غاب الناس، أو كادوا، وحضر السلاطين، ومن يسلطنونهم بقوة السلاح والمال، وغاب العلماء عن الصورة تمامًا إلا علماء السوء والدروايش، وغابت أخوة الإسلام، وحضرت شهوة الملك – على الرغم من تربص العدو – فحدث ما حدث ويحدث وسيظل يحدث في أمتنا الإسلامية من مآسٍ ومصائب لا حد لها ولا عد.
تلك – باختصار – قصة الحروب الطويلة التي قضاها السلاطين المتغلبون على أمة الإسلام، يقاتل بعضهم بعضًا، والناس في دورهم ينتظرن الغالب، ليكون سلطانهم حتى حين، يؤدون له فروض الطاعة، ويدفعون له كرائم أموالهم، لقاء أن يتركهم وشأنهم، بعد أن تركوه وعصابته وشأنهم يفعلون ما يشاءون.
ومعركة مرج دابق، في بر الشام، التي يمر اليوم عليها خمسمائة سنة، واحدة من تلك المآسي التي عانت منها أمتنا ومازالت تعاني من آثارها حتى اليوم، نحاول أن نستعيد أحداثها، من خلال قراءة ما كتبه ابن زمبل في كتابه “واقعة السلطان الغوري مع سليم العثماني”، لنخرج بدروس وعبر ما حدث في نهاية هذه السلسلة من المقالات.
من هو ابن زنبل؟
هو الشيخ أحمد بن أبي الحسن علي بن نور الدين المحلي الشافعي، الشهير بابن زنبل، عاصر فترة حكم المماليك وشاهد حوادثها، وكان بمنزلة المشير على المماليك يضرب لهم الرمل (ولهذا سمي بالرمال)، ويكشف لهم عن حظهم في كل موقعة، وهم يأنسون إلى رأيه، ويصدقون قوله، وقد توفي ابن زنبل سنة 960هـ الموافق 1554م تقريبًا.
في هذا المقال نقرأ كيف رأى ابن زنبل أحداث الموقعة وما هي الخريطة الإدراكية التي من خلالها رآى وحكم؟
في أصل الخلاف وسبب المعركة
يحكي ابن زنبل أنه لما هرب قرقود أخو سليم الأول إلى مصر، خوفًا من القتل، استجار بالغوري فأجاره، وما لبث سليم أن طلب من الغوري تسليم أخيه، فأبى أن يمكنه منه، فاشتدت العداوة بين الغوري وبينه حتى وقع ما وقع.
ولكن هذا لم يكن السبب الوحيد للعدواة ثم القتال، فابن زنبل يشير إلى أن نائب الغوري على البيرة (بلدة بين حلب وتركيا حاليًا) المسمى”علاء الدولة”، أمر أهل مرعش ألا يبيعوا لعسكر السلطان سليم شيئًا مطلقًا من المأكل ولا غيرها، وهم في طريقهم إلى قتال شاه إيران إسماعيل، فمات أكثر الدواب والناس من شدة الغلاء.
وأرسل سليم للغوري يعلمه بما فعل علاء الدولة، فأجاب الغوري بأن “علاء الدولة عاصي أمري، فإن قدرت عليه فاقتله”، ثم كتب الغوري مرسومًا وأرسله خفية لعلاء الدولة، يشكره على ما فعل، ويغريه على قتال السلطان سليم، ولا يمكنه من شيء أبدًا، وكان قصد الغوري إلقاء الفتنة بين الاثنين، رجاء أن يقتل أحدهما أو كلاهما، فيكتفي شرهما، فإنه كان يعرف شدة بأس كل منهما.
فقوي قلب علاء الدولة، على قتال السلطان سليم، وأما السلطان سليم، فإنه لما قرأ جواب الغوري علم بفراسته أنه خديعة له، فتحملت نفسه من الغوري غاية التحمل.
الغوري يخرج لملاقاة سليم
خرج الغوري من مصر يوم السبت سادس عشر ربيع الآخر سنة 921هـ (1515م)، ومعه أكابر أمراء دولته، فوصل غزة فأقام بها ثلاثة أيام، ثم رحل بجيوشه وهم “يموجون كالبحر الزاخر، والسحاب الماطر، فرسانًا كالعقبان الكواسر” كما وصفهم ابن زنبل.
