ربما يكون عصر المضاربة على الدولار في مصر قد انتهى مع قرار التعويم، لكن في الواقع عصر جنون العملة الخضراء أو بالأحرى جنون بوصلة العملة الأمريكية لم ينتهي بعد ولا أتوقع أن ينتهي قريبا فهبوط الجنيه المصري إجباريا وليس اختياريا، وذلك لعدة أسباب سأقوم بسردها خلال هذا المقال.
في البداية لم يعد أحدا في مصر لا يعرف السبب الحقيقي لأزمة الدولار، فهذا الأمر قتل بحثا فالمشكلة واضحة ولا لبس فيها وهي العرض والطلب كما تقول بديهيات الاقتصاد، حيث أن المصادر الرئيسية للدولار في مصر مصابة بشلل يكاد أن يكون كليا، فلا سياحة تأتي، ولا صادرات تنمو، وإيرادات قناة السويس تواصل الهبوط، هذا هو أصل الأزمة في واقع الاقتصاد الحقيقي.
ولكن فشلت كل الحكومات المتعاقبة خلال السنوات الأخيرة في علاج المشكلة الحقيقية، واتبعت الطرق الملتوية للسيطرة على الأزمة، والجميع يعرف أن كل الطرق فيما عدا حل أزمة الاقتصاد الحقيقي، ما هي إلا مسكنات لن تلبس كثيرا حتى تكون أسبابا جديدة في تعميق أزمة الاقتصاد الحقيقي.
هذا المسكنات جاءت تارة في صورة قيود على تداول العملة الأجنبية وحدود السحب والإيداع وحرب شعواء على الصرافات، وتارة أخرى جاء المسكن في صورة قروض ومنح ومساعدات، وتارة ثالثة جاءت في صورة ما يسمى تعويم العملة أو تحرير سعر صرف الجنيه، وعلى كلا لا جديد يذكر فالمشكلة باقية والدولار لم يتوقف فأزمة الاقتصاد الحقيقي مازالت قائمة.
عموما بعيدا عن الحلول الجذرية التي يجب على الدولة السعي فيها الآن قبل أي وقت، هناك بعض الحيل تحاول الحكومة اللعب عليها لصنع استقرار مؤقت في واقع يشوبه الكثير من الضبابية، فالبنوك التي وجدت نفسها بدون مقدمات أمام سوق يسمى سوقا حرا للدولار، باتت مضطرة لعدم وضع سقف للسعر لعدة أسباب وهي:
أولا: البنك المركزي قد أعلن مؤخرا أن البنوك قد باعت ما حصلته بأول أسبوعين من التعويم، بمعنى أنا ما حصلت عليه البنوك ذهب وفي ظل السعر المنخفض لن تستطيع البنوك تحصيل مزيد من العملة الصعبة لذلك هي مضطرة لرفع السعر، وذلك لتحفز من يملكون الدولار على البيع.
ثانيا: أقل التقديرات ذكرت أن السوق السوداء للدولار تبلغ نحو 40 مليار دولار، وتقديرات أخرى أكدت أن السوق السوداء بها نحو 70 : 80 مليار دولار، وعندما وصل الدولار في البنوك لنحو 18 جنيها لما تستطيع البنوك استقطب سوى 2,4 مليار دولار فقط.
هذا رقم هزيل جدا مقارنة بحجم السوق السوداء، لذلك البنوك مضطرة لرفع سعر الدولار لهذه المستويات وأكثر من ذلك، وخاصة عندما نعلم أن خطوة التعويم من ضمن أهدافها الأساسية سحب الدولار من السوق السوداء وإدخاله بطريقة أو بأخرى في السوق الرسمي.
ثالثا: ستة مصرفيين قالوا لوكالة أنباء “رويترز” يوم الخميس الماضي إن البنك المركزي المصري أبلغهم شفهيا بإمكانية تمويل استيراد السلع غير الأساسية بداية من أمس الأحد ولكن بشرط ضخ ما يوازي قيمة تمويل تلك السلع في معاملات ما بين البنوك (الانتربنك).
هذا الأمر يعني أن البنوك لم تكن تمول سوى طلبات السلع الأساسية في الأسابيع الماضية، فيما يصل الطلب المتراكم من المستوردين لنحو 11 مليار دولار، أي أنها كانت تتعامل مع معروض يعد محدودا مقارنة بطلبات الاستيراد المعلقة، وهذا الأمر يكشف عن نقطتين الأولى أن البنوك ستزداد عليها الالتزامات والثانية أن البنوك ستحتاج إلى وسيلة جديدة لاستقطاب الدولار ولا يوجد طريقة أسهل من رفع السعر لذلك البنوك مضطرة لرفع سعر الدولار.
رابعا: عودة السوق السوداء للمشهد يعد أيضا أبرز الأسباب التي ستدفع البنوك لرفع السعر في محاولة للتغلب على السوق السوداء التي لا زالت حتى الآن أقوى من السوق الرسمي، حيث أن المتعاملين باتوا يدركون أن قرض النقد الدولي وغيرة من القروض التي تزحف إلى مصر في الآونة الأخيرة لن يتم ضخها في السوق حيث أنها ستتجه لعلاج اختلالات أخرى أبرزها الديون مستحقة السداد، لذلك لا يعتبر لها تأثير يذكر، لأنها لن تدخل السوق لن تغير في العرض والطلب.
على العموم لا أرى أن قرار التعويم الذي جاء في الثالث من نوفمبر بتحرر البنك المركزي سعر صرف الجنيه المصري لينهي ربطه عند نحو 8.8 جنيه للدولار ورفع أسعار الفائدة بواقع 300 نقطة أساس لتحقيق الاستقرار للجنيه بعد التعويم، قد غير كثيرا في السوق سوى أن الفقراء قد تحملوا مزيد من الأعباء، وما زال صعود الدولار إجباريا.