في العاشرة صباحا دلفت الى قاعة السينما الشبه فارغة قاصدة مشاهدة فيلم اشتباك بعد بدء عرضه بأيام وقد حمسني إعلان الفيلم على مشاهدته لأعرف بنفسي حقيقة القصة وما يروجون من أخبار أنه ملاحق أمنيا ومرفوض وأن المخرج قام بوضع مجسم لشكل نافذة لعربة الترحيلات ليلتقط زوار الفيلم صورة تذكارية عند خروجهم من العرض.
بداية كان ما سمعته أن قصته تحكي عن سيارة ترحيلات أبو زعبل الشهيرة التي قضى بداخلها سبع وثلاثين شخص نتيجة إلقاء قنبلة غاز فيها وتركهم يتفحمون بداخلها حتى الموت.
ولأن الحادث قد حفر في قلوبنا ألما فادحا وفقدان مطعم بالقهر بعد أن أخذ الضابط المتسبب في تلك المجزرة براءة من قضاء مصر الشامخ كان الفضول كبيرًا لمشاهدة الفيلم الذي يدعون تناوله لجزء من القصة المؤلمة.
نيللي كريم ممثلة بارعة وكذا كل من شارك في العمل الممرضة المصرية التي تمثل مصر كما أراد لها المخرج وزوجها وولدها ، الموسيقي التصويرية ومشاهد الإشتباكات داخل العربة وخارجها بدت حقيقية لدرجة كبيرة، شعرت لوهلة أنني معهم في ذلك القفص الحديدي المتنقل.
نقلوا لي شعور العطش وكان صهد أنفاسهم يلفحني، هناك عدة مشاهد أسالت دموعي غير أن من بالقاعة معي كانوا يضحكون بشكل فج في مشاهد السخرية من الإخوان التي طعم بها المخرج أغلب المشاهد.
مشهد: أحد المساجين من مدينة نصر يبدو مرفهًا يسأل من بجواره لماذا اعتقلوه؟ فيقول أنه مشرد بلا منزل لكن كلبه توفي في احدى المواجهات بين الشرطة والمتظاهرين فقرر النزول معهم لأن كلبه كان كل عائلته!
ردت نيللي كريم هازئة من سبب نزوله لكن الفتي الاخر أراه صورته مع كلبه وقال أنه يتفهمه لأنه يحب كلبه كثيرا وسأله عن اسم كلبه قائلا هل تريد الإحتفاظ بالصورة فأخذها الأخر ممتنا وعينه دامعة.
الرسالة الواضحة أن من يشارك في ثورة على واقعه إما إخواني او أحد المندهسين بين الأرجل مثل هذا المشرد
في مشهد لاحق مع اقتراب من نهاية الفيلم كان هذا المشرد قد أدرك عدوه الحقيقي ويمسك موسا حادًا ويضعه على رقبة أحد الاخوان قائلا: “دول لازم يموتوا”
هذا المشهد أثار في نفسي ذكرى قريبة لرجل في حينا يفترش الشارع مرة يبيع التين الشوكي ومرة البصل ومرة القثاء أي شيء رخيص في موسمه يدر عليه مالا يكفيه لإدارة عالمه البائس علي الرصيف، اعتاد بعد حكم الدكتور مرسي أن يضبط مذياعه الصغير ليسمع كلماته الموجهة للشعب، في يوم تنصيب الزعيم المخلّص من حكم الاخوان الموصوم في إعلامهم بالإرهاب رأيته يدخل البقالة المجاورة لبيتي محني الرأس وطلب شيئا من البائع فسألته مهتمة مالك عيان ؟ قال لي “اليوم البلد كلها عيانه ده أسود يوم في تاريخ مصر هات لي يا عم طلبي خليني امشي مالها عيشة الشارع ما انا طول عمري فيه ربنا ياخدنا ويخليلهم حكم مصر زي كل مرة هيدوسوا رقاب الغلابة ويعدوا”.
