يعتبر الأزهر الشريف أهم مؤسسة إسلامية في مصر والعالم الإسلامي، لدوره الكبير كمصدر ومركز للإشعاع الثقافي الإسلامي، وقد أوضح المستشرق جاك بولان أهمية دور الأزهر في هذا المجال بقوله “تعد مكة المكان المقدس عند المسلمين، وتعد القاهرة مركز الثقافة الإسلامية، ومكانة الأزهر في العالم الإسلامي لا تعادلها مكانة”، فكيف اكتسب الأزهر هذه المكانة عبر التاريخ؟ وما التغيرات التي طرأت على الأزهر مع تعاقب الحكام على حكم مصر؟ وما شكل الدور الذي لعبه الأزهر في السياسة المصرية؟
للإجابة على هذه التساؤلات لا بد من دراسة السياقات التاريخية المختلفة التي عاصرها الأزهر، وطبيعة العلاقة فيما بينه وبين أنظمة الحكم المختلفة التي خضعت لها مصر، ومن ثم محاولة بلورة النتائج وفقًا للفهم التاريخي والسياسي لطبيعة العلاقات والتحولات والتغيرات الناشئة عبر التاريخ.
نشأة الأزهر ودول الخلافة الإسلامية
يعد جامع الأزهر أول وأهم الآثار التي تركها الفاطميون في مصر، وهو أول مسجد أنشئ في مدينة القاهرة التي أسسها جوهر الصقلي والتي كانت تمثل عاصمة الدولة الفاطمية، وقد تم إنشاء جامع الأزهر ليكون مسجدًا جامعًا للعاصمة الفاطمية الجديدة، ومعهدًا لنشر العلم.
يُعرف أن شعب مصر بأغلبيته هو شعب سني المذهب، وعلى الرغم من تطمينات فاتح مصر “جوهر الصقلي” لعامة الناس بأنه لن يكون هناك إكراه لأحد باتباع مذهب معين، فإن الأزهر تم استخدامه كمعهد لتعليم المذهب الشيعي ومركز للمناسبات الدينية والاجتماعية، بمعنى أن الأزهر كان يمثل منذ نشأته في عهد الفاطميين مركزًا للدعاية الدينية والسياسية يسعى إلى تعميم وتعزيز المشروع التوسعي الفاطمي.
انمحت معالم الفقه الإسماعيلي الشيعي في مصر بعد قيام الدولة الأيوبية مقام الدولة الفاطمية، وعمل صلاح الدين الأيوبي على القضاء على كل أثر شيعي في مصر، لدرجة أنه قام بإبطال إقامة خطبة الجمعة في الأزهر وأنشأ أكثر من عشرين مدرسة تنافس الأزهر في رسالته العلمية، هذا التخوف الأيوبي من الأزهر إن دل فإنه يدل على مدى تأثير الأزهر في الثقافة والسياسة المصرية.
أعاد المماليك بزعامة الظاهر بيبرس افتتاح الأزهر لصلاة الجمعة بعد انقطاعه منه قرنًا من الزمن، وشهد الجامع الأزهر كثيرًا من الإصلاحات والتجديدات فى عهد السلطان بيبرس والسلاطين بعده، حيث تم إنشاء العديد من المدارس التي أضيفت للجامع الأزهر ومنها المدرسة الطيبرسية والمدرسة الآقبغاوية والمدرسة الجوهرية، ويمكن القول أن ذلك العصر كان بمثابة العصر الذهبي للأزهر.
الأزهر والاستعمار الأجنبي
حاول نابليون بونابرت قبل دخوله إلى أرض مصر استمالة علماء الأزهر، فكان يتظاهر كثيرًا بتعظيم علماء الأزهر، والاعتناء بقوافل الحجيج، والاهتمام بالاحتفال بالمواسم والأعياد وإقامتها في موعدها، وكان ينفق أموالًا طائلة في هذا الصدد إلى درجة أنه أنشأ ما سمي بـ “ديوان القاهرة” لاستشارته في الأمور الهامة بغرض كسب ود علماء الأزهر.
