عندما أجلس في المقهى كثيرًا ما يبادروني بعض الأصدقاء بسؤالي عن جمنة وما أثير حولها من نقاش وتراشق بالاتهامات، وكيف أصبحت قضية رأي عام استطاعت أن تضع الدولة في موقف المتهم من خلال رفضها للتسيير وعدم ملاءمة قوانينها لهذه التجربة من الاقتصاد الاجتماعي التضامني؟ ومن ثم يطرح سؤال ثانٍ وثالث حول ماهية هذا الاقتصاد؟ ودوره في الاقتصاد الوطني والتنمية المحلية؟
تمر جمنة يضع لبنات اقتصاد بديل
لن أضيف الكثير عما قيل في تجربة جمنة التي كما أراها: لا تعد تمردًا على مؤسسات الدولة بل هي تجربة لنمط تنموي مواطني لا مركزي يقوم على المصلحة العامة والقطع مع استئثار حفنة من المستكرشين بخيرات الجهة، ولكن هذا لا يخفي حقيقة الإشكال القانوني الذي أثارته واحة جمنة، فلا يوجد تونسي واحد ينازع الدولة في ملكيتها للأرض، ولكن على الدولة أن تغير قوانينها البالية وتتطور، ومنْ ثم فإن دعم هذه الحكومة للاقتصاد الاجتماعي والتضامني يبرز، أولًا، على مستوى سن الإطار القانوني، وفتح المجال وتشجيع الفكرة ووضع اعتمادات مالية تدعمها بدل الآليات التشغلية التقليدية الفاشلة.
تونس: وضع هش في حاجة إلى اقتصاد متضامن
إن الوضع الاقتصادي في تونس ما بعد الثورة لم يستجب لتطلعات الشباب الذي خرج أيام الثورة مطالبًا بالتشغيل والتنمية، ويجمع أغلب دارسي الاقتصاد التونسي أن المؤشرات الاقتصادية والمالية العمومية تراجعت باستمرار إلى مستوى ينذر بمخاطر حقيقية، مع معدل نمو يقارب الصفر ومؤشرات كالتضخم والعجز في الميزانية وارتفاع نسب البطالة.
وعزا بعض الخبراء التراجع في المسار الاقتصادي إلى نقص الوعي بضرورة التخلص من المنوال التنموي القديم، رغم كل التغيرات والترميمات والإصلاحات الهيكلية التي لم تؤد إلى نتيجة.
“فالثورة قامت – في الأساس – على مطالب اقتصادية واجتماعية، لكن الطبقة السياسية والحكومات المتعاقبة اهتمت بالشأن السياسي، ولم تعط الأهمية الكافية للشأن الاقتصادي”، وما تحتاجه تونس هو اقتصاد أكثر تضامنًا، ذو صبغة اجتماعية”.
هل الحل بيد الحكومة وحدها؟
نحن نعيش عصر الاقتصاد النيوليبرالي والسوق الحر، ويفترض الكثيرون أنه إذا عجز اقتصاد السوق الحر عن حل المشكلات الاجتماعية فإن الحكومة هي الحل لتلك المشكلات دائمًا، ولكنني أعتقد أنه لمنظمات المجتمع المدني والمؤسسات غير الهادفة للربح دور كبير يضاهي دور الدولة في حل المشكلات الاجتماعية من التنمية المحلية والتشغيل والفقر والتعليم والصحة، وذلك لما تواجهه حكومات ما بعد الثورة من ضعف الكفاءة أحيانًا أو البطء أو الفساد والبيروقراطية التي تكون عائقًا للتغلب على هذه المشكلات، ولكن هل سمحت الدولة لهذه المنظمات أن تشاركها؟ و”تهز معاها وذن القفة” كما يقال بالعامية التونسية، وتطرح قوانين تفتح من خلالها المجال للعمل وتقنين نمط اقتصادي جديد هو “الاقتصاد الاجتماعي التضامني” صاحب النجاحات في التجارب المقارنة.
بروز الاقتصاد الاجتماعي التضامني
كانت البداية مع ظهور مفهوم الاقتصاد الاجتماعي الذي تعود “أبوته” إلى الباحثين الفرنسيين، الذين منذ العام 1977، أعادوا اكتشاف المفهوم واستعملوه من أجل الإشارة إلى مجموع التنظيمات المشكلة من الجمعيات والتعاونيات والتعاضديات، وتطور هذا النمط ليقرن بالمفهوم التضامني، وأصبحنا نتحدث منذ أوائل الألفية الجديدة عن الاقتصاد الاجتماعي التضامني، وهنا نستحضر إسهامات الباحثين برنار إمي وجون لويس لافيل، اللذين ينسب لهما التعريف بهذا الاقتصاد البديل فعرفاه: “كمجموع الأنشطة المسهمة في دمقرطة الاقتصاد، انطلاقًا من التزامات مواطنة، وبعيدًا من أن يعوض فعل الدولة، فهو يبحث عن تمفصل معها، عن إعادة إدراج الاقتصاد في مشروع إدماج اجتماعي وثقافي” .
