“إن أي موريتاني وأي مراقب للحياة العامة في موريتانيا ولو كان مغفلاً، لا يمكن أن يفوته ما شهدته موريتانيا، وتشهده كل يوم من فضائح الفساد التي كان من اللازم أن تقود لإقالة المسؤولين عنها وحماتهم وشركائهم والذين يوجد رئيس الدولة شخصيًا من ضمنهم، وتقديمهم للعدالة لمحاكمتهم على ما اقترفوه من جرائم…” بهذه الكلمات استهلت المعارضة الموريتانية بيانها الصادر بشأن تفشي الفساد داخل أروقة النظام الحاكم، والمطالبة بإقالة جميع المتورطين في هذه القضايا.
البيان الصادر بمناسبة اليوم العالمي لمكافحة الرشوة، استعرض أبرز مظاهر الفساد في موريتانيا، منذ وصول الرئيس الحاليّ محمد ولد عبد العزيز للسلطة في 2008، مطالبًا الشعب الموريتاني بالتحرك لوقف موجات الفساد المتلاطمة والتي قد تغرق الجميع حال تركها على ما هي عليه، فهل تدق هذه الحملة التي تقودها المعارضة المسمار الأخير في نعش ولد عبد العزيز؟
الفساد عقيدة نظام
يعد الفساد من المعوقات الخطيرة التي تعرقل أي جهود تنموية داخل موريتانيا، حيث تعاني جميع القطاعات من تفشي هذه الظاهرة الخطيرة، حسبما أشار تقرير الفساد في موريتانيا، والصادر عن بعض منظمات محاربة الفساد في العالم.
التقرير أشار إلى أن المشهد السياسي العام في موريتانيا يقع تحت سيطرة “لوبيات” تشترك في المنافع الاقتصادية التي تجنيها هذه الطبقة السياسية الحاكمة، لذلك باتت المحاباة والمحسوبية السمات الأكثر سيطرة على الصورة بصفة عامة.
كما تناول القطاعات الأكثر معاناة من الفساد، مركزًا على “مربع” هو الأكثر خطورة في المجتمع لما يتضمنه من مكانة لدى الشعب الموريتاني، ما يضع العديد من علامات الاستفهام، عن ترك هذه القطاعات قصعة مستباحة لخلايا الفساد الجرثومية تعشش فيها طيلة السنوات الماضية منذ تولي ولد عبد العزيز.
أولاً: قطاع القضاء
القطاع الذي يعد من أكثر مؤسسات الدولة امتلاءً للفساد ، حيث ذكر البنك الدولي من خلال استطلاع لرأي المؤسسات والشركات العاملة بموريتانيا أن نصف هذه الشركات ترى أن المنظومة القضائية تشكل تحد كبير وعقبة في وجه تطوير الأعمال في موريتانيا.
كما أن هذه الشركات والمؤسسات ترى أن القضاء غير مستقل، وأن الرشوة دائمًا تغير مسار التحقيق والأحكام القضائية الصادرة عن المحاكم، إضافة إلى أن القضايا المرفوعة للقضاء دائمًا تؤجل أو تلغى بسبب انتشار الفساد في قطاع القضاء، كذلك ترى أن النظام القضائي غير كفء بسبب عدم قدرته على فك النزاعات بعيدًا عن التدخلات الحكومية.
ثانيًا: قطاع الشرطة
يرى التقرير أنه من التحديات التي تواجه قطاع الأعمال في موريتانيا التعامل مع الشرطة، مؤكدًا أن طلب الرشوة بات سمة أساسية، خاصة داخل العاصمة وعلى نقاط العبور بينها وبين الولايات المجاورة، إضافة إلى اتهام الشرطة بعد القدرة على تأمين الشركات من الجرائم وتطبيق القانون، كما أن غالبية الشركات العاملة في موريتانيا تلجأ إلى تأجير مؤسسات أمن خاص لحمايتها، ملفتًا أن الإفلات من العقوبة في وسط ضباط الشرطة بات تحديًا كبيرًا، خاصة وأن السلطات والقضاء نادرًا ما يحققا في قضايا فساد ضباط الشرطة.
تعد منظومة القضاء من أكثر مؤسسات الدولة امتلاءً للفساد، حيث ذكر البنك الدولي خلال استطلاع لرأي المؤسسات والشركات العاملة بموريتانيا أن نصف هذه الشركات ترى أن المنظومة القضائية تشكل تحد كبير وعقبة في وجه تطوير الأعمال في موريتانيا
ثالثًا: قطاع الخدمات العامة
بات يشهد هذا القطاع فسادًا غير مسبوق، حيث يتم طلب الرشوة بشكل مستمر ممن يريدون الحصول على رخص أو تصريحات، كما أن ثلث الشركات تقريبًا تضطر لدفع رشاوى من أجل إنهاء الإجراءات الإدارية والقانونية الخاصة بها.