بعدما فشلت سياسة نابليون في كسب علماء الأزهر إلى صفه، اتخذ من القسوة سياسة جديدة إزاء المصريين، ففرض الضرائب العالية، وصادر العديد من أموال التجار والأعيان بحجة احتياجه إليها، كما قام بتخريب بعض المساجد والآثار بحجة تحصين القاهرة، كل هذه العوامل جعلت الأزهر يتزعم ثورتين شعبيتين، أدتا في نهاية المطاف إلى جلاء الاحتلال الفرنسي عن مصر.
أصبح للأزهر بعد الثورات التي تزعمها القوة الأعظم على الساحة المصرية، وقرر مشايخ الأزهر وعلى رأسهم نقيب الأشراف مكرم عامر تعيين محمد علي باشا واليًا على مصر، وتم ذلك بالفعل.
إلا أن محمد علي بدأ خطواته في تقويض قوة الأزهر والسيطرة عليه، حيث قام بضم بعض أراضي الأوقاف التي ينفق منها الجامع إلى الدولة، كما همش المشايخ والعلماء، ونفى عمر مكرم إلى دمياط بعد أربع سنوات فقط من تمكنه من السلطة.
أما الإنجليز فقد حاولوا كثيرًا منذ بداية الاحتلال القضاء على الأزهر كمركز قوة مصرية، ومن أبرز تلك المحاولات ما فعله اللورد كرومر المعتمد البريطاني في مصر من تعديل لنظام التعليم في مصر، وسحب الامتيازات من الدارسين في الأزهر، حتى الجامع نفسه لم يسلم من التخريب والسرقة من المحتل الإنجليزي، فقاموا بسرقة المنبر الأصلي والتاريخي للجامع، وما يزال حتى الآن موجودًا في أحد المتاحف البريطانية، وفي المقابل كان لشيوخ الأزهر دورًا كبيرًا في إشعال الروح الوطنية ومقارعة المحتل الانجليزي.
أما فيما يتعلق بعلاقة الأزهر مع القصر الملكي، يقول ياسر ثابت في كتابه “جمهورية الفوضى” إن مشيخة الأزهر في عهد الملك فاروق أصدرت فتوى تقول “إن الملك فاروق من الأشراف ومن حقه أن ينصب نفسه خليفة للمسلمين”، وهذا دليل كافٍ يوضح العلاقة مع القصر الملكي وكيف أن الأزهر كان المروج الإعلامي للملك فاروق آنذاك.
الأزهر ما بعد ثورة يوليو 1952م
جاءت ثورة يوليو عام 1952م، فكانت تأريخًا جديدًا للأزهر ودوره، حيث وضعت الثورة يدها على الأزهر وجعلته مؤسسة حكومية، وفي 21 سبتمبر 1953 أصدرت قرارًا بإلغاء المحاكم الشرعية الخاصة بالأحوال الشخصية تمامًا وضمها للمحاكم العامة وألغيت كل القوانين المتعلقة بترتيبها واختصاصها وألحقت دعاوى الأحوال الشخصية والوقف والولاية إلى القضاء العادي، وفي عام 1961 أصدرت الثورة قانونًا يقضي بإسناد صلاحية تعيين شيخ الأزهر ووكيله ورئيس جامعته وعمداء كلياته إلى رئيس الجمهورية، وهذا القانون يستمر العمل به إلى اليوم.
أما المؤشر الأبرز لاستخدام الأزهر كمركز للدعاية السياسة في عهد عبد الناصر تجلى بعد العدوان الثلاثي على مصر سنة 1956م، حين خطب جمال عبد الناصر من فوق منبر الأزهر ليعلن عدم استسلام مصر ووقوفها صامدة مقاومة ضد العدوان الثلاثي، أيضًا كان للأزهر دوره الأساسي بعد هزيمة 1967م، إذ قام شيوخ الأزهر بالخطابة وإشعال الروح المعنوية بين الجنود المصريين على الجبهة طوال ست سنوات؛ مما كان له الأثر الكبير في انتصار الجيش المصري في أكتوبر 1973م[8].
