فى المقال السابق تحدثنا عن أن هناك تغيرًا كبيرًا فى شكل الاقتصاد المصرى بعد أحداث الثلاثين من يونيو، وأن هذا التغير أصاب قطاعات أساسية فى الاقتصاد المصرى، ومنها الصناعة التى عانت كثيرًا فى الآونة الأخيرة من تراجع الإنتاج المحلي، وكذلك تعثر وإغلاق المصانع المصرية، فترى ما الذي حدث للصناعة المصرية فى الأعوام الأخيرة؟
أولًا: نظرة وإحصائيات عن قطاع الصناعة المصرية
لا يمكن أن تجد مصدرًا دقيقًا يرصد حجم الصناعة المصرية، ولكن طبقًا لهيئة التنمية الصناعية فإن عدد المصانع المصرية المسجلة والمرخصة رسميًّا هو 34383 مصنع، ويحتل قطاع الصناعات الغذائية والمشروبات الصدارة بـ 8000 مصنع، في حين أن إجمالى الاستثمار فى ذلك المجال يتخطى 300 مليار جنيه وفق موقع الهيئة، ولكنَّ المراقبين للمجال الصناعى المصرى يعلمون أن أغلب المصانع المصرية هى مصانع غير مرخصة (بير السلم) وممكن أن يصل عددها أكثر من 60 ألف مصنع، أى أن إجمالى المصانع المصرية من المصانع الصغيرة إلى الضخمة يتجاوز 100 ألف مصنع بطاقة إنتاجية تصل إلى ألف مليار جنيه مصرى تقريبًا، ولكن دائمًا يحضر السؤال: لماذا يوجد هذا العدد الكبير من المصانع غير المرخصة؟
بدأ القطاع الصناعى المصرى يتراجع بشكل طفيف منذ عام 2009 بسبب تخفيضات مصر الجمركية وفق التزامتها تجاه اتفاقية “الجات” ولكن كانت حكومة نظيف دومًا تسعى للحفاظ على ذلك القطاع الذى يصل عدد العمالة الملتحقة به بشكل رسمى 3 مليون عامل، أى أن عدد العمالة يفوق ذلك بكثير لو أضفنا القطاع الرسمى وغير الرسمى، لكن بعد ثورة يناير بدأ القطاع يشهد تراجعًا وصل إلى 400 مصنع مغلق، ثم ما لبث أن قل التراجع فى عام 2012 ليصل إلى 322 مصنع مغلق، بسبب الأزمة السياسية المصرية، ولكن منذ عام 2013 وهناك زيادة ملحوظة فى تراجع المصانع فى مصر بشكل أصبح محل دراسة.
ووفقًا لشعبة صناعة النسيج فقدت الصناعة 40% من مصانعها فى مصر، ووفق هيئة التنمية الصناعية فقدت مصر فى عام 2016 أكثر من 2000 مصنع، وهو المعلن رسميًّا من الجهة التى تمثل الصناعة فى مصر، وهنا كان لابد من فتح ملف الصناعة الشائك فى مصر لنتناول أهم عوائق النشاط الصناعى وماذا طرأ مجددًا فى آخر فترة.
- العائق الأول: ندرة الأراضى الصناعية
الحقيقة أن مصر أصبحت لا تملك أرضًا صناعية فى المناطق الجاذبة من الناحية “اللوجيستية”، فالحديث المتواصل فى الإعلام عن تطوير مناطق صناعية هو كلام يصلح للإعلام، لكن الحقيقة أن مصر أصبحت لا تملك فى ضواحى عاصمتها الكبرى ومحافظاتها الرئيسية قطع أراضٍ صناعية، ولكن تم توزيعها جميعا، ومع توزيع إجمالى تلك المساحات فإن المستغل فعليا لا يزيد عن 50% من حجم المفروض استغلاله؛ لأن توزيع الأراضى فى حقبة مبارك كان يتم على أساس المحاباة وعدم العدالة فى المواقع المميزة، فرجل الأعمال محمد أبو العينين يمكنك أن تسير بسرعة 100كم/س لمدة عشر دقائق لتنهى زمام قطعة الأرض التى حصل عليها فى منطقة العين السخنة وخليج السويس، فى الوقت نفسه حصل بعض الأفراد على قطع أراضٍ وهم أصلا لا يعملون بالصناعة، وليس لهم خبره فيها، ولاستكمال التراخيص أقاموا مبانى دون ماكينات ولا طاقات إنتاج، ويقومون بكل أسف بإعادة تأجيرها بمبالغ كبيرة إلى رجال الصناعة الحقيقيين الذين لم يملكوا يوما واسطة تستطيع تسهيل هذا الأمر لهم، فى عام 2012-2013 بدأت الحكومة فى سحب تلك القطع من حائزيها، وهو ما توقف عام 2014، بل إن بعض تلك القطع عادت مرة أخرى إلى ملاك لم يقوموا بتنمية حقيقية، ولم يدفعوا ثمنًا حقيقيًّا لتلك القطعة.
