يتسلم الرئيس الأمريكي الجديد مهامه في كانون الثاني/يناير المقبل بصحبة ما يقارب أربعة آلاف من كبار الموظفين، أبرزهم أعضاء حكومته، مثل وزراء الدفاع والتجارة والمالية والتعليم والداخلية والخارجية وسكرتير مجلس الأمن القومي. كل أعضاء الحكومة يحتاجون تصديق الكونغرس، قبل أن يمارسوا صلاحياتهم. سكرتير مجلس الأمن القومي، الذي يقع مكتبه، مثل مكتبي الرئيس ونائب الرئيس المنتخبين، في البيت الأبيض، لا يحتاج تصديق الكونغرس، بالرغم من الدور الكبير الذي يلعبه في تحديد، تنسيق، وتنفيذ سياسات الرئيس الخارجية وقراراته الاستراتيجية الحيوية. وهذا ما أسس لوصف دولة ما بعد الحرب الثانية بدولة الأمن القومي.
أسس المجلس في أيلول/سبتمبر 1947 بقرار من الرئيس هاري ترومان؛ وكان تأسيسه مؤشراً على تحول جذري في رؤية الولايات المتحدة لنفسها ودورها في العالم. يعود هذا التحول إلى الرئيس فرانكلين روزفلت، الذي أخذ الولايات المتحدة إلى غمار الحرب الثانية بعد الهجوم الياباني على بيرل هاربر في كانون الأول/ديسمبر 1941، والذي ورث منه ترومان، نائب الرئيس، الحكم بعد وفاته في نيسان/إبريل 1945.
لاحظ روزفلت، قبل توليه رئاسة الولايات المتحدة، تجربة الرئيس ويلسون، الذي قاد بلاده إلى الحرب العالمية الأولى، وحاول، بدون نجاح، فرض نظام عالمي جديد على الإمبرياليات الأوروبية الرئيسية؛ ثم عاد إلى واشنطن ليخفق من جديد في إقناع الأمريكيين بالمحافظة على دور أمريكي نشط على المسرح العالمي. ما بات روزفلت مقتنعاً به بعد أن طالت نيران الحرب الثانية الولايات المتحدة، سواء بتكشف الضغوط الألمانية على المكسيك لمهاجمة الولايات المتحدة أو هجوم بيرل هاربر، أن حروب الأوروبيين أصبحت بطبيعتها حروباً عالمية، وأن الولايات المتحدة لا يمكن أن تعزل نفسها عن الأزمات العالمية، وأن عليها، إن أرادت المحافظة على أمنها، أن تلعب دوراً رئيسياً في الشأن العالمي.
هذا ما أدى، في النهاية، إلى تأسيس مجلس الأمن القومي، والمؤسسات الأمريكية الأمنية الأخرى، ذات المهمات العالمي، مثل وكالة الاستخبارات الأمريكية، وتحول دائرة شؤون الدولة إلى مؤسسة هائلة لوزارة خارجية، وتحمل وزارة الدفاع مسؤوليات لا تقتصر على حماية أمريكا وحدودها، بل وكل ما يوصف بمصالح أمريكية حول العالم. كما عملت الولايات المتحدة، وحتى قبل تحقيق الانتصار النهائي في الحرب الثانية، على بناء مؤسسات ذات طابع دولي، مثل الأمم المتحدة، صندوق النقد والبنك الدوليين، تعهدت الولايات المتحدة فيها دوراً رئيسياً من أجل تنظيم العلاقات بين الدول. ولكن ما يحدد طبيعة الدور الأمريكي الخارجي، سواء في المنظمات الدولية ذاتها أو في مناطق الأزمات والتدافعات خارج حدود الولايات المتحدة، كان تطور ثلاثة أطر استراتيجية رئيسية، والحوار المستمر في دوائر القرار والفكر الاستراتيجي الأمريكي حول هذه الأطر: كيف يمكن تحديد علاقة أزمة أو منطقة ما بالأمن القومي الأمريكي؛ جدوى وفعالية التدخل المباشر أو غير المباشر؛ وضرورة منع قوة متفردة من السيطرة في أي دائرة جيواستراتيجية واحدة في العالم.
ثمة مناطق في العالم يسهل تحديد علاقتها بالأمن القومي الأمريكي، ومناطق يكون فيها مثل هذا التحديد أكثر صعوبة وتعقيداً. في أزمة الصواريخ الكوبية، كان الرئيس كينيدي على استعداد لإشعال حرب نووية عالمية إن رفض السوفيات إخلاء الصواريخ النووية قصيرة المدى التي نصبت في كوبا. وفي بداية الاحتلال السوفياتي لأفغانستان، لم يكن هناك الكثير من أصحاب القرار الذين تصوروا وجود مصلحة أمريكية استراتيجية للتدخل لصالح المقاومة الأفغانية في دولة آسيوية، لا تحتل بالضرورة موقعاً استراتيجياً حيوياً. وبالرغم من المجزرة الدموية التي تعهدها نظام الأسد في سوريا، والتدخلين المباشرين، الإيراني والروسي، في الأزمة، ظلت إدارة أوباما على قناعة بأن سوريا لا تمثل مسألة أمن قومي أمريكي.
