أعلن كريس جارفيس، رئيس بعثة صندوق النقد الدولي إلى مصر إن الحكومة المصرية والبنك المركزي المصري وفريق صندوق النقد الدولي توصلوا إلى اتفاق على مستوى الخبراء يتيح لمصر 422 % من حصتها في الصندوق، أو حوالي 12 مليار دولار أمريكي، لدعم برنامج الحكومة لما أسماع “الإصلاح الاقتصادي” من خلال “تسهيل الصندوق الممدد” الذي يغطي ثلاث سنوات.
ويرتهن هذا الاتفاق بموافقة المجلس التنفيذي للصندوق، والذي يُتوقع أن ينظر في طلب مصر خلال الأسابيع القادمة. وقد وصف جارفيس مصر في بيان صادر عن البنك بأنها “بلد قوية لديها الكثير من الإمكانات، ولكنها تواجه بعض المشكلات التي تتطلب علاجا عاجلا.”
الدين الخارجي لمصر سيصل قدره إلى 53.4 مليار دولار، بعد حصول البلاد على قرض صندوق النقد الدولي، أي ما يعادل 471.522 مليار جنيه بسعر الصرف الرسمي، وبحسب بيانات البنك المركزي المصري، فإن إجمالي الدين العام المحلي لمصر ارتفع إلى 2496.5 مليار جنيه (نحو 2.5 تريليون جنيه) في نهاية مارس الماضي، بارتفاع نسبته 11.2 % عن نهاية يونيو من العام 2015.
الشروط التي يفرضها البنك الدولي دومًا ما تكون قاسية في مقدمتها إلغاء الدعم الكلي عن السلع، وتحرير قيمة الخدمات، وتعويم قيمة العملة المحلية، وتحديد قيمتها الحقيقة مقابل الدولار، وغيرها من الشروط المتعلقة بهيكلية الاقتصاد المصري.
وللتعرف على مصير الاقتصاد المصري تحت وطأة شروط صندوق النقد الدولي يمكن استعراض ماهية عمل الصندوق، والتجارب الاقتصادية السابقة التي اعتمدت عليه في انقاذ اقتصادها.
صندوق النقد الدولي
صندوق النقد الدولي يعد منظمة مدرجة تحت منظومة الأمم المتحدة، وقد أنشئ بموجب معاهدة دولية في عام 1945، وذلك “نظريًا” للعمل على تعزيز سلامة الاقتصاد العالمي، ويعد المؤسسة المركزية الأقوى في النظام النقدي الدولي، أي نظام المدفوعات الدولية وأسعار صرف العملات الذي يسمح بإجراء المعاملات التجارية بين البلدان المختلفة.
وتأتي أموال الصندوق من الدول الأعضاء فيه، وتبعًا لحجم الحصص يتحدد عدد الأصوات المخصصة لكل بلد عضو، حيث كلما ازداد حجم اقتصاد العضو من حيث الناتج وازدياد اتساع تجارته وتنوعها، ازدادت بالمثل حصته في الصندوق وازدادت فرصه في الحصول على قروض أكثر من الآخرين. تتربع الولايات المتحدة الأمريكية على عرش الصندوق الدولي حيث تبلغ حصتها 17.6%.
أما الوجه الغير ظاهر من صندوق فقد عبر عنه “جون بيركنز” مؤلف كتاب “الاغتيال الاقتصادي للأمم” (اعترافات قرصان اقتصاد).
حيث أشار إلى دور الصندوق كأحد أدوات بناء إمبراطورية عالمية تسيطر من خلالها منظومة الشركات الكبرى على اقتصاد العالم، من خلال أخطر الوظائف في العالم، التي تتمثل في نهب وتدمير اقتصاد الدول النامية، والهدف من ذلك استمرار تبعيتها للسياسة المالية العالمية.
وذلك عبر استخدام ألفاظ الحكم الرشيد وتحرير التجارة وحقوق المستهلك وعلى الدول التي تقبل هذه المفاهيم خصخصة الخدمات القومية مثل الصحة والتعليم وخدمات المياه والكهرباء، أي أن تبيعها للشركات الكبرى دون أي حماية للمواطنين.
إذ تقوم المنظمات المالية الدولية بخلق ظروف تؤدي إلى خضوع الدول النامية لهيمنة النخبة المالية العالمية، التي تدير المنظمات والشركات والبنوك، وبناء على ذلك توافق المنظمات المالية على تقديم قروض للدول النامية المستهدفة، بغرض تطوير البنية الأساسية وإصلاح الاقتصاد.