كانت تلك كلمات رجل الشارع الذي يعتاش منه ولا يمتلك بيتا سواه لم يكن سفيها ولا غبيا، هو ومن مثله يعرف تماما من هم الأعداء ومن الأصدقاء في حكم الرئيس المدني المنتخب كان أكثر الأمل لتلك الفئة بالرغم من أن فيها شريحة لا بأس بها تمت رشوتها والاستعانة بخدماتها الرخيصة لحرق مقار الاخوان والتنكيل بمسيراتهم بل وفض اعتصاماتهم ذات الشريحة التي كان الاخوان نفسهم يدعمونها بمواد تموينية ومعونات في كل مناسبة لكن أثر الاعلام الذي ينزل سما زعافا في عقول الناس منذ انشاء مبنى الاذاعة والتلفزيون كان صاحب الكلمة الأخيرة عليهم.
لم أنس أبدا أن تلك الشريحة قد قدمت من أبناءها وقودا في ثورة يناير الأولى، لكن الرئيس المدني المنتخب تناسى القصاص لهم وقام بتكريم القتلة لتجنب أذيتهم وظنا منه أنه يقطع سمهم عن حكمه وسيعوض أصحاب القصاص في وقت لاحق، ما أظنها إلا دماء تلك الفئة المهمشة قد أسقط الله بها سريعا حكمًا لم يقم على العدل البواح وأراد أخذ الحق بشكل بالغ التخاذل وبطء لا يتناسب مع حجم ما فقده هؤلاء وكان كل ما يملكون ليقدموه للوطن أرواحهم فقط.
مشهد اخر لفتاة منقبة مع والدها الملتحي ثائرة كما أرادها المخرج تسب من يسب والدها قائلة : متشتمش أبي وتجيب على نيللي كريم وهي تسألها اسمك ايه فتقول عائشة فترد نيللي هبقي اخد نمرتك يا عيشة فترد عليها في إباء اسمي عائشة مش عيشة وترد نيللي ساخرة “مليش في جو قريش ده هقولك يا عيشة”.
حرص المخرج أن يهين في كل مشهد ما يستطيع النيل منه من معاني في ثقافة المسلمين ليبرهن كم أن معتنقي الدين فئة تستحق ما ينالها وزيادة حتى لو كانت السخرية من مجرد إسم ما شأن قريش بإسم زوج النبي لم نسبوا الكفر والجهل لإسم بهذا الشرف التاريخي وهل تمسك فتاة باللفظ العربي الصحيح لإسمها يجعلها من العصر البائد!
مشهد أخر كان للإخوان وهم يعرفون انفسهم بل ويقسمون نفسهم اخ عامل واخ محب والعامل يرتدي شارة بلون يحملونها في جيوبهم والمحب عليه أن يقلب شارته ليتم التمييز بينهم مما يجعل المحب يشعر بالإبعاد ويظهر الغيظ من المشهد العنصري وقد وقف أخوين أحدهما محب والاخر عامل في مكانين منفصلين بقرار من الإخوان الذين طالبوا من في عربة الترحيلات من اخوة الوقوف في مكان معا وطالبوا الناس بالذهاب بعيدا فاعترض البعض ورضخ اخرون.
وهناك الاخ المسؤول وهو وجه جديد لأمير الجماعة في افلام عادل امام، وجه حرصوا ان يجعلوه تائها مميعا بين الحق والباطل عندما خفض رأسه صامتا في حين هتف الاخوان الشباب: القصاص بالرصاص وهم يرون مسيراتهم تمطر الداخلية بالرصاص في مشهد ولا شك ان كاتبه عمد الي أحد أفلام الخيال العلمي عند كتابته فمنذ متي كانت مسيرات الثوار الذين جعلوهم في الفيلم كلهم تابعين للإخوان مسلحة ، إن كان المصريين يمتلكون سلاح فلم تكن مصر لتكون الأن بأقل من الشام وما يحدث فيها بأي حال ، وكنا رأينا جيشها يقصف الأحياء السكنية تماما كجيش بشار لكن المرشد العام الذي خرج يقول سلميتنا اقوي من الرصاص قد منح المجلس العسكري وقائده هذا الكارت الاخضر والذي يستعملونه حتي اللحظة في سحق أعناق العزل داخل السجون وخارجها علي مرأي ومسمع من العالم.