وبذلك أصبح يكتسي هذا النمط الاقتصادي أهمية كبيرة، يعكسها العدد الهائل من الأبحاث والدراسات المخصصة له في بلدان الشمال، كما في الجنوب، والتي تضاعف عددها مع مرور الأيام، بفعل الطلب الاجتماعي المتزايد.
نجاحات تجربة الاقتصاد الاجتماعي التضامني في العالم
بدأ المفهوم يكتسب الاعتراف المؤسساتي والقانوني في كثير من دول العالم بهدف الإشارة إلى القطاع الثالث، وتقتضي الضرورة إصلاح الخطأ الشائع بأن الاقتصاد الاجتماعى والتضامنى هو خاص بالبلدان الفقيرة أو الاشتراكية أو التي يحكمها اليسار، ففرنسا – كما إيطاليا وألمانيا – أرست قانون الاقتصاد الاجتماعي والتعاوني منذ سنة 2014، وهذا القانون الفرنسي يقنن قواعد اشتغال الاقتصادي الاجتماعي والتضامني وهياكله وأداوته ويمكنه بالتالي من اكتساب مواقع ووزن تدريجي في المجتمع.
إن الاقتصاد الاجتماعي والتضامني يلعب على المستوى الدولي، دورًا هامًا، سواء على الصعيد الاقتصادي أو البشري، ففي أوروبا، يشغل هذا الاقتصاد ما يربو على 14.5 ملايين شخص، أي نحو 6.5% من السكان النشيطين في بلدان الاتحاد الأوروبي.
وفي بعض البلدان، مثل بلجيكا وفرنسا وهولندا، يساهم الاقتصاد الاجتماعي والتضامني بأكثر من 10% من الناتج الداخلي الخام، كما أنه مكن قرابة 15% من سكان البرازيل أي حوالي 25 مليون ساكن من الخروج من عتبة الفقر، أما في الأرجنتين فقد تم تحويل بعض المؤسسات المفلسة إلى مؤسسات تعاونية وهذا الأمر حافظ على 10.000 موطن شغل، كما أن 710 تعاونية اجتماعية في إيطاليا تشغل نحو 23000 شخص.
وقد أظهرت هذه التجارب مجتمعة أن الاقتصاد الاجتماعي والتضامني يعتبر رافعة للنهوض بالتنمية خصوصًا بعد الأزمة الاقتصادية والمالية التي يشهدها العالم منذ سنة 2008، مما شجع الجمعية العامة للأمم المتحدة أن تعلن العام 2012 سنة دولية للتعاونيات، وذلك تحت شعار “المشاريع التعاونية لبناء عالم أفضل”.
وتعترف دساتير العديد من الدول بالاقتصاد الاجتماعي والتضامني، ومن ثم، فقد تبين أن اعتماد قانون (قانون – إطار) وطني في تونس يعتبر حاجة ماسة من أجل وضع إطار قانوني مشترك لمجموع مكونات الاقتصاد الاجتماعي والتضامني، بحيث يوفر هذا الإطار القانوني الحماية الضرورية لمختلف مكونات هذا القطاع، والتي تسمح له بالتطور وبالرفع من أهميته في الاقتصاد الوطني.
التجربة التونسية بين الاستفادة من الماضي والحاجة لوضع أسس سليمة للمستقبل
كانت التجربة التونسية الشبيهة بالاقتصاد التضامني في شكله التعاضدي سنوات الستينات تجربة فاشلة لا بسبب إخفاق المنوال والنمط، بل بسبب اعتماد تمش يقوم على إجبارية الانخراط، فضلاً عن فشل طريقة التسيير التي غابت فيها المشاركة والديمقراطية في أخذ القرار.
وعلينا اليوم التعمق في أسباب فشل التجربة التونسية والاستفادة منها بهدف تركيز اقتصاد اجتماعي تضامني يحقق استدامة التنمية بمختلف أبعادها ويساهم في خلق الدينامكية الاقتصادية المحلية ويضمن الربح وخلق مواطن الشغل.
