثيًا أساسه دولة مدنية عصرية، يتعامل مع التونسيين بصفتهم مواطنين لا رعايا، إلا ان بورقيبة كان له قول غير هذا، فوضع إعلان الجمهورية وما نص عليه من مبادئ في إحدى خزائنه واقفل عليه بمفتاح من حديد رماه في أعماق المحيط حتى لا يفتح الخزانة ثانية ويرى الإعلان.
كان هدف الإعلان عن النظام الجمهوري الإسهام الأفضل والأوسع لمجموع المواطنين في الحياة العامة بمظاهرها السياسية والاجتماعية والاقتصادية، كان هدفه أن يسود الشعب ويتمتع بالحرية في اختيار حكامه وقياداته، فكان بورقيبة وحزبه حجر عثرة أمام كل هذا، فتحقق عكس ما كان ينتظر الشعب، فلم يكن متاحًا في عهده، تركيز أسس الديمقراطية وتقديم منافسين له على الحكم، إذ منح تعديل دستوري عام 1976 الرئيس الراحل الرئاسة مدى الحياة.
بن علي يكرس حكم العائلة
بعد ثلاثين سنة من حكم بورقيبة، جاء بن علي، فكان كسابقه، استخف بكل مؤسسات الدولة وهمّش مبادئ النظام الجمهوري ليستيقظ الشعب على حكم يشبه المافيا السياسية والمالية والإدارية.
بعد 7 نوفمبر 1987، وحكم المخلوع زين العابدين بن علي، تحول نظام الحكم الجمهوري في تونس إلى نظام تسلطي على الشعب نفسه بموجب الصلاحيات التي أضحت بيد الرئيس الجديد نتيجة التعديلات الدستورية المتتالية؛ فتحول النظام السياسي إلى نظام رئاسي محوره الرئيس، رئيس مستبد ينتخب شكليًا، فتعرض النظام الجمهوري في عهد بن علي إلى عملية مزدوجة من التهميش والتوظيف لكل مؤسسات الدولة لفائدة حزبه وعائلة زوجته، إلى جانب تكميم الأفواه واحتكار الإعلام.
استفتاء 2002 مهد للرئاسة مدى الحياة
عبث بن علي وعائلة زوجته “الطرابلسية” بمؤسسات الدولة وأخضعوها لإمرتهم وسلطانهم، عبث بالدستور والمؤسسة التشريعية، ليمهد الطريق أمام الرئاسة مدى الحياة سنة 2002، ولعب بالقضاء والمؤسسة الأمنية فقتل العشرات وشرّد المئات واعتقل الآلالف، كسلفه “بورقيبة”.
في عهده، استولت عائلة زوجته ليلى بن علي، على المؤسسة الاقتصادية للدولة وطوّعتها لخدمتها وخدمة مصالحها عوضًا عن مصالح الشعب ونهبت خيرات أرضه وثرواته، فهل تحققت الجمهورية؟
السبسي وحكم الابن
بعد ثورة 14 يناير 2011، التي نادت بالحرية وسيادة الشعب وحقه في نظام ديمقراطي يسمح بحق الاختلاف ويرفض أشكال احتكار الحياة السياسية وزوال حكم بن علي، يجد الشعب نفسه، مرة أخرى، أمام انحراف آخر للنظام الجمهوري وسعي الرئيس الحالي لتكريس حكم العائلة وحاشيته المقربة، وما الصراع بين قرطاج (مؤسسة الرئاسة) والقصبة (رئاسة الحكومة) إلا دليل على انحراف النظام وتداخل بين مؤسسات الدولة والحزب الحاكم وعائلته.
الصراع بين “قرطاج” و”القصبة”، يؤكد سعي السبسي لفرض ابنه على مقاليد الحكم
يسعى رئيس تونس الحالي الباجي قائد السبسي، إلى تثبيت حكم ابنه وفرض وصايته على الدولة ومؤسساتها، مستهينًا بالشعب الذي ثار ضد بن علي وإدارته، يسعى السبسي إلى السيطرة على مفاصل الحكم وإفساح المجال لتوريث نجله الحكم.
لكن، بعد كل هذه الانحرافات التي عرفها النظام الجمهوري ومؤسساته في تونس، منذ إعلانه في الـ 25 من يوليو1957 إلى الآن، على التونسيين أن ينهضوا بدولتهم ويعيدوا بوصلتها للطريق السوي، فأمامهم، اليوم، موعدًا تاريخيًا فاصلاً من أجل إعادة الاعتبار للجمهورية ومؤسساتها والانتصار لدولة المواطنة ولسيادة القرار الوطني ورفض أية وصاية أو ولاء لأية جهة أو أيديولوجيا ثقافية.