مشهد أخر للمجموعة كاملة في عربة الترحيلات بعد ان بلغ منهم التعب مبلغه واستسلموا وتوقفوا عن مهاجمة أحدهم الأخر وأحد الاخوان يخبرهم انه كان قد شارك في التمثيل والغناء وصور مشهدا عبر مكتب شريف عرفة المخرج ولكنهم لم يتصلوا به مرة اخري وتطوع بالغناء وقام منشدا بصوت بالغ الركاكة المقطع الشهير : لبيك اسلام البطولة كلنا نفدي الحمي.. لبيك واجعل من جماجمنا لعزك سلما… فضحك من في العربة ورد عليه احدهم وهو مصري بجنسية أمريكية قائلا : غنيت دي عند شريف عرفة فضحك الاخ قائلا لا غنيت له حاجة لهيفاء وهبي.
المتدين في فيلم اشتباك عليه ان يكون فاشلا في كل شيء عليه ان يكون في هذا الطريق لانه فشل في الطريق المعاكس عليه ان يوجه رسالة دائمة ان من يختارون الدين هم حتما حفنة من السفهاء معدومي القيمة والوجود.
وعلي العكس فإن لقب الدكتور فلان والمهندس علان الذي كانوا ينادون به قياداتهم عبر سيارتي الترحيلات كناية عن قادة الاخوان حتي رد واحدا من العربة ساخرا من مشهد الاخوة وهم ينادون الدكتور فلان من العربة الاخري قائلا :هو ده عمرو دياب بتاعكوا جاء تأكيدا ان هؤلاء بالرغم من شهاداتهم العلمية ما هم الا فئة متامرة تنشر الارهاب والدسائس في مصر وتستغل الفئة الأقل علما في تنفيذ مخططاتهم عبر سحق هوياتهم وجعلهم نسخة من العساكر الغلابة المأمورين
استعمال أسماء مثل حمزة ومالك وعائشة كانت لنفس الاغراض كأن تلك الأسماء ليست مستحسنة ولا دارجة في قاموس المصريين الا الإخوان منهم لا غير
تصوير المسيرات الغوغائية المليئة بالرصاص وأهل عربة الترحيلات في مشهد ملحمي لا يصدق يحاولون تنبيه أحد العساكر قبل ان تصيبه رصاصة غدر فيسقط كان مشهد هو أقرب للكوميديا فجأة صار العسكري الذي ينفذ اوامر الضابط فيطلق النار ويمسك المتظاهرين ويجرهم الي عربة الترحيلات ويمنع عنهم الماء والهواء ضحية مسكين وهوية قاتله معلنة بشكل او بأخر.
مشهد الضابط الذي قال فبطولية لمن في العربة انه سيطلق سراح الاطفال والنساء لان عنده مثلهم في البيت بعد أن قتل احد القناصة صديقه الضابط الاخر وفي موقف مفعم بالجلال امسك هاتف صديقه الشخصي واتصل بزوجته ليخبرها باستشهاد زوجها بعد أن هجم علي القناص الموجود في أعلي احد المباني عقب هتاف من في عربة الترحيلات بتحديدهم لمكانه فأنتبه العساكر وانقضوا للقبض عليه وقاموا بقتله ركلا ببنادقهم وضربا في الشارع وتركوه وانصرفوا وقد قال الضابط في لهجة غاضبة متراجعا عن قراره السابق بالإفراج عن النساء والأطفال : محدش فيكم هيروح.