عين الرئيس حسني مبارك بموجب القانون 103 الذي صدر في عام 1961 خلال فترة حكمه وقبل الإطاحة به في ثورة 25 يناير/ كانون الثاني 2011 ثلاثة مشايخ للأزهر، والثلاثة هم جاد الحق علي جاد ومحمد سيد طنطاوي وأحمد الطيب الذي ما زال شيخ الأزهر حتى يومنا هذا.
الأزهر ما بعد ثورة 25 يناير 2011م
مع اندلاع ثورة 25 يناير عام 2011، اقتصر الموقف الأزهري على وجوب “سلمية” التظاهرات مع التأكيد الدائم على الثقة في “القيادة الرشيدة الحكيمة للرئيس مبارك والقيادات الأمنية”، كما كان موقف شيخ الأزهر معارضًا للثورة، وقد حرَّم العديد من علماء الأزهر ما أسموه “الخروج على الحاكم” وطالبوا شباب الثورة بالرجوع إلى منازلهم، ومع سقوط النظام وصعود حكم جديد تعامل الأزهر بواقعية شديدة، حيث التحم مع الأحداث بقوة، وقام بإعلان وثيقة سميت “وثيقة إرادة الشعوب العربية”، في 31 أكتوبر2011، وأعلنت الوثيقة المناصرةَ التّامة لإرادة الشعوب العربية في الإصلاح ومجتمع الحرية والعدالة التي انتصرت في تونس ومصر وليبيا.
حاول حكم الأخوان المسلمين ممثلًا بالرئيس الأسبق محمد مرسي زعزعة الاستقرار داخل جامعة الأزهر بكل الطرق من خلال إثارة الفتن والاعتصامات داخل الجامعة وفي محيطها، كما حاولوا إلحاق الأذى بالطلاب عن طريق دس السم لهم في الطعام الذي كانوا يتناولونه داخل الجامعة.
إلا أن الأثر الذي تركته المؤسسة العسكرية في الأزهر لا يمكن محوه بسهولة، ولم يكن لدى مرسي الوقت الكافي للسيطرة على الأزهر، فمع تحرك 30 يونيو 2013 ضد محمد مرسي، قام الجيش بحركة أطاحت بالرئيس مرسي، أثناء إلقاء وزير الدفاع السابق عبدالفتاح السيسي لكلمته التي أطاح فيها بالرئيس وكان شيخ الأزهر الحالي، الدكتور أحمد الطيب، خلفه يدعمه في حركته، وقد تم تمثيل الأزهر في لجنة إعداد الدستور عام 2014م.
لا يزال الأزهر يدعم نظام الحكم المصري الذي يتزعمه السيسي، حيث دائمًا ما نسمع شيخ الأزهر “الطيب” في كلماته يدعم النظام المصري بكل قوته، ويتحدث عن النهضة الاقتصادية والصناعية والزراعية والمشاريع الوطنية ويركز على قضية مطاردة الكيانات الإرهابية وتأمين مصر في الداخل والخارج من شر هذه الكيانات، وكل هذا يندرج في إطارالدعاية السياسية للنظام القائم.
خاتمة
بعد هذه المراجعة التاريخية السريعة، يُلاحظ بأن كل نظام حكم مصر سواء كان نظام خلافة إسلامي أم استعماري أجنبي أم نظام وطني مصري تعامل مع الأزهر بإحدى هاتين الطريقتين: الأولى بالقضاء على الأزهر وتقويض نفوذه، أو بالثانية ألا وهي دعم الأزهر وكسب وده بحيث يصبح المروج الإعلامي للنظام الحاكم، وفي كلتا الحالتين فإن هذا يقودنا إلى نتيجة مفادها أن الأزهر يمثل مركزًا من أهم مراكز القوى على المسرح المصري وفي كافة الأصعدة الدينية، الثقافية والاجتماعية والسياسية، وعليه فإن كل نظام حكم مصر عبر التاريخ استخدم “الأزهر” كمركز للدعاية السياسية سواء كان الأزهر راضيًا أم مُكرهًا.