ولكن مع وضع شروك تنفيذ هذه الخطط والمشروعات بأدوات المنظمات المالية العالمية التي غالبًا ما تدار من واشنطن، وفي حقيقة الأمر بحسب الكتاب فإن الأموال بهذه الطريقة لا تغادر الولايات المتحدة، حيث تتحول ببساطة من حسابات بنوك واشنطن، إلى حسابات شركات في نيويورك أو هيوستن أو سان فرانسيسكو.
والنتيجة يصفها لنا عالم الاقتصاد ميشيل تشوسودوفيسكي، الذي أكد أن برنامج صندوق النقد الدولي قد يترك البلد المستهدفة في بعض الأحيان فقيرة كما كان من قبل، لكن مع مديونية أكبر وصفوة حاكمة أكثر ثراءً.
اليونان نموذجًا
كان الاقتصاد اليوناني في أضعف حالاته مقارنة بدول الاتحاد الأوروبي قبيل الانضمام إليه، ولذلك كان هناك عزوف استثماري عن هذا البلد الفقير نسبيًا، ولكن بعد انضمامها لمنطقة اليورو، اختلفت النظرة بسبب الدور المتوقع لمنطقة اليورو في إنقاذ اليونان من أي أزمة مالية.
وهو الأمر الذي أعطى ثقة نسبية وفتح الباب أمام منظمات التمويل الدولي لإقراض الحكومة اليونانية بشكل متسارع، حتى وقعت أثينا في الفخ عام 2009، واكتشفت الفاجعة أن، حيث استمرت نسبة الدين للناتج المحلى الإجمالي في ارتفاع حتى تفاقمت بشكل واضح.
تدخل صندوق النقد الدولي والدول الأوروبية المانحة بعلاج الاقتراض مرة أخرى، لكن هذه المرة ستكون بشروطهم وخططهم الاقتصادية شديدة التقشف، وهو ما لم تتحمله اليونان كثيرًا، مع نسبة ديون للناتج تفوق 175% في عام 2015.
وقد أعلن صندوق النقد الدولي في يوليو من العام الماضي أن اليونان عجزت عن سداد دينها للصندوق ولم تتمكن من دفع مليار ونصف مليار يورو كانت مستحقة عليها في ذلك الوقت.
أزمة البرازيل
هكذا كانت خلاصة تجربة البرازيل في الثمانينات مع صندوق النقد الدولي، اقترضت البرازيل أموالًا جديدة لسداد القروض القديمة. “العقد الضائع” من حياة البرازيل شهد نقل هائل للثروة الوطنية إلى خارج البلاد حيث دفعت الحكومة البرازيلية بين عامي 1985 و1989 ، 148 مليار دولار : 90 مليار دولار منها لفوائد القروض الأجنبية.
خلال أربع سنوات دفعت البرازيل 90 مليار دولار فوائد فقط للديون، وبسبب صندوق النقد هاجر 4 ملايين من الريف إلى المدينة، حتى أن البنك الدولي يتدخل في وضع الدستور البرازيلي ويشعل الصدامات في صفوف الشعب البرازيلي.
رفعت أسعار الفائدة، وظهر عدم تطابق وسائل الصندوق مع غاياته، حيث كانت شروط صندوق النقد الدولي تدخل واضح في سيادة الدولة، حتى أن قانون المسؤولية المالية خفض التغذية المدرسية للطلاب، وكانت معالجة التضخم المالي بتسريح العمال وخفض أجورهم دون أي اهتمام.
وعلى الرغم من محاولة تعافي الاقتصاد البرازيلي من هذه الأزمة بعد ذلك إلا أن أثارها لا تزال باقية حتى الآن فمنذ تسعينيات القرن الماضي، تشير أرقام الأمم المتحدة إلى أن 20 % من السكان في البرازيل يسيطرون على 80 % من ثروة البلاد، ووفقا لإحصاءات الحكومة 1% من السكان يمتلكون نصف الدخل القومي. كذلك ما لا يقل عن نصف القوة العاملة في البلاد في هذا البلد المكون من 167 مليون شخص يكسب كحد الأدنى للأجور أقل من 77 دولار شهريًا.
في نوفمبر من عام 1999، وضعت إدارة كاردوسو البرازيل تحت رحمة صندوق النقد الدولي بدرجة أكبر عندما وافق على حزمة قروض جديدة من الصندوق مقدارها 5،41 مليار دولار، وهكذا تستمر الدوامة.