تحميل الناس جميعا ذنب ارهابهم المحتمل رسالة واضحة أن السيئة تعم وأن علي الناس مقاتلة بعضهم البعض كي لا يكونوا مع أعداء الوطن في سلة واحدة ، الاخواني الذي يهتف من عربة الترحيلات هاتوا اسعاف الراجل هيموت مشيرا الي القناص الذي قتلوه ضربا وتركوه في وسط الشارع عبرة للمعتبر وانصرفوا يخبرنا في اي صورة يريدون وضع الاسلاميين في مصر هذا الارهاب الذي صنعوه لهم ونسبوه اليهم وأهدروا لأجله دمهم في كل محفل وميدان ، تلك الصورة المستحيلة للإفتراء التي لو حاول أبليس نفسه أن يصنع أفضل منها ما استطاع
في أخر مشهد للفيلم كانت عربة الترحيلات قد تمت السيطرة عليها من قبل مالك اخو حمزة الموجود معهم في السيارة وقد كان والدهم قد مات في مشهد سابق بسيارة ترحيلات أخري وطالب مسؤول الجماعة من مالك بعد فشله في فتح قفل السيارة أن يسير بهم الي احدي مسيرات الاخوان وهناك هم سيفتحون الباب وقتها هاج من في السيارة وماج قائلين : هيقتلونا متروحش وقاموا بتكبيل حمزة ووضع الموس علي رقبته وطالبوه أن يأمر مالك أن يوقف السيارة فما كان من حمزة الا أن قال لأخيه محرضا أبوك مات يا مالك متقفش حتي لو قتلوني أشهد ان لا اله الا الله وقتها يأس من في العربة وكان المشهد الأخير لحفنه من الغوغاء يتجمعون حول العربة ويهتفون خونة خونة ويسحبون من فيها واحدا واحدا ويقتلوه ضربا
انتهى الفيلم وخرجت منه أشعر أن مصر كلها حبيسة عربة ترحيلات جهل وتضليل وتراشق تهم وواقع مأساوي بحق
إن كان مخرج الفيلم أراد ان يقول أن الشعب يقتل بعضه وأن الشرطة والجيش براء مما يحدث فلم يكن ليقول أكثر من هذا المشهد ، حتي الإخوان في عربة الترحيلات لم يعد مصيرهم واضحا لأن الإخوان في المسيرة حفنة مهتاجة من فاقدي التمييز وقد راقتهم شهوة القتل لدرجة كبيرة ذكرني ذلك المشهد بجارتي المنتمية لحزب الكنبة وهي تفر مرعوبة عندما شاهدت مسيرة للاخوان في وسط البلد وتعود لتكتب علي صفحتها كيف أن الإرهاب عم وطم في أرجاء البلاد
انتهى الفيلم وخرجت منه أشعر أن مصر كلها حبيسة عربة ترحيلات جهل وتضليل وتراشق تهم وواقع مأساوي بحق ، وأن فيلما من انتاج اماراتي ألماني فرنسي مصري بمشاركة أحد دعاة التدين الحديث معز مسعود لم يكن ليحكي قصة أقل كذبا وتدليسا من هذه وبعيدة عن واقع ما حدث وأن الفيلم الذي يحقق في إيرادات الأيام الأولي لعرضه مليون جنيه لابد أن يكون الهدف منه التنفيث عن غضب الناس وإدعاء الحرية في عصر القمع لكن علي الناس الأن أن تقرأ بين السطور وتفهم ما يريدونه صناع الفيلم وصناع القرار في العالم من عرضه في هذا التوقيت الحرج وإما أن يختار الناس الموت في عربة الترحيلات التي نحيا فيها جميعا وإما أن يختاروا الخروج لأخذ ما سرقه العسكر وما رأينا العالم الغربي كله يتامر لسرقته من تركيا البلد الوحيدة التي لازالت تدافع عن حقها في حياة كالحياة والتي لم نعد في مصر نحلم بحق امتلاكها حتي في فيلم سنيمائي.