بعد عقود من الجدل والتراشق الإعلامي والسياسي في الداخل والخارج، ها هو البرلمان المصري يقر قانون بناء الكنائس بعد جلسة عاصفة استمرت قرابة ثلاثة ساعات، لتنتهي بقبلة وجهها رئيس مجلس النواب لأعضاء المجلس وسط هتاف: يحيا الصليب مع الهلال.
قبلة علي عبد العال لمجلسه عقب إقرار القانون لم تنه قطعًا حالة الاحتقان بين المسلمين والأقباط في مصر، إذ قوبل القانون بوابل من الانتقادات والاتهامات من قِبل أعضاء البرلمان المسيحيين، فضلاً عن النشطاء الأقباط في الشارع، فما بين العرقلة والتهميش والتقليل من شأن الأقباط وافتقاد الدستورية، بات القانون الجديد في مرمى النيران.
“نون بوست” في هذه الإطلالة السريعة يسعى لإلقاء الضوء على نصوص القانون الجديد وأبرز المواد الخلافية بشأنه، وردود فعل الأقباط حول مدى تلبية هذا القانون لأحلامهم، فضلاً عن الإجابة عن السؤال الأهم: هل ينهي قانون بناء الكنائس الأزمة الطائفية في مصر؟
جدلية القانون
لم تكن هذه هي المرة الأولى التي يطالب فيها أقباط مصر بقانون يسمح لهم ببناء دور عبادة مخصصة لهم، في ظل حالة التضييق الأمني التي مارستها أجهزة الدولة طيلة العقود الماضية، وفي عهد الرئيس المخلوع حسني مبارك، كان هناك اتجاه لإصدار قانون موحد لدور العبادة، ينظم بناء المساجد والكنائس، ولكنه قوبل بالرفض من قبل مجمع البحوث الإسلامية التابع للأزهر الشريف، بدعوى أنه لا حاجة لإصدار قانون موحد لدور العبادة، حيث يوجد بالفعل قانون ينظم بناء المساجد، والمطلوب فقط هو قانون مناظر ينظم بناء الكنائس.
وتنص المادة (235) من الدستور المصري، ضمن المواد المعروفة بـ “المواد الانتقالية”، على أنه “يصدر مجلس النواب في أول دور انعقاد له بعد العمل بهذا الدستور قانونًا لتنظيم بناء وترميم الكنائس، بما يكفل حرية ممارسة المسيحيين لشعائرهم الدينية”، ما يعني أنه كان لزامًا على البرلمان إقرار هذا القانون قبل نهاية دور الانعقاد الأول والمقرر لها نهاية سبتمبر الجاري.
وبالأمس وبعد 3 ساعات متواصلة من النقاش المحتدم، أقر مجلس النواب بشكل نهائي قانون بناء الكنائس، ويشمل القانون على عشرة نصوص توضح تفاصيل إجراءات عملية بناء الكنائس، إلا أن اكثر المواد التي أثارت جدلا كانت المادة الثانية والخامسة، وجاء نصهما كالتالي:
– مادة 2: يراعى أن تكون مساحة الكنيسة المطلوب الترخيص ببنائها وملحق الكنيسة على نحو يتناسب مع عدد وحاجة مواطني الطائفة المسيحية في المنطقة التي تقام بها، مع مراعاة معدلات النمو السكاني، ويجوز أن تضم الكنيسة أكثر من هيكل أو منبر وأكثر من صحن وقاعة معمودية ومنارة.
– مادة 5: يلتزم المحافظ المختص في البت في الطلب المشار إليه في المادتين (3)، (4) من هذا القانون وإصدار الموافقة والتراخيص المطلوبة بعد التأكد من استيفاء كل الشروط المتطلبة قانونًا في مدة لا تجاوز أربعة أشهر من تاريخ تقديمه، وإخطار مقدم الطلب بكتاب مسجل موصى عليه بعلم الوصول بنتيجة فحص طلبه، وفي حالة رفض الطلب يجب أن يكون قرار الرفض مسببًا.
“قبلة”رئيس البرلمان المصري لأعضاء المجلس عقب إقرار القانون
تهميش رأي الأقباط
مع الإعلان رسميًا عن موافقة الكنيسة والبرلمان على بنود القانون الجديد، حالة من الغليان أصابت الشارع القبطي جرّاء تهميش وتجاهل القيادات الكنسية لرأيهم وموقفهم من بنود هذا القانون، الذي ظل لغزُا محيرُا داخل صناديق الكنيسة دون أن تتناقش فيه مع الأقباط حسبما جاء على لسان نادر صبحي، مؤسسة “حركة شباب كريستيان للأقباط الأرثوذكس”.