الكل يريد السلطان
ولكن – كما يقول ابن زنبل – إذا نزل القضاء عمي البصر، فألقى الله تعالى فيهم الفتنة، فكان كل من الأعيان يتمنى هلاك السلطان، حتى يكون هو السلطان، فبهذا الموجب هلكوا أجمعين، ويبعثون على نياتهم.
نصيحة ذهبت أدراج الرياح
ورد على السلطان، وهو مقيم بغزة، رسالة من عند سيباي نائب الشام، يذكر فيها أنه سمع بأن السلطان يريد السفر إلى قتال بن عثمان، وأن المملوك يقوم بهذا الأمر، ويكون السلطان مقيمًا في مصر، ويمد المملوك بالعساكر من المنصورة، وأعلمه بخيانة خاير بك، ومكاتيبه لا تنقطع من عند ابن عثمان في كل حين، فرد عليه السلطان “ها نحن قد جئناكم بأنفسنا”، فقد كان الغوري يخاف سيباي لشجاعته، ولظنه أنه يريد وراثته في السلطنة.
تخوين الأمين
ومن غريب صنع الله تعالى – كما يقول ابن زنبل بأسى -، أن السلطان الغوري كان له رمال حاذق، فكان كل حين يقول له السلطان “انظر إلى من يلي الحكم بعدي”، فيقول: “حرف السين”، فكان السلطان يعتقد أنه سيباي، فكان السلطان لا يقبل من سيباي نصحية حتى نفذ قضاء الله تعالى وحكمه وقدرته، وكان ما كان.
وكان سيباي بطلاً من الأبطال، لا يخطر الموت على باله، فارسًا مناعًا، وبطلاً شجاعًا، ذا عزم شديد، وبأس مديد، وكان رجلاً يعد برجال، هو الذي عمر المدرسة التي بدمشق، المعروفة بمدرسة سيباي ووقف لها الأوقاف ورتب لها الخيرات – رحمة الله عليه -.
الغوري يوغر صدور أهل حلب
دخل الغوري حلب، لكنه أفحش وظلم ويحكي ابن زنبل أنهم لما دخلوا حلب أخرجوا الناس من بيوتهم، وسبوا حريمهم وأولادهم، وآذوهم الأذى البليغ.
قتل علاء الدولة
وبمجرد انتصاره على الشاه إسماعيل رجع سليم، لقتال علاء الدولة، وكان معه ابن أخي علاء الدولة الذي ألب جيش عمه عليه، فارتج عسكر علاء الدولة، وافترق منه بعضه، وهزم علاء الدولة وقتل، فإن “الملك ليس هو ملكًا إلا بالعسكر، فإذا انحرف عليه عسكره ضاع ملكه” كما يقول ابن زنبل.
المراسلات بين الغوري وسليم
ثم أرسل سليم إلى الغوري وهو في حلب يحاول استمالته، فأحسن الغوري مقابلة – ظاهرًا – رسول سليم، وأكد له أنه ما خرج من مصر إلى الشام ومعه أهل العلم جميعًا إلا ليصلح بينه وبين إسماعيل شاه، ثم أمر الغوري بالخروج للحرب وقتال سليم.
يشاور ثم يخالف
وأراد الغوري أن يرسل قاصدًا رسولاً للسلطان سليم، فشاور أكابر دولته، فاقتضى رأيهم أن يرسل رجلين من أهل العلم والدين ليتكلم بينهما بالمعروف رجاء لحقن دماء المسلمين، فلم يفعل، وأمر بإحضار الأمير مغلباي دوادار، وكان رجلاً فاضلاً قادرًا على رد الأجوبة وإقامة الحجة، ثم أمر عشرة من خيار العسكر للخروج معه في كامل ملابسهم الفاخرة، قاصدًا إخافة سليم وجنوده.
قل لأستاذك يجتهد جهده
ما إن رآى سليم مغلباي والفرسان في كامل أسلحتهم، حتى قال للأمير مغلباي: يا مغلباي أستاذك ما كان عنده رجل من أهل العلم يرسله لنا؟ وإنما أرسلك بهؤلاء يرعب بهم قلوب عسكري ويخوفهم برؤية أجناده، ولكن أنا أكيده بمكيدة أعظم من مكيدته، ثم قتلهم جميعًا إلا مغلباي فإنه حبسه يومين، ثم أحضره وحلق ذقنه، وألبسه طرطورًا، وركبه على حمار أعرج معقور، وقال له: قل لأستاذك يجتهد جهده، وها أنا حضرت إليه كالبرق الخاطف والرعد القاصف.