الحل: من وجهة نظر كثير من أهل الاختصاص، يتمثل الحل في تشكيل لجنة من مجموعة خبراء، ووضع معايير لتجديد رخص الصناعة على أن يكون ذلك متعلقا بحجم إنتاج المصنع سنويًّا، وجودته، وإلا تم سحب قطعة الأرض، ومن ثم إعطاؤها لمستثمر حقيقى، لا نكتفى بحيازته لدراسة جدوى ولكن يجب أن يخضع لعدة اختبارات إدارية وفنية تعطى مؤشرًا أنه سيكون إضافة للإنتاج المحلى.
- العائق الثانى: التراخيص
وصل الأمر بالبعض إلى الاعتقاد أنه إذا أردت أن تحصل على ترخيص لمصنعك فى مصر فأنت تحتاج إلى معجزة إلهية؛ لذلك فالرخصة الصناعية فى مصر لا تستطيع إنهاءها إلا فى متوسط عام ونصف العام، وهو ما يمثل عائقًا أمامك لا تتمكن معه من الإنتاج ومن ثم التصدير؛ وحتى لو قمت بالإنتاج دون رخصة مؤقتة ستقع تحت ابتزاز الهيئات المختلفة، فأنت تتعامل مع أكثر من 8 جهات مختلفة على الأقل لاستخراج رخصة تشغيل مصنعك، بخلاف تعدد الجهات المسئولة عن نشاط الصناعة فى مصر، بخلاف مافيا الرشاوى التى أصبحت عرفًا للتراخيص.
كانت هناك محاولات حثيثة لتسهيل الأمر من خلال سياسة الشباك الواحد، أو من خلال ما اقترحته وأقرته حكومة محلب -وهو ما لم يطبق- أن يتم ترخيص المصنع بالإخطار، على أن تقوم الجهات المختصة بالذهاب بنفسها إلى تلك المصانع ومتابعة ترخيصها، وهنا يجد رجل الصناعة نفسه أمام جيوش الفساد الإدارى فى الدولة الذى لن يسمح بشيء مثل هذا أن يمر هكذا.
حدثنى أحد موظفى الجهات المختصة حين سألته عن سبب تعنته فى إنهاء بعض الإجراءات، فرد قائلا (أنت احسن منى فى إيه عشان يبقى عندك مصنع وتكسب؟!).
الغريب فى الأمر أن هذا التعنت لم يحدث فقط مع المصانع الصغيرة، لكنه يحدث بشكل أكبر مع المصانع الأجنبية العملاقة، وصلت فى إحدى المرات إلى تدخل رئيس دولة لحل مشكلة مصنع بلده فى مصر الذى يحظى بثقة عالمية، بل إن الصينيين سحبوا جزءًا من استثماراتهم فى خليج السويس بسبب مثل تلك الممارسات غير المسئولة.
فى عهد مبارك كان يمكن تجاوز الأمر؛ لأن الحكومة وقتها كانت تستطيع أن تتدخل؛ خصوصًا أن جهات التراخيص المتعلقة بهذا النشاط كان يرأسها موظفون حكوميون من خلفية مدنية، أما فى الفترة الأخيرة بدأ يسيطر على المراكز القيادية قيادات عسكرية لم تكن يوما تعمل بالصناعة منذ نعومة أظافرها، بل بدأوها بعضوية مجالس إدارات المصانع والهيئات الحكومية.
- العائق الثالث : الحماية المدنية
أثناء حركة تنقلات الضباط اتصلت مطمئنًّا على أحد أصدقائى الضباط أين ذهب! فقلت له متهكما (ياعم انت اخرك المطافي) فرد ردًّا أكثر تهكمًا (ياه هو أنا أطول أروح الكويت).
نعم، هكذا يسمى ضباط الداخلية هذه الإدارة، يطلقون على العاملين فيها أنهم يعملون بالكويت؛ لما فيها من ثراء سريع، فالحماية المدنية هى أهم عائق على الإطلاق فى ترخيص المصانع، بل إنك تستطيع أن تنتج وأن تكمل جميع التراخيص، لكن سيقف أمامك عائق مهم، وهو موافقة الحماية المدنية، وهنا عليك أن تتعرض لابتزاز غير أخلاقى يصل بالنسبة للمصانع الصغيرة إلى نصف مليون جنيه.