صبحي أشار في بيان له صادر باسم الحركة أن القيادات الكنسية تتعامل مع الأقباط بمنتهى الاستخفاف والتجاهل، وليس من حق الشعب أن يعرف أي شيء، مشيرًا أن صدور بيان مبهم من المتحدث الرسمي باسم الكنيسة بعد انعقاد المجمع المقدس لا يشرح ولا يفيد ومبهم ولا يحق للشعب أن يعلم شيء عن كنيسته ولا ما تم الاتفاق والوصول إليه، وعند السؤال لتوضيح الأمور لا يوجد رد!!
وأضاف: هذا في حد ذاته صناعة أزمة بلا أزمة ..! وهناك صفحة على موقع التواصل الاجتماعي تسمى صفحة المتحدث الإعلامي للكنيسة! أين ما أسفر عنه اجتماع المجمع المقدس الخاص بمناقشة قانون بناء الكنائس! لم نر أي شيء للتوضيح، غير موقع البوابة نيوز فقط قام بنشر بعض المواد التي تفيد الموضوع، وذلك اليوم فقط بعد الضجة والغضب الشديد الذي أشعل مواقع التواصل الاجتماعي.
ثم تساءل: هل نستقي معلومات وأخبار كنيستنا من الصحف أم كما أعلنتم سابقًا أن ليس كل ما يكتب بالصحف صحيحًا والمرجعية إلى صفحة المتحدث الرسمي باسم الكنيسة!! ومع كل هذا يرون المشهد وكأن شيئًا لم يكن، علمًا بأن حالة الغليان وصلت إلى المطالبة بطبع استمارات للتصويت عليها من الشعب القبطي لرفض القانون، ومع ذلك صمت تام ولا يوجد كلمة تثلج قلوبهم، لماذا هذه الطريقة من التعامل مع الشعب بمنتهى الاستخفاف والتجاهل ومبدأ ” سيبوهم يتسلوا” كلمة “سيبوهم يتسلوا” دي أسقطت نظام وكفيلة أن تسقط آخر.
القانون تم عبر صفقة بين الكنيسة والدولة بعيدًا عن الأقباط
الأقباط: مخالف للدستور
على عكس المتوقع فوجئ الجميع بحملات انتقاد واسعة ضد القانون الجديد الذي طال انتظاره، فبالرغم من قبلات رئيس مجلس النواب وتصفيق أعضائه وهتافات الهلال مع الصليب، كان للشارع رأي آخر، حيث شنوا هجومًا ضد المجلس والكنيسة على حد سواء، متهمين القانون بعدم الدستورية.
البداية مع نجيب جبرائيل، رئيس منظمة الاتحاد المصري لحقوق الإنسان، والذي أكد أن المادة الثانية التي أقرها مجلس النواب من قانون بناء الكنائس مخالفة للدستور وتثير الفتنة، مستبعدًا تطبيقه في ظل وجود ثقافة بين أبناء الشعب على حد قوله.
وأضاف جبرائيل في تصريحات لـ “نون بوست” أن القانون يحمل في طياته تمييزًا واضحًا بين المسلمين والأقباط، خاصة في المادة التي تربط بناء الكنيسة بمساحة المنطقة وعدد الأقباط المتواجد بها نسبة إلى عدد السكان، مهددًا بأن أي قرار سيصدر من المحافظ بشأن بناء الكنائس سيتم الطعن عليه فورًا أمام المحاكم المختصة طبقا للمادة الثامنة من القانون، متسائلاً: كيف يتم عمل قانون لبناء الكنائس ولا يوجد قانون لبناء المساجد؟!
أمّا الكاتب القبطي والمحلل السياسي أسامه فرج فأشار إلى أن القانون به عوار دستوري فاضح، ومخالفة صريحة للمادة الثالثة من الدستور والتي تنص على (مبادئ شرائع المصريين من المسيحيين واليهود المصدر الرئيسي للتشريعات المنظِّمة لأحوالهم الشخصية، وشئونهم الدينية، واختيار قياداتهم الروحية).
فرج تساءل لـ “نون بوست” عن الهوية المسيحية المميزة للكنائس حال بنائها بدون صلبان أو منارات تعكس الملمح الديني للبناء، مطالبًا بمحاكمة أعضاء البرلمان جميعهم حال التصميم على إقرار القانون بكل ما فيه من عوار.