التجهز للحرب
فلما رجع مغلباي على هذه الصفة التي سبق وصفها، أيقن الغوري ومماليكه بوقوع الحرب، فأمر الغوري يخروج العسكر وليتهيأوا للقتال، جمع الغوري الأمراء والأعيان، وتحالفوا على ألا أحد منهم يخون صاحبه، وأن يكونوا على قلب رجل واحد، ويقاتلوا عدوهم بعد أن كان غالب العسكر ما يظن إلا الصلح بين السلطان سليم وبين شاه إسماعيل، لكن هيهات.
إهانات متبادلة
بعد خروج الغوري من حلب، تبادل الرسائل مع السلطان سليم، ولكن أهان كل منهما الآخر، وأصبحت الحرب واقعة، واشتبك الجيشان عند مرج دابق في أغسطس سنة 1516.
بداية التمرد
لما خرج الغوري وجنوده لحرب سليم، أودعوا أموالهم عند أهل حلب، بعد أن كدروا عليهم غاية التكدير، وآذوهم غاية الأذى، فلما خرجوا من عندهم، دعا عليهم الكبير والصغير، والغني والفقير، لما حصل لهم من ضررهم، وبدأت البلاد تتفلت من الغوري، وتميل لسليم لما بلغهم ما فعلوه في حلب وأهلها، وتمردت قيصيرية عليهم وقفل أهلها أبوابها وتأهبوا لقتال أهل مصر لما بلغهم ما فعلوه في حلب وأهلها، وكذلك فعل أهل عنتاب وواليهم يونس باشا.
اقتل هذا الخائن
وإبان تجهز السلطان الغوري للحرب، وفي حضرة جميع الأمراء المماليك، قام سيباي – فجأة -، وأمسك بتلابيب خاير بك وجره بين يدي السلطان الغوري وقال:
يا مولانا إذا أردت الله أن ينصرك على عدوك فاقتل هذا الخائن
وتدخل جان بردى الغزالي نائب حماة، وأقنع الغوري بأن مقتل خاير بك سيؤدي إلى تفرقة كلمة المماليك في وقت يواجهون فيه عدوًا مشتركًا، ولكن إذا أراد الله تعالى بأمر بلغه، والحي ما له قاتلكما قال ابن زنبل، فأمرهم السلطان بأن يتحالفوا ثانيًا وألا يخون منهم أحد، والخائن يخونه الله تعالى، وعليه لعنة الله (أهكذا تدار الحروب والدول)، وكان بردي الغزالي هذا على اتصال سري مع العثمانيين، وانضم علانية إلى جانب العثمانيين عقب انهزام المماليك في المعركة.
تأمين الخائن
كان خاير بك، هذا، جبانًا، فلم يكن السلطان ليكترث له، وكان يتبادل الرسائل سرًا مع السلطان العثماني سليم الأول، في الوقت الذي كان فيه الغوري، يثق به، ولا يثق بسيبياي حاكم دمشق الذي نصحه فاخلص له النصيحة، وكان هذا سببًا في هزيمته وقطع رأسه وزوال ملكه.
متنازعون، فكيف يحاربون؟
بات أمراء الغوري بضع ليال قبل المعركة، لم يهنأ لأحد منهم نوم، من مكر بعضهم لبعض، وكان ابتداء الحرب يوم الأحد المبارك الثالث والعشرين من رجب سنة 921 الموافق 4 اغسطس سنة 1515م.
كانت ميمنة وميسرة الغوري من “القرانصة” وهم المماليك القدامى قبل مملكة الغوري، أما في القلب فقد وقف الغوري مع مماليكه الخاصة، وكان يطلق عليهم “الجلبان”.
كسروا ملكهم قهرًا
يقول ابن زنبل “لما راح السلطان الغوري بهؤلاء الأمراء والعساكر إلى مرج دابق، لم يكن أحد يقول إن هذا العسكر ينكسر أبدًا ولو اجتمع عليه أهل الدنيا، فإنه كل واحد من هؤلاء الأمراء يقول في نفسه، إنه مقوم بجيش وحده، ولكن لما اختلفت كلمتهم وقامت النفوس بعضها من بعض، ولاحوا على بعضهم، فكسروا بعضهم جبرًا، وكسروا ملكهم قهرًا، وكانت الكسرة عليهم، فلما التحم الحرب مع السلطان سليم، لم يصبروا غير ساعة، وهي من طلوع الشمس، إلى وقت الغداة”.