فى واقعة مثيرة قامت إحدى أهم الشركات فى العالم، وهى آسيوية الجنسية -قامت بإنشاء أكبر مصنع لها فى العالم فى مصر، فى شهادة ثقة لمصر فى ذروة أزمتها، ومن الجدير بالذكر أن هذه الشركة تنتج أصلا منتجات تتعلق بالسلامة والأمان لعملائها، وهى أكبر شركة فى هذا التصنيف، حتما مثل هذه الشركة ستنشئ نظام إطفاء للحرائق وللحماية المدنية على أحدث الأنظمة العالمية، بل إنه فعلا كان أحدث نظام حماية مدنية فى العالم، وقد كلف الشركة ملايين الدولارات، لكنَّ مسئولي الحماية المدنية فى تلك المنطقة أمروا بهدم كامل النظام؛ لأنه غير مطابق للمعايير، وأمروهم بعمل نظام جديد رديء.
فى الحقيقة كان يريد هؤلاء فرض إتاوة على هذا المصنع، لكن أخلاقيات المصنع، والذى يملك دليلا يوزع على عامليه عن أخلاقيات المصنع، والتى لا يجرؤ أحد العاملين مخالفتها تحت أى ظرف، رفض مسئولو المصنع ذلك، ونفذ متطلباتهم بجوار منظومته الحديثة، فازداد التعنت من الجهة المصرية، حتى تدخل وزير دولتهم لدى السلطات فى مصر لحل الأمر.
الحقيقة أن دور هذا القطاع توحش فى هذا المجال آخر عامين، لدرجة أن الجميع يتراجع من الاستثمار بعد أول مقابلة مع مسئولي هذا القطاع.
- العائق الرابع: الإتاوة من البدو
فى مصر بعد أن تحارب لإنشاء مصنع، وتقاتل من أجل التراخيص، لا يمكنك أن تبنى حجرًا فى هذا المصنع إلا بعد أن تدفع للعرب أو البدو ملاك تلك المنطقة، بل إنك مطالب أن تدفع شهرية يطلق عليها (غفرة) ولكنها إتاوة، فى منطقة العاشر من رمضان أكبر منطقة صناعية فى مصر، لا تخرج أى حاوية من الميناء أو إلى الميناء إلا بعد ما تدفع “إتاوة” تزداد يوميًّا، وإذا امتنعت عن دفعها فستخسر بضاعتك حتى لو كنت نائبًا لرئيس الجمهورية، ولو قررت أن تشتكى إلى قسم الشرطة المختص سينصحك أن تتفاوض وديا معهم.
البلطجة وصلت إلى أحد أهم شوارع مصر الاقتصادية وهو شارع التسعين بمنطقة القاهرة الجديدة، الذى أصبح مركزًا للشركات العالمية، فتخيل أن تلك الشركات تُبتز، حاولت إحدى الشركات أن تعين عددًا من ضباط الداخلية السابقين وتسليحهم للدفاع عنها وعدم دفع تلك “الإتاوة” لأنها شيء مهين فهجم البلطجية (البدو) وحاصروا المبنى بالرصاص ليلا إلى أن تقدم الحراس باستقالاتهم.
أحد مديري أكبر شركة فى العالم فى مجال الاستشارات المالية والاقتصادية، والتى تملك مقرًّا إدريًّا فى نفس المنطقة حدثنى قائلا: (احنا كمان بندفع غصب عننا ومنعرفش نقول ايه للمستثمرين الأجانب اللى عايزين يستثمروا فى مصر بنتكسف إننا نقول لهم إننا بندفع إتاوة، ده عار).
- العائق الخامس: قرارات القوات المسلحة
عنوان صادم أتحمل مسئوليته، نعم اتخذ الجيش -وليس الحكومة أو الرئيس- عدة قرارات أدت إلى انهيار سريع فى الصناعة، تراجع عن بعضها وإن ظل أثره وظل البعض ما زال ساريًا، وهنا سنتناول أهم قرارين وما زال لدىَّ أمل أن يتراجع مسئولو القوات المسلحة عن تلك القرارات، أو أن يشكلوا لجنة من أهل الخبرة لإعادة صياغة تلك القرارات.
القرار الأول
قرار المخابرات الحربية بعدم الإفراج عن الخامات المستوردة من المنتجات الكيماوية أو “البودرة” سائلة أو صلبة إلا بعد تحليلها فى معامل مصلحة الكيمياء.