وطبقًا لقانون الترخيص الجديد، فإن المتعاملين مجبورون على شراء الرخص من خلال ما يعرف بـ”Patronage Network” وهو مصطلح يطلق على استخدام نفوذ السلطة لتحقيق مكاسب فردية خارج الإطار القانوني، حيث تضطر هذه الشركات للحصول على هذه الرخص بطريقة غير رسمية ولا قانونية.
رابعًا: قطاع الموارد الطبيعية
حيث يعاني قطاع المعادن والصيد من صور متعددة للفساد خاصة الرشوة والمحسوبية، ما يمثل خطورة شديدة، خاصة وأن الصيد البحري وتصدير الحديد أهم وأكبر مصدر للدولة الموريتانية.
وحسب التقرير فإن من أبرز مظاهر الفساد العميق في هذه القطاعات، أن المقربين من السلطة الحاكمة والمتعاونين معها وأقرباء الرئيس هم من يحصلون على الرخص والعقود التجارية مع الشركات الأجنبية، إضافة لذلك جميع الوظائف الحساسة في قطاع المعادن يشغلها مقربون عائليًا وقبليًا من رئيس الدولة.
وقد أسفر هذا الفساد عن طلب السلطات الأمريكية فتح تحقيق بشأن قضايا فساد في شركة “كينروس” الكندية فرع موريتانيا، حيث تقول التقارير إن هذه الشركة قدمت لشركة موريتانية تدعى Maurilog تتعاون مع شركة Schenker الفرنسية مكافأة بقيمة 50 مليون دولار، مقابل تسهيلات حصلت عليها عن طريق مسؤول مقرب من السلطات الحاكمة.
وثيقة تثبت إحدى صور الفساد في قطاعات الصيد البحري
حصر الفساد.. مسألة صعبة
المعارضة الموريتانية في بيانها الأخير، أكدت أنها كانت تود أن تجد خطوات ملموسة من قبل النظام في محاربة الفساد وتطويقه بشتى السبل، غير أن ما وقع كان عكس ذلك، حيث إن الرشوة التي تقوض أسس الديمقراطية ودولة القانون والتي تحد من جودة الخدمات العمومية وتربك حياة المواطن المواطنين، قد تحولت منذ انقلاب 2008 ومنذ وصول النظام الحالي للسلطة إلى كارثة بل إلى نمط للحكم، وهو ما جسده امتناع الرئيس ولد عبد العزيز عن الإعلان عن ممتلكاته طبقًا لما ينص عليه القانون رقم 054/2007 الصادر يوم 18 من سبتمبر 2007 والمتعلق بشفافية التسيير المالي للشأن العام، كما جاء في بيانها.
وتابع البيان: فمنذ أن وصل نظام الرئيس محمد ولد عبد العزيز للسلطة ورغم ما يعلنه هذا النظام من شعارات مناهضة للفساد، أصبح الثراء السريع بواسطة الرشوة أمرًا واقعًا يراه الجميع، حيث لم تصادق الحكومة على الخطة الوطنية لمكافحة الرشوة التي استكمل وضعها في عام 2008، إلا يوم التاسع من ديسمبر 2010، والأدهى من ذلك، أن غالبية الإصلاحات التي تضمنتها الخطة لم يبدأ تطبيقها لحد الآن، كما أن الإجراءات القليلة التي أجيزت ظلت حروفًا ميتة.
منذ أن وصل نظام الرئيس محمد ولد عبد العزيز للسلطة ورغم ما يعلنه هذا النظام من شعارات مناهضة للفساد، أصبح الثراء السريع بواسطة الرشوة أمرًا واقعًا يراه الجميع
المعارضة أكدت أيضًا أن مسألة حصر الفساد المستشري بات أمرًا أقرب للمحال، غير أنها قدمت بعض الأمثلة لصور هذا الفساد على حد قولها، منها، إنفاق النظام عام 2008، للمساعدة السعودية البالغة خمسين مليون دولار في شراء غامض للطائرات والتجهيزات العسكرية، وشراؤه الغامض كذلك لطائرات الخطوط الجوية الموريتانية، وتشييده الغامض لمطار نواكشوط الدولي، كذلك الصفقات والأشغال التي نفذت ضمن التحضير للقمة العربية التي استضافتها نواكشوط في شهر يوليو الماضي، إضافة إلى الصفقات المتعلقة بالبنى التحتية التي تنفذ خارج معايير الشفافية مثل مشروع الصرف الصحي في العاصمة، وتوسيع ميناء العاصمة، ومحطة الكهرباء التي دشنت عام 2015، وفضيحة الرشا المدفوعة لعدد من كبار المسؤولين من طرف شركة كنروس الكندية لإنتاج الذهب، كما تم ذكره سابقًا.