حرس جمهوري قديم
وكان الجلبان (الجنود المجلوبة بالشراء للحرب)، كلهم مشتروات الغوري ولا واحد منهم إلا ويعرف سائر أنواع الحرب والفروسية، وكان قصده أن ينشئ له عسكرًا من مماليكه، ويقطع القرانصة، وهم مماليك الملوك من قبله، وكان يحسب حسابهم خوفًا من أن يمكروا به كما فعلوا بمن قبله.
الخيانة قتلت الغوري
دخل الغوري وأمراؤه المماليك الحرب، والخلاف شديد بين القرانصة والجلبان، وأمر الغوري بأن أول من يخرج للحرب القرانصة لكونهم أعرف بالحرب من الجلبان، وفعلاً استطاع فرسان المماليك القرانصة الشجعان من القرانصة أن يحرزوا نصرًا جزئيًا، بينما جلبان الغوري لم يتحركوا من مواضعهم، ولم يهزوا رمحًا، ولا جبذوا سيفًا.
لكن لم يستمر هذا النصر كثيرًا لانسحاب خير بك وجان بردي الغزالي من الميسرة والميمنة، بعد أن أشاعا الفوضى في صفوف الجيش، بادعائهما أن الغوري يركز الهجوم على الميمنة والميسرة، رغبة منه في التخلص من القرانصة والإبقاء على الجلبان، فقد أوقعوا الفتنة بين جميع عسكر الغوري، فمن ذلك انخرط نظامهم كما يقول ابن زنبل.
كما أن المدفعية العثمانية، وهو السلاح الذي امتاز به العثمانيون على المماليك، أوقع بالجيش المملوكي، فاضطرب نظامه، وحاول الغوري أن يقوم بالهجوم بجلبانه، ولكن تزاحم عليه الأمراء المماليك، وأفهموه أن الدائرة قد درات عليه، وأن عليه أن يهرب بنفسه، خاصة مع هروب معظم المماليك الجلبان.
أهلكتنا وأهلكت نفسك
عندما لاحت بوادر الهزيمة واضحة، تقدم الأمير سودون العجمي أمير كبير، وقال للغوري: يا مولانا السلطان أين جلبانك؟ أين خاصتك؟ هكذا عملت بنا، ولازلت قائمًا في حظ نفسك حتى أهلكت نفسك وأهلكتنا معك، ولكن القيامة تجمع بيننا وبينك، وسنقف بين يدي مولانا، سبحانه تعالى، يحكم بيننا بالعدل، لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
بقي وحده
وهنا، يدرك الغوري الحقيقة المفجعة، ألا وهي خيانة بعض أمراء المماليك الذين سبق ووثق بهم – على الرغم من كل دلائل خيانتهم -، حتى بقي وحده، فأسقط في يده، وخلفه حامل السنجق، أمير اللواء، وكان رجلاً كبير السن من مماليك اينال الأجرود، وطلب الغوري بعض الماء، وأحضر له الماء في كوب من الذهب، ومازال الغوري في دهشة مما حدث، حتى انكسر قهرًا، ووقع على الأرض مغشيًا عليه.
وكان هذا يوم الأحد الثاني من رمضان سنة 922هـ الموافق أول بابة كما ذكر ابن اياس 30 سبتمبر 1516م، وقطع المماليك رأس الغوري وهربوا، وقتل باقي المماليك الشجعان سيباي وسودون العجمي وغيرهم.
ما أشبه الليلة بالبارحة
وهكذا عزيزي القارئ، ها نحن أمام قوى إسلامية كلها تتناحر – كاليوم تمامًا – وللأسف تقريبًا نفس التقسيم (إيران والعرب وتركيا)، من أجل الملك، وإن تعللوا بأسباب واهية هي هي نفس أسباب اليوم، فمازالت نفس دعاوى زمانهم، هي دعاوى زماننا: قتال الكفرة الرافضة والظالمين، وكأن سليمًا أو الغوري أو شاه إسماعيل لم يكونوا هم الظلم بعينه.
وللمقال بقية نتابع فيها دخول العثمانيين مصر، وكيف كانت أحوال أهلها وحكامها وثرواتها وثراوتهم؟ وكيف سقطت في أيدي العثمانيين؟ الذين نتعرف على طباعهم وأسبابهم لدخول مصر، لنخلص إلى دروس نحاول تلخيصها علها تفيدنا اليوم، ونحن مازلنا نعيد مآسي تاريخنا بإخلاص شديد.