من جهة أخرى، تدخلت الولايات المتحدة، منذ ما بعد الحرب الثانية، بصورة عسكرية مباشرة، في عشرات الحالات. وتعتبر الحرب الكورية، حرب فيتنام، وحروب بوش الابن الشرق أوسطية، أشهر أمثلة التدخل المباشر. ولكن العقل الاستراتيجي الأمريكي منقسم إلى حد كبير بين دعاة التدخل المباشر، ومن يقولون أن مثل هذا التدخل محفوف بالمخاطر، وأنه لم يحقق أهدافه في أغلب الحالات، وأن السياسة الأنجع هي العمل من أجل تغيير ميزان القوى في مناطق التدافع بصورة غير مباشرة، وبالعمل مع الحلفاء المعنيين. راوحت الإدارات الأمريكية المختلفة بين هذين الخيارين؛ وكان روزفلت نفسه عمل في البداية على تقديم الدعم الضروري للحلفاء بدون أن يحمل أمريكا أعباء التدخل المباشر؛ ولم يقرر المشاركة في الحرب إلا بعد هجوم بيرل هاربر. في المقابل، قام ريغان بغزو غرينادا، وأرسل الطائرات الأمريكية لقصف ليبيا، ولكنه اختار دوراً غير مباشر وطويل الأمد في أفغانستان.
وليس ثمة شك أن الفشل الذريع الذي حاق بحروب بوش الابن في أفغانستان والعراق، بالرغم من أن الحربين دارتا في ظل ما يشبه التفرد الأمريكي العالمي، وبدون تدخلات معارضة من قوى أخرى، كما كان الأمر في كوريا وفيتنام، عزز وجهة النظر الداعية إلى التدخل غير المباشر. أوقعت حروب بوش ضرراً بالغاً في صورة الولايات المتحدة، وخسائر بشرية ومالية كبيرة، وانتهت إلى الانسحاب من ساحة القتال بدون تحقيق أهداف ملموسة. أدى فشل سياسة إدارة بوش إلى تبني إدارة أوباما خيار التدخل غير المباشر في الأزمات، وبدون أي استثناء يذكر خلال سنوات ولايتيه.
كان التدخل الأمريكي في ليبيا في 2011 محدوداً وقصير الأمد، وأنجز بهدف إنقاذ الحلفاء الأوروبيين من الحرج، عندما عجزوا عن مواصلة الحرب ضد نظام القذافي. كما يظل التدخل ضد تنظيم الدولة في العراق وسوريا، حتى وإن طال أمده، محدوداً للغاية، بينما يتحمل الحلفاء المحليون العبء الأكبر للحرب.
يرتبط الإطار الاستراتيجي الثالث بالجدل المستمر حول خيارات الأمن القومي وطبيعة التدخل. فمنذ تعهدت الولايات المتحدة دوراً عالمياً، تعاظم تصور الأمريكيين لأنفسهم باعتبارهم القوة المسؤولة، الأكثر قدرة على إدارة الشأن العالمي، والوريث الغربي الطبيعي لقيادة العالم الحديث. للمحافظة على هذا الدور، يعتبر الأمريكيون أن من الضروري منع أي قوة أخرى، منفردة، من الهيمنة في أي من دوائر العالم الجيوسياسية: أمريكا اللاتينية، أوروبا، الشرق الأوسط، إفريقيا، شرق وجنوب شرق آسيا. خاضت الولايات المتحدة حرباً «باردة» طوال أربعة عقود من أجل منع الاتحاد السوفياتي من الهيمنة على القارة الأوروبية؛ وتعهدت منذ تولي أوباما الحكم استراتيجية متعددة الأوجه والأدوات لمنع الصين من الهيمنة على محيطها الآسيوي.
على مستوى أصغر قليلاً، لا يجب أن يكون ثمة شك في أن الولايات المتحدة لا تريد رؤية هيمنة تركية أو إيرانية إقليمية، تماماً كما عملت من قبل على منع مصر الناصرية من قيادة محيطها الإقليمي العربي. ما يدور حوله الجدل الاستراتيجي الأمريكي عادة هو كيف وبأي أدوات وفي أية لحظة يجب على الولايات المتحدة التدخل من أجل مواجهة أو احتواء قوة ما ومنعها من الهيمنة المتفردة في دائرة جيوسياسية معينة.
ثمة اهتمام واسع النطاق اليوم بالشخصيات التي اختارها الرئيس المنتخب، ترامب، لتولي المناصب الرئيسة في إدارته. وخلفية الأشخاص هي أمر هام بالتأكيد في محاولة توقع سياسات الإدارات الأمريكية الجديدة، لأن هذه الخلفيات تلعب في بعض الحالات دوراً هاماً في اختيار الأشخاص. ولكن الأهم، بالتأكيد، لقراءة طبيعة سياسات الإدارة الجديدة، يتعلق بخياراتها في مجال الأطر الاستراتيجية الرئيسية الثلاثة، الأطر الحاكمة للسياسات الأمريكية الخارجية.