واختتمت المعارضة بيانها تبريرًا لما تطرقت إليه، بأن هذه الانتقادات جاءت ردًا على تقرير البنك الدولي الصادر في نوفمبر الماضي، والذي أثبت تراجع الحكومة في معدلات الشفافية، وانتشار الرشوة والفساد في قطاعات عدة في الدولة، حيث احتلت موريتانيا المرتبة قبل الأخيرة في مؤشر محاربة الرشوة في دول إفريقيا جنوب الصحراء، تليها في ذلك جمهورية تشاد.
تظاهرات تطالب برحيل الحكومة بسبب تفشي الفساد
سياسات النظام الفاشلة
حملت بعض القوى والتكتلات السياسية الموريتانية تفشي الفساد بصورة المتعددة داخل أروقة أجهزة الدولة إلى السياسات الفاشلة للرئيس محمد ولد عبد العزيز، حسبما أشارت المنظمة الشبابية لحزب تكتل القوى الديمقراطية المعارض.
من جانبه قال الأمين الدائم للمنظمة الشبابية الحسن ولد محمود، إن ما يعانيه المواطن الموريتاني من الفقر والجهل والحرمان “جراء فساد نظام ولد عبد العزيز، تجاوز كل الحدود”، مضيفًا أن المنظمات الدولية والأهلية دقت ناقوس الخطر بسبب الجفاف الذي يهدد الإنسان الموريتاني في حياته قبل الثروة الحيوانية، منتقدًا ما قال إنه غياب سياسة رشيدة للتقليل من المخاطر وتدارك الوضع قبل فوات الأوان، على حد تعبيره.
إن ما يعانيه المواطن الموريتاني من الفقر والجهل والحرمان جراء فساد نظام ولد عبد العزيز، تجاوز كل الحدود
وفي سياق متصل، قال الدكتور ديدي ولد السالك رئيس المركز المغاربي للدراسات الاستراتيجية: “إن عدم احترام القانون، وسوء استخدام الموارد البشرية هي أبرز سمات النظام الحاليّ، معتبرًا أن موريتانيا تعيش أمام غياب تام لدولة المؤسسات والنظم، وتشهد تكريسًا لسلطة الفرد، على حد وصفه.
ولد السالك انتقد خلال تصريحات له العديد من الممارسات السلطوية التي تحمل بين ثناياها مظاهر عدة للفساد، في مقدمتها ما أسماها بـ”الزيارات الكرنفالية” التي قال إنها “عادت بقوة” في الفترة الأخيرة وبمظاهر تجاوزها الزمن من قبيل التنافس “القبلي والجهوي”، وبرعاية رسمية من السلطات الإدارية في مختلف الولايات التي زارها ولد عبد العزيز.
توحد تكتلات المعارضة على رفض أي تعديلات في الدستور الحاليّ
تعديل الدستور.. القشة الأخيرة
ومن الممارسات السياسية التي ينتوي نظام ولد عبد العزيز القيام بها خلال الفترة المقبلة، إجراء تعديل في دستور البلاد من شأنه إحداث تغييرات جذرية في نظام الحكم في البلاد، وتصب في معظمها في صالح السلطة الحاكمة وعلى رأسها الرئيس الحالي.
المعارضة الموريتانية في الداخل والخارج، صعدت من مساعيها لإفشال مساعي ولد عبد العزيز لتعديل الدستور، حيث نظم المنتدى الوطني للديمقراطية والوحدة وتكتل القوى الديمقراطية عددًا من اللقاءات والندوات والمؤتمرات نددوا من خلالها بهذه المخططات التي تعكس ديكتاتورية النظام، وهو ما دفعه لاعتقال ناشطين من حركة “إيرا” المعارضة، إضافة إلى اعتقال الشيخ باي، معلنين رفضهم التام لجولات الحوار الوطني الأحادية التي يعلن عنها الرئيس ما بين الحين والآخر.
تكتلات المعارضة في مؤتمر لها مؤخرًا أكدت أنه لا يجوز تعديل الدستور إلا في ظل وضع سياسي طبيعي ومن أجل حل قضايا أساسية تعوق سير المؤسسات أو تعرقل تقدم الأمة، ما يعني أن البلاد قد تدخل نفقًا مظلمًا حال إقرار هذا التعديل بمعزل عن الإرادة الشعبية
ثماني سنوات هي فترة حكم محمد ولد عبد العزيز منذ أن أطاح بالرئيس السابق محمد ولد الشيخ في الثامن من أغسطس 2008، في انقلاب عسكري هو الثامن من نوعه في تاريخ موريتانيا منذ 1979، تعرضت فيها البلاد للعديد من صور الفساد والظلم وغياب العدالة، في ظل سياسات سعت إلى ترسيخ حكم الفرد وفقط، تخللتها موجات من الغضب سواء من المعارضة أو الجماهير.. فهل تدق مظاهر تفشي الفساد في البلاد المسمار الأخير في نعش كرسي ولد عبد العزيز؟