وفي سياق متصل، قال المفكر القبطي كمال زاخر، إن قانون بناء وترميم الكنائس الذي وافق عليه مجلس النواب يجعل كل القيود مقننة لبناء الكنائس، معربًا عن ذلك بقوله: “كنا نأمل ألا يدير البرلمان الأزمة بشأن القانون بهذا الشكل، الذي اتسم أداؤه فيه بالتسرع”.
وأضاف في تصريحاته: “القانون انتقل من ساحات البرلمان إلى ساحات مجلس الدولة والقضاء الدستوري، وبالضرورة سيتم الطعن عليه بشبه عدم الدستورية للتأكيد على دولة المواطنة بشكل لا يختلف عليه اثنان”.
شروط بناء الكنائس في القانون مخالفة للدستور
الدولة قتلت الحلم
(الحكومة قتلت الحلم والدولة تقول للمسيحيين: أنتم لا تتمتعون بالمواطنة الكاملة في دولة تنزع الهوية القومية) بهذه الكلمات استهل النائب القبطي عماد جاد حديثه معلقًا على قانون بناء الكنائس الجديد.
جاد أشار في تصريحاته لـ “نون بوست” أن هناك تعمد واضح من بعض أجهزة الدولة في عدم إنهاء هذا الخلاف بين المسلمين والأقباط، متسائلاً: ماذا يضير الحكومة في بناء الكنائس وعليها صلبان ومنارات؟
النائب البرلماني طالب أيضًا بتعديل بعض مواد القانون لاسيما فيما يتعلق بموافقة المحافظ على بناء الكنائس وأن تكون حسب نسبة الأقباط إلى عدد السكان، مشيرًا أن هذه المواد فيها “سم قاتل” ولن يرضى بها الأقباط.
وفي مقاله، استنكر الكاتب القبطي يوسف سيدهم القانون الجديد، مشيرًا أن الدولة تريد أن تواصل فرض سياستها الكاملة على الأقباط وكنائسهم، لافتًا أن ذلك القانون يعطي السلطة للمسؤول المحلي ليقول نعم أو لا.
بينما قالت إليزابيث عبد المسيح، عضو لجنة الشؤون الصحية بمجلس النواب، إن جميع النواب وافقوا على قانون بناء وترميم الكنائس من حيث المبدأ باستثناء حزب النور، لافتة إلى أن فكرة القانون جيدة ولكن الصياغة بها الكثير من العقبات وكثير من المعوقات والخلل فى بناء الكنائس حسب قولها، متابعة: “القانون كان يطلع بصيغة أفضل من كده، والمادة 2 من القانون لازم تحذف لأنها بترجعنا للمربع صفر تانى”، وأضافت: “الوضع مش مبشر أن يكون هناك تغيير بالقانون لأن الكنيسة متوافقة مع الحكومة”.
وفي المقابل أشار خالد حنفى، عضو لجنة الشؤون التشريعية والدستورية بالبرلمان، إلى أن الأقباط فئة من المجتمع ومن حقها تمارس شعائر دينها، وليس هناك شروط مبالغة في القانون حتى يتم رفض القانون، ولو كان به كانت لجنة التشريعية رفضته.
وأضاف حنفي ردًا على المادة (2) من القانون: من المنطقي أن يعتمد عدد الكنائس في أي منطقة على عدد الأقباط في المنطقة، حيث إن العبرة بالتعداد السكاني.
أمّا جليلة عثمان، عضو لجنة الإعلام والثقافة بمجلس النواب، فقالت “أرى أن القانون ممتاز ومتكامل وصياغته ممتازة ويكفل حقوق حرية العبادة حرية بناء دور العبادة”، مشيرة أن الجدل المثار حول المادة الثانية غير مبرر، مضيفة: “اللى عايز يعبد ربنا هيعبده في أي مكان”.
كما استنكرت النائبة اعتراض الأقباط على عدم وضع الصلبان أو إقامة منارات (مآذن) فوق الكنائس، قائلة: “ما المسلم بيصلى في زاوية أو مسجد السلطان قابوس”.