إن الأرضية اليوم ملائمة أكثر في تونس للنجاح نظرًا لتطور العقليات وكثرة عدد أصحاب الشهادات العليا وتوفر القابلية للمشاركة الإرادية في كل الأنشطة الصادرة عن مكونات المجتمع المدني أو المؤسسات غير الحكومية، لا سيما الجمعيات بمختلف أنواعها والتعاونيات والشركات التعاونية التي تنشط في المجال الفلاحي ومجامع التنمية الفلاحية والمشاريع المشتركة خاصة في المناطق الداخلية والمحرومة التي لا يقبل عليها القطاع الخاص.
فالاقتصاد الاجتماعي التضامني يشكل فرصة لبناء منوال تنموي جديد في تونس يقوم على الاقتصاد التشاركي التلقائي والتسيير الديمقراطي، انطلاقًا من تشخيص المواطنين لاحتياجاتهم وتصور مشاريعهم وتسييرها، كما يسهم في بلورة مجالات ترابية متضامنة، لها هوية محلية، ويضفي قيمة على الموارد المحلية البشرية والمادية، لأجل إحداث أنشطة ومشروعات، وإيجاد فرص شغل، وتقديم خدمات مميزة للمواطنين.
ما المطلوب من الدولة لإنجاح التجربة؟
أعد الاتحاد العام التونسي للشغل مبادرة تشريعية حول الاقتصاد التضامني والاجتماعي تتمثل في مشروع قانون مرفوق بحزمة من التشريعات ينظم هذا النوع الجديد من الاقتصاد تضم قرابة 53 فصلاً، وذلك بالاستعانة بـ 18 خبيرًا، وتم عرض هذه المبادرة مؤخرًا على مجلس نواب الشعب للنظر فيها.
ودعم واضعي السياسات العمومية (السلطة التنفيذية والتشريعية) للاقتصاد الاجتماعي والتضامني يبرز، أولاً، على مستوى الإطار القانوني من خلال المصادقة على قانونه الأساسي وإحداث بنيات استشارية مستقلة وديمقراطية، تتألف من الهيئات الأكثر تمثيلية للفاعلين في هذا الاقتصاد، وذلك لضمان المشاركة الكاملة والفعلية في عملية إعداد وتنفيذ وتقييم فعالية قطاع الاقتصاد الاجتماعي والتضامني.
كما يجب النظر بتمعن للتجارب الناجحة وتبرز بعض التجارب المقارنة التي يجب الاقتداء بها أهمية المواكبة المؤسساتية للقطاع، والتي تهدف إلى تحسين فعاليته، من خلال برامج تتعلق بالمساعدة على هيكلته وتطويره، وتقوم هذه المؤسسات، في بعض الأحيان، بتقديم خدمات مجانية لدعم القطاع ومساعدته ماديًا، كما حرصت بعض البلدان على تطوير القطاع التعاوني عن طريق الدعم المالي، وذلك بالاستناد إلى آلية الحوافز المالية (الحكومة المحلية بفالنسيا الإسبانية)، كما أن تطوير التمويل التضامني من قبل البنوك والصناديق التضامنية، لتمويل مشاريع الاقتصاد الاجتماعي والتضامني، يعتبر مثالاً جيدًا ينبغي التركيز عليه (مقاطعة الكيبيك الكندية).
وعلاوة على ذلك، فإن هذه الهيئات المواكبة، (مثال دولة الإكوادور)، قد ساهمت إلى حد كبير في تحويل القطاع غير المهيكل والتجارة الموازية إلى قطاع مهيكل، وهو القطاع المبني والمنظم، هذا في الوقت الذي أنشأت فيه البرازيل صاحبة التجربة الناجحة هيئة وطنية لتسويق منتجات وخدمات الاقتصاد الاجتماعي والتضامني، توجهها وتحكمها مبادئ العدالة والتعاون والشفافية والتضامن، ويعتبر نظام التجارة العادلة والتضامنية، الذي أقره رسميًا الرئيس البرازيلي سنة 2009، أول نظام للتسويق في العالم تعترف به الدولة وتدعمه.
نؤكد اليوم ضرورة اقتناع رجال السياسة وماسكي دواليب دولتنا بأن هذا النمط الاقتصادي، لا يقدم ذاته كبديل للدولة، ولا يتعارض معها، وإنما يحاول من خلال تنظيماته، التي تعد من مكونات المجتمع المدني، نسج روابط تكامل وشراكة مع الدولة، لا سيما عندما يتعلق الأمر بدولة الحق والقانون.