هذا القرار يعنى عدم الإفراج عن أى مادة خام، التى تشكل 80% من المواد المطلوبة للصناعة، أى وقف جميع المصانع المصرية، لدرجة أن مسئولي مصلحة الجمارك أصدروا على غير العادة منشورا بدأ بعبارة: (بناء على تعليمات إدارة المخابرات الحربية) وهى سابقة غريبة، توقفت المصانع وأهدرت المواد الخام، لأن الجهة التى اختصتها المخابرات الحربية بالفحص لا تستطيع ولا تملك إمكانيات تؤهلها لذلك، بسبب ذلك قدرت خسائر مصر بحوالي 2 مليار دولار من مواد خام تلفت، أو أعيد تصديرها.
حاول التجار والمصنعون الضغط حتى رئيس الوزراء إبراهيم محلب وقتها وفشل فى إثناء المخابرات الحربية عن ذلك القرار بدعوى أنه متعلق بالأمن القومى، ولكن نجح المهندس محمد السويدى واتحاد الصناعات أن يرغموا الجميع على أن يعيدوا النظر في القرار عن طريق التلويح بالإعلان الجماعى عن وقف النشاط الصناعى فى مصر وتسريح العمالة، وكان ذلك أمام اجتماع مع لجنة الجمارك داخل مقر اتحاد الصناعات، فتمت على الفور الاستجابة لهم.
القرار الثانى
الرسوم التقديرية على مرور الآلات والمعدات، وبعض مستلزمات الإنتاج من خلال منافذ المرور (الكارتة) التى تملكها شركة وطنية، والتى أصبحت تصل إلى الآلاف للماكينة الواحدة، دون وضع معايير للتقييم يمكن الحساب على أساسها؛ مما رفع تكلفة استيراد قطع غيار الماكينات، وكذلك ارتفع سعر الماكينات الجديدة، إلى أن تراجع استيراد مصر فى هذا المجال إلى -2% بعد أن كان يحقق معدل نمو 6% سنويًّا، وهو ما يعنى توقف إنشاء مصانع جديدة وتعطل مصانع قائمة.
- العائق السادس: منافسة القوات المسلحة للصناعة الوطنية
دخلت القوات المسلحة من خلال هيئة الإنتاج الحربى بقوة فى منافسة المصانع الوطنية مستفيدة فى ذلك من الإعفاءات الجمركية والضريبية، وقلة أجور العمالة، كما أنها لا تملك أى عوائق حكومية فيما يخص استيراد مستلزماتها.
الحقيقة يجب تشجيع وزارة الإنتاج الحربى فى مجال الصناعات التى لا تتميز مصر فيها بسبب ارتفاع تكلفتها مقارنة بالمستورد ويعزف المصنعون الوطنيون عنها، فإذا تدخلت الوزارة فى تلك التخصصات والصناعات المفقودة فى مصر مستفيدة من الامتيازات السابقة فإنها تستطيع أن تمثل عائقًا أمام زيادة واردات تلك المنتجات التى لا تجد منافسة محلية، لكن الحقيقة أن الوزارة تتجه دومًا لمنافسة المصانع التى تحارب المنتج المستورد، فتطرحها أرضًا، ومن ثم تتجه القوات المسلحة إلى احتكار هذا الأمر.
فوزارة الإنتاج الحربى أصبحت تحتل 25% من سوق الأجهزة المنزلية، وحاليا هى أكبر موزع للمواد الغذائية، وقريبا أكبر مصنِّع، وهى قطاعات تتميز بها مصر، حتى وإن كان لا يوجد مفر فيجب أن تستغل القوات المسلحة فروق التكلفة وتتجه إلى التصدير بدل التوزيع المحلى، وستجد فرصة قوية وستدر عملة صعبة على مصر.
- العائق السابع: الدولار
كان البنك المركزى منذ 6 أشهر مضت يساعد فى تدبير العملة الأجنبية اللازمة لاستيراد المواد الخام من أجل التصنيع، لكن اليوم عليك أن تدبر عملتك بنفسك، وهو ما أدى إلى توقف المصانع خصوصًا الملابس والصناعات النسيجية عن الإنتاج وتسريح عمالتها، فلا صناعة بدون مواد خام كما أن 80% من استيراد مصر من المواد الخام الصناعية، وهو ما ذكره محافظ البنك المركزى طارق عامر فى تقريره المقدم لمجلس النواب عن تراجع الإنتاج المحلى.
فى الحلقة القادمة سنتحدث عن “ما الذى حدث لرجال الأعمال فى مصر”؟
للاطلاع على الحلقة الأولى من ما الذي حدث في خزائن الأرض؟