التدمير المتعمد للأرجنتين
كشف باحث اقتصادي عن استراتيجيات مساعدة البلاد”التابعة للبنك الدولي وصندوق النقد الدولي (IMF). وهي خطط يتم وضع علامة عليها أنها سرية.
الباحث الاقتصادي”جريج بالاست” يقول في الواقع، واحدة من هذه الخطط التي وصفها التدميرية هو “التقرير المرحلي لاستراتيجية مساعدة الأرجنتين”اعتبارًا من يونيو 2001. هذه الوثيقة، التي تُنتج اسميا من قبل البنك الدولي، تمثل التوجيهات المتشابكة من كل من البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، وكذلك، وبشكل غير مباشر، تمثل رغبات أكبر راعي لكل من المؤسستين، وزارة الخزانة في الولايات المتحدة.
للحد من العجز المالي في الأرجنتين، أمر مرسوم من صندوق النقد الدولي، بقطع 3 مليار دولار من الإنفاق الحكومي والهدف الرئيسي هو الاستجابة للزيادة في التزامات دفع الفائدة على القروض، هذه الالتزامات، والتقرير لا يحتاج إلى إضافة، كانت إلى حد كبير من أجل الدائنين الأجانب، بما في ذلك صندوق النقد الدولي والبنك الدولي نفسيهما، حتى أدى هذا الوضع إلى اختفاء الطبقة المتوسطة في الأرجنتين وانضمامها إلى جموع الفقراء.
سارت الأرجنين في هذا الطريق الذي بدأ بتحرير أسواق رأس المال، ويتحقق من خلال “خطة قابلية التحويل” لعام 1991 والتي قدرت قيمة البيزو الأرجنتيني في علاقة واحد الى واحد مع الدولار الأمريكي. وهذا الربط صمم للحفاظ على معدلات التضخم منخفضة وللسيطرة على العجز في الإنفاق، على أمل جذب المستثمرين الأجانب وإغرائهم.
وكذلك تحرير الأسواق استلزم حرية رأس المال في التدفق والخروج عبر الحدود. ولكن بمجرد أن بدأ الاقتصاد الأرجنتيني بالتمايل، بدأت رؤوس الأموال بالهرب.
ثم مرحلة الخصصة بناء على طلب من المقرضين، باعت الأرجنتين طوال التسعينات ما سمّاه الارجنتينيون “مجوهرات الجدة” : النفط والغاز، والمياه، وشركات الكهرباء والبنوك الحكومية، ثم خصخصت الأرجنتين حتى نظام الضمان الاجتماعي، وتم تحويل الكثير من مخصصاته إلى حسابات خاصة.
ثم العمل وفق تسعيرة السوق في الأرجنتين، وكان الهدف الرئيسي من هذه المبادرة هي أجور العمل، أكثر السلع مرونة في السوق، حتى بدأ مسلسل الانهيار الاجتماعي بفعل الإجراءات الاقتصادية الذي أثار الشغب في الأرجنتين لسنوات.
عشرات التجارب
تجارب اليونان والبرازيل والأرجنتين ليست الوحيدة التي ضلع في تدميرها صندوق النقد الدولي والمؤسسات المالية العالمية، حيث سيطرت هذه المؤسسات على عشرات الدول داخل أفريقيا وأمريكا اللاتينية بنفس الخطوات التي ذكرناها في تجارب كل من البرازيل والأرجنتين.
وقد كانت هناك تجارب أخرى حاولت الإفلات من هذه الشبكة المدمرة تزعمتها تركيا وماليزيا وإندونيسيا لكن بنسب متفاوتة، إلا أن هناك إجماع على ضرورة تجنب هذه المؤسسات التي تغري الدول في البداية ما إن تتمكن من الاقتصاد حتى تفرض شروطها المجحفة التي تعد بمثابة احتلال اقتصادي مكتمل الأركان، قد يوصل إلى التدخل في وضع العقد الاجتماعي للدولة مثلما حدث في تجربة البرازيل.
إلا أنه بالرغم من كل هذه التجارب الموثقة والتي ليست بالبعيدة تاريخيًا، تصر دولًا نامية كمصر في خوض غمار نفس التجربة التي لن تطرح نتائج جديدة في النهاية، سوى مزيد من الإفقار لعموم الشعب، ووحل اقتصادي للأجيال القادمة.