البرلماني القبطي عماد جاد عضو مجلس النواب المصري
دعوة للعصيان البرلماني
من الواضح أن ثلث أعضاء البرلمان الرافضين للقانون ليسوا من حزب النور السلفي فحسب، بل هناك قطاع كبير من الأقباط داخل المجلس عبر عن استنكاره ورفضه لبنود القانون، وهو ما كشفته البرلمانية القبطية الدكتورة نادية هنري، خلال رسالتها التي أرسلتها لأعضاء المجلس حثتهم فيها على رفض القانون، مشيرة أن هذا القانون تم فرضه على الكنيسة بصورة مشينة، وأنه يقنن للظلم والاضطهاد.
هنري قالت في رسالتها : “لكل نائب مصرى يفهم معنى أن مصر لكل المصريين، لكل نائب وطني يستوعب معنى أن الوطنية لا تستقيم مع قبول اضطهاد مواطنين مصريين يحبون وطنهم ويقبلونه رغم ما يتعرضون له منذ عقود من الزمن، لكل نائب (مسلم) حريص على تطبيق عبارة (صحيح الدين) عمليًا وفعليًا وليس قولاً فقط، لكل نائب (مسيحى) يعلم أن مسيحيته لا تعنى قبول الظلم وأن المحبة لا تعنى الخضوع والضعف وأن تعاليم السلام لا تعنى ألا تشهد بالحق، انسحبوا من هذه التمثيلية الرديئة، مشروع قانون بناء الكنائس”.
وتابعت: “هو مشروع مفروض من الدولة على المسيحيين والكنيسة، هذا مشروع يقنن الظلم والاضطهاد للمسيحيين، هذا مشروع قانون عار على المصريين جميعًا قبوله، عار وطنيًا ودينيًا، سجلوا موقف للتاريخ، ليس للتاريخ فقط ولكن للضمير الشخصي والوطني لكل منكم، سجلوا موقف قد يساهم في إلغاء هذا القانون الذمي القبيح، سجلوا موقف صرخة وطنية في وجه أجهزة الدولة المتعصبة الجاهلة بأن الأقباط مصريون مواطنون وليسوا أهل ذمة، شئتم أم أبيتم، مواطنون عليهم كافة الواجبات ولهم كافة الحقوق”.
النائبة نادية هنري ودعوة للعصيان البرلماني على القانون
هل يحل القانون أزمة أقباط مصر؟
يبدو أن الرياح تأتي بما لا تشتهي السفن، فبعد المناوشات السياسية والأمنية التي امتدت لسنوات طويلة بين الأقباط والنظام فيما يتعلق بقانون يسمح لهم ببناء الكنائس، وبعد أن استبشر الجميع خيرًا بطرح مواد القانون للمناقشة داخل أروقة البرلمان، إذ بهم يعبرون عن صدمتهم من مخرجات القانون الذي تم في صفقة واضحة بين الحكومة والكنيسة بعيدًا عن رأي الأقباط أنفسهم، ولكن يبقى السؤال: مع إقرار هذا القانون المثير للجدل، هل تنتهي أزمة الأقباط في مصر؟
المهندس جون طلعت، عضو مجلس النواب وعضو لجنة الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات بالبرلمان، أشار إلى أن القانون يعد انتصارًا كبيرًا في مسيرة الوحدة الوطنية بين أفراد المجتمع المصري، ودليل واضح على المشاركة الحقيقية يعكس الإرادة السياسية الرامية إلى تحقيق المواطنة بين المصريين على حد قوله.
طلعت أشار في تصريحاته إلى أنه راض تمامًا عن هذا القانون بالرغم من وجود بعض التحفظات عليه، متوقعًا أن يسهم في التخفيف من حدة الفتنة الطائفية ما يقلل من الجرائم والمناوشات بين المسلمين والأقباط، ومؤكدًا أن هذا القانون قد أجاب على الكثير من التساؤلات التي طالما رددها الأقباط بشأن المساواة والمشاركة والمواطنة.
وفي المقابل رفض الكاتب القبطي أسامه فرج ما أدلى به النائب جون طلعت، مشيرًا أن هذا القانون صنع أزمة جديدة للأقباط، إذ زاد من إحساسهم بالتهميش، وأنهم مواطنون درجة ثانية، وأن هناك حالة تربص واضحة لحقوق الأقباط.
فرج أكد أيضًا أن التصريحات التي تتردد بشأن حصر أزمة أقباط مصر في قانون بناء الكنائس فيها مبالغة ومداهنة سياسية، إذ إن واقع الأقباط مليء بالقنابل الموقوتة، وأن العلاقة بين المسلم والمسيحي لن تحل بقانون أو بغيره، وأن الأمر بحاجة لتكاتف الدولة، حكومة وكنيسة وشعبًا، لحل الأزمة.